السرد الرومانسي الكلاسيكي: فيلم شكسبير عاشقا نموذجا
هل هناك رومانسية كلاسيكية، ورومانسية حداثية؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نناقش المصطلح ذاته، ألا وهي الرومانسية، والتي تعني الحب السامي بين حبيبين، وما يتصل به من درجات العشق والوله والتعلق، مثلما قرأنا في الروايات الرومانسية الصادرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث انتعاش المذهب الرومانسي في الأدب بشكل عال، والذي جاء مضادا للكلاسيكية التي تنتصر للعقل على حساب العاطفة، وللتقاليد ضد التحرر، وللأشكال التراثية ضد التجديد، وتنتصر أيضا للزواج التقليدي بسبله المعروفة ضد علاقات العشق التي لا تقيم وزنا للتكافؤ الاجتماعي والعمر والمستوى المادي وما شابه.
لقد جاءت الرومانسية محطمة لقيود الكلاسيكية في الأدب والفنون والحياة بشكل عام، فقرأنا قصص الحب بين الشاب الوسيم الثري وبين ابنة الخفير، أو بين ابنة الأمير وابن العامل الأجير، ولعل روايات يوسف السباعي ( 1917-1978م ) دالة بوضوح على ذلك، مثل روايتيه ” بين الأطلال اذكريني ” و ” رد قلبي ” 1954م، وكلتاهما تحولتا إلى فيلمين يحملان نفس العنوانين. ونجد في الفيلم الأول الحبيب الرومانسي مؤلف الروايات والقصص، وقد تعلق بفتاة تصغره بسنوات، وأحبها وأحبته بجنون، وهو المتزوج من سيدة مريضة لا تنجب، وتتطور الأحداث، فيموت المؤلف في مرضه وقد خطّ رواية حبه، ثم تموت الزوجة وهي تلد بنتا، وتأتي الحبيبة لتربي البنت، وتعيش مع الجد، رافضة الزواج فحبها لم يمت.
ونجد في الرواية الثانية “رد قلبي ” نموذجا لحب ابنة البرنس، لابن البواب، مع ربط هذه العلاقة بأبعاد اجتماعية وسياسية، تخص إنهاء الحقبة الملكية، بعد ثورة 1952م، وينتهي الفيلم بإعلان قيام الجمهورية، ثم زواج الحبيبين.
إذا عدنا إلى السؤال الذي افتتحنا به المقال، سنجد أن الرومانسية الكلاسيكية لها علامات مرئية عديدة، ارتبطت بالأفلام التي قدمتها، والتي نقلت تلك العلامات من الروايات المكتوبة ذاتها، مثل التمسك بالحبيب والعيش على ذكراه في حالة الفراق، والوقوف أسفل نافذة المحبوبة ليلا، والغناء لها، ثم تلقي له بمنديلها المعطر، بجانب الرسائل المكتوبة التي تحملها الخادمة أو تلقى في الشرفة معلقة بحجر، وأيضا اللقاءات العاطفية في الطبيعة الساحرة : على شاطئ البحر، في المروج الخضراء، في الحدائق، تحت الأشجار.. إلخ، وغالبا ما تكون النهاية سعيدة بلقاء وزواج، أو تعيسة بانتحار أو بالافتراق مع بقاء جذوة الحب مشتعلة، يعيش الحبيب على ذكراها، عازفا عن الزواج.
فيلم شكسبير عاشقا
يعيدنا هذا الفيلم إلى أجواء العصر الإليزابيثي في إنجلترا، حيث الحقبة الزمنية التي عاش فيها وليم شكسبير ( 1564- 1616م ) والذي كان شاعرا وكاتبا مسرحيا مرموقا في زمنه ولكن شهرته زادت في القرن التاسع عشر، عندما اكتشفه الرومانسيون وأشادوا بعبقريته وأعادوا اكتشاف أعماله خاصة من قبل الجماعات الأدبية والدرامية، فشكسبير كان غزير الإنتاج، قدم 158 سونتة، وبلغت مسرحياته العديدة 38 مسرحية والتي تمثل التراث الكلاسيكي للمسرح الإنجليزي، في حقبة المسرح الإليزابيثي Elizabethan Theatreنسبة إلى الملكة إليزابيث الأولى، ثم في حقبة المسرح اليعقوبي نسبة إلى جيمس “يعقوب” الأول ملك إنجلترا الذي تولى العرش في 1603 وتوفي عام1625م.
وعن فيلم Shakespeare in Love، فهو إنتاج أمريكي عام 1998م، من إخراج “جون مادين”، وكتب السيناريو كل من “مارك نورمان”، ” توم ستوبارد” وقد حقق الفيلم نجاح كبيراً في شباك التذاكر حيث حصد أرباحا زادت عن 250 مليون دولار، وحصد سبعة جوائز أوسكار من ضمنها أفضل فيلم وأفضل ممثلة لجوينيث بالترو أوفضل ممثلة مساعدة لجودي دينش.
تدور أحداث الفيلم في القرن السادس عشر مصورا قصة حب بين وليام شكسبير وإحدى النساء الثريات والتي تلهمه لكتابة إحدى أهم أعماله روميو وجولييت.
إن البناء السردي في قصة الفيلم يأتي على مستويات عديدة، دالة على الإبداع:
أولها : المستوى الخيالي، فالقصة برمتها خيالية على الرغم من وجود شخصيات مبينة على شخصيات تاريخية حقيقية، فلم يشر تاريخ وليم شكسبير إلى وقوع مثل هذه القصة في حياته، خاصة أن تفاصيل حياته الخاصة حولها الكثير من الغموض، فقصة الفيلم اتخذت من شخصية شكسبير وإبداعه وعصره إطارا من أجل تقديم تلك القصة، وهذا أمر مباح في إيهام الأفلام، ونعده فكرة جديدة في التعامل مع الشخصيات الإبداعية التاريخية، بأن تكون بناء خياليا افتراضيا، حاويا في طياته قصة حب عنيفة، مع الحرص على الإمعان في الإيهام بالواقع، مثلما وجدنا صانعي الفيلم ( السيناريست والمخرج ) في ذكر شخصيات حقيقية عاصرت شكسبير، وساهمت في صنع القصة معه، الملكة اليزابيث إلى رجالها في البلاط الملكي، ورأينا مدير مسرح “روز” الذي أغلق أبوابه بعد اكتشاف امرأة بين الممثلين فيه، لأن القانون الإنجليزي كان يمنع في ذلك العصر مشاركة النساء في التمثيل في هذا العصر، ويقوم بدور النساء ممثلون رجال. إنها قصة تعود بنا إلى أجواء القرن السادس عشر، وظروف المسرح في تلك المرحلة من تاريخ المملكة المتحدة، وايضاً حكاية فتاة رومانسية مختلفة عن بنات جيلها،و يتم تحضيرها قسرا للزواج التقليدي من رجل ثري مقرب من الملكة في صورة الغريم التقليدي في السينما.
ثانيها : إنها قصة تولّد قصة، أي قصة حب حقيقية يفترض أن شكسبير قد عاشها كي ينتج قصة حب يصوغها في مسرحيته الجديدة “روميو وجولييت “، التي لم يأته إلهام يشعل شرارة الإبداع لديه. كان شكسبير وقتئذ شابا يافعا وسيما، يعيش قلقا وترقبا، ويواجه عددا من المصاعب، أبرزها صعوبات مادية بسبب واقعة بيعه لأحد نصوصه لشخصين في وقت واحد، وكي ينجو من هذه الأزمة ؛ وعدَ أحد المشتريينِ بكتابة نص مسرحي جديد، لذا فهو بحاجة إلى إلهام يفجر الإبداع في أعماقه، وكانت المفاجأة بلقائه ذات يوم بالصبية الفاتنة هي فيولا دي ليسيبس، عاشقة المسرح، وعاشقة أعمال شكسبير وحافظة لأشعاره وسونيتاته، إلا أنها لا تستطيع الاقتراب من عالم المسرح بوصفها ابنة أسرة ومجتمع تقليدي، ولهذا تضطر الى التنكر بزي رجل كي تلتحق بفريق المسرحية كممثل رجل، وكي تقترب من شكسبير الذي يعشقها. ومع الانغماس في الحب، بدأ النص المسرحي يتخلق يوما بعد يوم، ممثلا في روعة النصوص الشعرية المعبرة عن الدراما العاطفية، وقد حفظتها فيولا معه ورددها كلاهما في خلواتهما، فقصة الواقع المفترضة يولد خيالا دراميا وشعريا.
أيضا، في الفيلم كم من الحكايات المتداخلة، وتتطور تلك الخطوط لتشكل البناء الدرامي لذلك الفيلم المشبع بالصور والشخصيات الثرية، ما بين صاحب الفرقة المتعجرف واستغلاله لأزمة شكسبير المادية، ومظاهر قلق المبدع الشاعر، وتحكمات الأهل، ومواقف الملكة إليزابيث نفسها، ورهانها مع ” ويسيلكس ” الزوج على أن فيولا تعشق شكسبير، وأنها أقامت علاقة جنسية معه فهي ليست بعذراء، وكانت قيمة الرهان خمسين جنيها، وقد كسبت الملكة الرهان، وحضرت العرض المسرحي بنفسها، وشاهدت فيولا وشكسبير على المسرح يتغنيان بالأشعار، ويمثلان عشقا عاشه الاثنان واقعا، وحفظا أشعاره معا، إلا أنها في النهاية تأمر فيولا أن تذهب مع زوجها المختار وترحل معه لأمريكا، لتنتصر التقاليد الاجتماعية على قصة حب مثالية، ويعود شكسبير إلى قلقه الإبداعي، غير متناس لآلام عشقه، ولا لتلك التجربة الثرية التي أثمرت نصا خالدا، نتغنى بشعريته إلى يومنا.
ثالثا : إن البنية السردية للفيلم قدمت جماليات الحب الكلاسيكي بكل تفاصيله، وبكل ما قرأناه مرارا في أعمال شكسبير الخالدة، خاصة في مسرحية روميو وجولييت، وتجلت المظاهر الكلاسيكية في اللقاءات الحميمية بين الحبيبين، وفي تمرد فيولا على زوجها المختار من قبل العائلة والمتوافق مع تقاليدها ومكانتها الكبيرة، لتترك فيولا هذا الزوج، وتلحق بالحبيب الشاعر، تقابله خلسة في بيته أو في المزارع والبساتين، أو بجانب النهر، أو على شاطئ البحر. ونجد علامات بصرية عديدة مثل الزهور المرسلة في طيات الورق، والمنديل المعطر الملقى للحبيب، والغناء أسفل النافذة، ومناجاة القمر والنجوم، والترنم بالأشعار العذبة، ومشهد شرب السم على المسرح، وكلها مشاهد باتت مألوفة في قصص الحب وأفلام الرومانسية، وأبرزها مشهد شرب السم، والانتحار الثنائي بين الحبيبين، وكم كانت نهاية الفيلم رائعة، حيث جاءت بقصيدة صاغها شكسبير وضمنها نصه المسرحي، يتحدث فيها عن إخلاصه الأبدي في الحب، وإغراقه لنفسه في اليم.
لقد اعتمد المخرج في تصوير الفيلم على المنظر البانورامي والذي هو نوع من التصوير العريض المستهدف زاوية عريضة / أفقية نوعاً ما، ومن ثم يتم التصوير بعدة طرق منها استخدام عدسات خاصة ذات زاوية عريضة أو تصوير المنظر على أجزاء، وإعادة تركيبه، وبعد تصوير المشاهد المطلوبة يقوم بفتحها بواسطة أحد البرامج الخاصة واختيار خاصية الدمج حتى يتم دمج جميع الصور في صورة واحدة عريضة، وقد لجأ إلى هذا إمعانا في تقديم تفاصيل المشهد المادية، كي تحيط عين المشاهد بكل دقائق الديكور، خاصة أنه يعبر عن حقبة قديمة موغلة في التاريخ، وكي يتم إشراك المتفرج في مشاهد صغيرة وتفصيلية من مواقع عدة، وقد استمر في المخرج في هذا الأسلوب حتى القسم الأخير من الفيلم، ومن ثم ينقلب ليغير الايقاع ويحضنا على الجري وراء الحدث على طريقة الفيلم التسجيلي، من أجل توثيق الحدث المسرحي، المتمثل في أداء العاشقين : شكسبير وفيولا للمسرحية على خشبة المسرح، وأمام جموع النظّار الذين بكوا عند المشهد الختامي المؤثر.
يمكن القول إن فيلم شكسبير عاشقا يمثل إعادة تقديم للعلامات البصرية الرومانسية في حقبتها التقليدية، والتي قد نسخر منها، إذا استعدناها من جديد في زمن العولمة، ولكنها بلاشك تعبر عن حقب وملامح ونصوص، حُفِرَت في التراث الأدبي العالمي، وذلك من خلال أحد صناع الرومانسية الأساسيين ألا وهو وليم شكسبير نفسه، وبدلا من إعادة عرض ” روميو وجولييت ” برؤية درامية ما، آثر صناع الفيلم أن يقدموا مغامرة تشمل المؤلف ومعشوقته والنص،والواقع والمتخيل الدرامي، ليمتزج الواقع بالخيال، ولندرك أن المسافة بينهما قصيرة وقد تتلاشى.
فإذا طرحنا السؤال من جديد عن أسباب استعادة مثل هذه الأحداث، فستكون الإجابة أن الإبداع السينمائي يتألق عندما يقدم قراءة إبداعية مختلفة، متجاوزة فكرة التوثيق التاريخي الذي قامت به المراجع التاريخية وأفلام كثيرة سابقة عرضت مرات لا حصر لها لحياة شكسبير ومسرحياته، ليكون المستهدف في النهاية ما يمكن أن نسميه ” النسج الإبداعي لنص درامي خالد، برؤية جامعة بين المتخيل والواقع “.
* باحث وأكاديمي من مصر مقيم في الكويت