الرغبات الإنسانية والمصائر المتباعدة في “حكاية الحكايات”
يستلهم المخرج الإيطالي ماتيو غاروني فيلم “حكاية الحكايات” الذي عرض ضمن فعاليات الدورة الـ68 من مهرجان كان الدولي الحالي، والذي كتب له السيناريو بالاشتراك مع ثلاثة من كتّاب السيناريو الإيطاليين، من كتاب “الحكايات الخرافية” للإيطالي غيامباتستا بازيلي الذي كتبه في أوائل القرن السابع عشر، مستلهما فيه قصصا شبيهة بقصص ألف ليلة وليلة، ولكن بتركيز أكبر على الغرائبيات والعجائب التي ستسود في ما بعد عالم كتاب الخيال في الغرب لقرون قادمة قبل أن يظهر بالطبع عالم “الخيال العلمي”.
هذا هو الفيلم الأول الناطق بالإنكليزية للمخرج الإيطالي، وإن كان الإنتاج قد تم في إيطاليا وفي مواقع حقيقية بمدن وبلدات عدة مثل روما وميلانو ونابولي وصقلية وفلورنسا وغيرها، مما يضفي على الفيلم المصداقية الشديدة لدرجة أن الكثير من المشاهدين لن يصدقوا أن هذه الأماكن التي تبدو كما لو كانت تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، هي أماكن موجودة وقائمة حتى يومنا هذا بما في ذلك القلاع والقصور الغريبة والتضاريس المتوحشة والكهوف الجبلية وغيرها.ومع ذلك فمن المؤكد أيضا أن مصمم المناظر قام بعمل عظيم في جعل تلك المواقع تتلاءم مع الأجواء الأسطورية الخرافية التي تدور فيها القصص الثلاث التي اختارها غاروني من الكتاب المذكور، والتي تدور حول الملوك والأميرات والحيوانات الأسطورية والكائنات التي تنتمي إلى العصور السحيقة والتي أنعش وجودها أدب الخيال الذي كان الأطفال، جيلا من بعد جيل، يتربون وهم يستمعون إليه ليلة بعد ليلة.
جنسيات مختلفة
يستعين المخرج هنا بطاقم من الممثلين متنوعي الجنسيات وإن كانوا يتحدثون جميعا باللغة الإنكليزية، ضمانا لتوزيع الفيلم على نطاق واسع وبوجه خاص في السوق الأميركية. يشترك في البطولة هنا: سلمى حايك وجون ريلي وتوبي جونز وفنسنت كاسيل. ويروي الفيلم ثلاث قصص تتداخل وتتقاطع معا حول ثلاثة ملوك، الأول ملك زوجته لا تنجب (سلمى حايك) رغم كل ما يبذله الزوجان من محاولات، وهي تجلس في المشهد الأول من الفيلم تشاهد عرضا هزليا لمهرجي البلاط وتبدو بعينيها الفاتنتين اللتين تحملان كل شقاء العالم، الوحيدة من بين الحاضرين التي لا تضحك، ثم تغادر القاعة لكي تدخل في نوبة من اليأس والتذمر والغضب الشديد. زوجها الملك (جون ريلي) يسترضيها بشتى الطرق، ثم يظهر لهما رجل طويل يرتدي عباءة سوداء وقلنسوة، ربما يكون عرافا أو ساحرا (في لحظة ما أيضا يمكننا أن نتخيل أنه قد يكون ممثل القدر نفسه). يعرض عليهما الرجل حلا للمشكلة، أن يهبط الملك بنفسه متسلحا بسيفه إلى قاع البحر لقتل الوحش الضخم الموجود في القاع، ثم يستخرج قلبه ويأتي به للملكة لكي تأكله على أن تقوم بطهيه لها فتاة يجب أن تكون عذراء. وفي المقابل يحذرهما من أنه مقابل كل مولود في العالم، هناك شخص يموت، ضمانا لإحداث التوازن في العالم، أي أنه مقابل كل حادث سعيد هناك حادث سيء يقع في مكان ما.
يرتدي الملك ملابس الغطس ويهبط بسيفه ويتمكن بالفعل من تحقيق المراد والعودة بكبد الوحش البحري، ثم تستدعى فتاة من المطبخ الملكي لطهيه وتقديمه إلى الملكة التي تأكله، ويحدث بعد ذلك الحمل الذي يستمر ليوم وليلة فقط، ويولد طفل من نوع “الألبينو” الأشقر في نفس الليلة التي يحملون فيها الملك إلى قبره، بعد أن يتوفى متأثرا بجراحه التي أصيب بها خلال عراكه مع وحش البحر.
هذا الطفل الوليد الذي يصبح محل عشق وهيام والدته الملكة، يولد معه في نفس الليلة طفل آخر يبدو وكأنه توأمه المتطابق معه في الملامح والشكل، تلده الفتاة التي قامت بطهو كبد الوحش. ويصبح بالتالي لدينا ولدان: واحد ينتمي إلى العائلة الملكية، والثاني إلى أسرة فقيرة من الخدم. ويرتبط الولدان معا برباط وثيق كأنهما شقيقان، وتسعى الملكة بكل ما أوتيت للتفرقة بين ابنها وذلك “الآخر” الذي تنظر إليه على أنه من عالم مختلف. وكأن الملكة بذلك الإصرار تتحدّى القدر نفسه. غير أن الابن يتشبث به فلا تجد الملكة مفرا من محاولة قتله، لكنها تفشل ويدرك هو أنه غير مرغوب فيه، فيرحل رغم توسل “الأمير” له بأن يبقى إلى جانبه… ولكن هل سيستمر الفراق طويلا؟ القصة الثانية تدور حول ملك (توبي جونز في أداء مميز) لديه ابنة وحيدة يدللها ويلبي كل طلباتها، لكنها تكبر وتحلم بالزواج من شخص يتمتع بكل الصفات الجيدة في الإنسان، تريد عريسا ذكيا شجاعا شهما حنونا.
أبوها الملك يصاب بحالة غريبة يفشل معها الطبيب في العثور على حل؛ فهناك برغوث يطارده من يده اليمنى إلى اليسرى، يلتصق به لا يريد أن يفارقه، لكنه يتمكن بعد جهد جهيد من اصطياده وحبسه داخل علبة زاجية. هذا البرغوث ينمو ويكبر ويتحول إلى كائن أسطوري يسير على أربعة سيقان مفصلية، يبدو مثل سلحفاة ضخمة ولكن بأربع سيقان مفصلية ووجه مزعج، وهو يتغذى على اللحم الذي يقدمه له الملك ويراقبه باستمتاع، ويصبح مثل كلبه الأليف، لكن منظره يثير القشعريرة في الجسد. والملك يخفي أمره عن الجميع بمن فيهم ابنته. وعندما يموت هذا الكائن يحزن الملك عليه حزنا شديدا، ثم يسلخ جلده ويعلقه فوق جدار ويقيم مسابقة بين شباب البلد في التعرف على طبيعة هذا الجلد وإلى أي نوع من الكائنات ينتمي. على أن يكون الناجح في المسابقة هو العريس الذي سيزوجه لابنته. ما يحدث أن كل فتيان البلد الصالحين يفشلون في التعرف على جلد البرغوث، باستثناء كائن متوحش همجي عملاق (غول حقيقي!) هو الوحيد الذي يتشمم الجلد فيتعرف عليه. ويطالب الغول هذا بالأميرة زوجة له، فلا يملك الملك سوى أن يستجيب وسط توسلات الأميرة وبكائها واحتجاجها… ولكن الملك الأب يقول لها بإصرار إنه ليس ممكنا أن يتخلى الملك عن تعهده. تمرّ أحداث كثيرة بعد أن يحمل هذا الكائن الأميرة إلى كهفه في أعالي الجبال، وقبل أن تتمكن من العودة لتلقين والدها درسا.
القصة الثالثة تدور حول ملك شهواني (فنسنت كاسيل) يغويه صوت خادمة عجوز قبيحة المنظر، تقيم مع شقيقتها التي لا تقل عنها قبحا في حجرة وضيعة. يستمع إلى غنائها ذات يوم فيتصور أن صاحبته لا بدّ أن تكون شديدة الفتنة والجمال.
يطرق بابها، يلح عليها أن تلحق به، هو الملك الذي لا يمكن لأحد أن يعصى أمره، ولكن كيف ستظهر له المرأة وهي على هذا النحو من البشاعة. أخيرا تقبل أن تلحق به في مخدعه ليلا شريطة إطفاء الأنوار. وفعلا يحدث هذا، ولكن شغف الملك بالمعرفة يدفعه إلى الكشف عن وجهها في النور، لكي يكتشف الخدعة التي وقع فيها فيأمر بإلقائها من نافذة حجرته فورا، لكنها تسقط ليتعلق جسدها بشجرة إلى أن ينقذها ساحر يعيد إليها الشباب والرونق، فتصبح فتاة شديدة الفتنة والجمال والسحر، يراها الملك خلال رحلة صيد، فيقرر أن يتخذها زوجة له. وتدعو هي شقيقتها العجوز إلى حفل الزفاف. وتتطلع الشقيقة القبيحة إلى شقيقتها وهي مبهورة بجمالها، ترفض أن تغادر القصر، ثم تذهب لتبحث عن أي وسيلة لاستعادة الشباب والرونق إلى جلدها المتشقق، لكن الأمر ينتهي بمأساة. هذا فيلم عن شهوة الإنسان وتطلعه إلى أن ينال ما يرغب فيه ويريد؛ أن يغير واقعه (بالزواج أو بالإنجاب أو باستعادة الشباب المفقود).
إنه لا يقنع أبدا بما أعطاه الله بل يصرّ على تحقيق مأربه، متطلعا إلى الكمال كما يتصوره (الزوج المثالي الذي يندر وجوده مثلا)، ولكنه أيضا فيلم عن قسوة القدر، فمقابل كل شيء نحصل عليه هناك كما يقول ذلك العراف أو ممثل القدر، شيء نفقده. وهذه هي حكمة الفيلم وفلسفته التي يسوقها عبر حكاياته الثلاث، التي يستعيد من خلالها ماريو غاروني التقاليد التي عرفت بها السينما الإيطالية في الستينات، من خلال أفلام المغامرات والأبطال والكائنات الخرافية مثل ماشيست وهرقل وأورسوس، التي تقوم كلها على حكايات من الماضي، فيها من التاريخ ومن الحقيقة بقدر ما فيها من الخيال. فلا شك أن هناك الكثير من الجوانب “الواقعية” في تكوين الشخصيات والأحداث في فيلمنا هذا، مثل المرأة التي ترغب في استعادة الشباب والجمال، وتلجأ إلى من يمكنه “تصغير” جلدها أي انتزاع الأجزاء الزائدة فيها، بل ونحن نراها أيضا في مشهد سابق، وهي تقوم بعمل مشابه لشقيقتها عندما تمسك الأجزاء الزائدة المترهلة من الجلد وتعيد لصقها، حيث تجعل الجلد مشدودا أكثر على العضلات، في إشارة إلى ما نجده اليوم من توسع كبير في عمليات التجميل. وهناك أيضا الملكة الحزينة الكسيرة بسبب عدم الإنجاب، والتي تلجأ إلى السحر وتخضع له من أجل تحقيق غرضها، أليس هذا موجودا حتى يومنا هذا في بلادنا وغيرها؟ وهناك الفتاة التي تضع شروطا قاسية لعريس المستقبل، في حين أنها لا تتمتع بأي قدر من الجمال، بل كل ما تملكه هو ثروة والدها الملك وسطوته، فيصبح مكتوبا عليها أن تتزوج مسخا قبيحا.
عمل متكامل
الفيلم يبدو متكاملا من جميع الزوايا، ممتعا بديكوراته وأجوائه الباروكية، واستخدام المصور للضوء والزوايا الغريبة، وبحركة الكاميرا التي تحاصر الشخصيات وتطاردها وتقترب منها أو تبتعد عنها، في سياق بصري ممتع وأخّاذ. كما نرى مثلا في المشهد الذي تطارد خلاله الملكة شبيه ابنها لتقتله داخل قاعة تحت الأرض مليئة بجثث الحيوانات الذبيحة التي تتدلى من السقف، في إضاءة معتمة، مع وجود تجاويف متعددة في الجدران، كما يبدو المشهد مصورا على ضوء الشعلة التي تمسك بها الملكة وتتحرك معها الكاميرا مع تحركها داخل الديكور الغريب، مما يخلق انعكاسات ضوئية تعبيرية وسط الظلام، تجعل المشاهد يشعر بأنه انتقل إلى عالم مخيف. إضافة إلى الإخراج الواثق المتمكن والقدرة التي لا شك فيها على تحريك الشخصيات والمجموعات وضبط الإيقاع داخل المشهد الواحد وعلى مدار الفيلم كله، والانتقال بين القصص والشخصيات المختلفة، واستعادة أجواء الأساطير السينمائية الشهيرة، تبدو كل العناصر الفنية الأخرى في الفيلم شديدة الإتقان والتأثير: التصوير والديكورات والملابس والإكسسوارات والماكياج والمؤثرات الخاصة بالطبع التي لا غنى عنها، والموسيقى. ورغم واقعية معظم ديكورات الفيلم، إلاّ أن المشاهد يتطلع إلى الصورة كما لو كان يطالع كتابا مصورا من كتب الحكايات الأسطورية، وربما يكون هذا أسلوبا مقصودا لإضفاء طابع خاص على الفيلم لا يمكن إغفاله. لا مجال للحديث الآن عن توقعات الفوز في “كان”، لكن الفيلم لا شك أنه سيظل عملا مرموقا في سياق أعمال مخرجه.