الرأسمالية والكادح…قصة حب فاشلة في وطن الأكاذيب الكبيرة

يبدأ فيلم “الرأسمالية: قصة حب”Capitalism, A Love Story ، بمَشَاهد حية تلتقطها كاميرات المراقبة لعمليات سطوٍ وسرقات ونهب المال من طرف سُرّاق في البنوك وغيرها من المحلّات، وبذلك يستغني مخرج الفيلم مايكل مور عن استعمال مشهد يسبق شارة البداية –كما عوّدنا في أفلامه السابقة- ليكون ماسكة للجمهور عبر صناعة الاستعراض المشوق لمتابعة أحداث الفيلم، ولكن التعبير عن المحتوى لا يزال ميزة عند مايكل في صناعة جينيريك –شارة بداية ونهاية الفيلم- معبّر عن النهب الذي يرتبط بإيديولوجية الرأسمالية التي جعلت الإنسان ماديا بامتياز.

 وكأن المُخرِج مصرٌّ منذ الوهلة الأولى على جعل السرقة والاختلاس مدلول لدال واحد وهو كلمة الرأسماليّة، التي تعتبر شارة البداية فيها وظيفة تجمع شخصيات ولقطات كلها تصب في فاعل واحد، فتؤدي بذلك مهامها الرمزية رغم أن الفيلم وثائقي يعتمد الأنواع الصحفية المختلطة كالريبورتاج والمقابلات وغيرهما.

 وتدلّ مشاهد الفيلم منذ الوهلة الأولى على صفة الّلصوصية التي يبني معها النظام الأمريكي المعاصر.. إنها قصة حب راسخة، فالفيلم الوثائقي يبدأ بمقطع من فيلم روائي قديم حول إمبراطورية روما القديمة، ويتمّ ربط أرشيف الفيلم الذي يتحدث عن روما بمقاطع فيديو لحياتنا المعاصرة المتمثلة في استعراضٍ لمعالم الأنساق المزخرفة التي نعيشها، والتي تعبر عن المضمر النسقي لواقع السياسة العالمية المعاصرة، كما وظف العروض الغنائية الخليعة، وصور ألعاب الكازينوهات التي تبدد المال، والعنف واستغلال الناس في الأعمال – الشاقة ، مقابل المتنعمين من المرفهين أعضاء مجلس الشيوخ.

وتبقى الحرب على الإرهاب حجتهم فـي البقاء عـلـى عرش السلطة، ثم يـقـوم مايكل مور بـاعتمـاد الـمقارنـة أو بالأحرى المطابقة بين عصرين، بين الإمبراطورية الرومانية التي تدفع الشعب نحو عروض التسلية والترفيه الفارغة من العمق، مثل السيرك، والمصارعة القاتلة، ومسرحيات ضعيفة البناء والمحتوى، وبين المجتمع الرأسمالي الحالي الذي هو روماني استعراضي وليس إغريقيا متفلسفا، يمجد التفاهة والسطحية على حساب العمق والوعي الفلسفي، وبعد عرض لقطات ساخرةٍ لقطط في المراحيض يبدأ الفيلم بمشهد مؤلمة لطرد فقراء من البيوت التي لم يتمكنوا من تسديد تكاليفها، فهذا المشهد حي وقاص جد.

ويستعين مور في هذا المشهد بأرشيف الفيديو الهاوي للضحايا، فيُظهر عملية اقتحام الشرطة منزلهم من أجل طردهم بدم بارد، وتبدأ الموسيقى الهرمونية الحزينة بالتصاعد بعد اقتحام الشرطة، وهكذا عوَّدنا مور مواجه قسوة الحياة المعاصرة بثبات، رغم شدة الصورة الصادمة التي يتبعها استعراض لواقع المتضرر الذي يمثل الطبقة الوسطى الآيلة إلى الانقراض في زمن الرأسمالية الأمريكية المتوحشة، فهناك الأغنياء والفقراء فقط،.

وهذه إحدى شخصياته في مشهد حزين يلملم خلاله متاعه وأسلحته النارية الخفيفة، وهو مستسلم لحاله الكئيب، وبهذا المشهد يقول مور في تعليقه: “هذه هي الرأسمالية، النظام الذي يعطي ويأخذ”، وبذلك يتمكّن مايكل من تعرية الواقع الفعلي للرأسمالية كما يراها هو، عبر مشهد حقيقي لكنه في الآن ذاته رمزي ودرامي بامتياز وهكذا هـي أفلام مور، الـتـي تزاوج بـيـن الوثائقي ومكونات السرد الـروائـي والدرامي، ليصنع من الرجل العادي بطلا نتفاعل معه إيجابيا، ونقيد بطل ننساق خلف معاداته بحكم الصنعة السينمائية التي يواصل مور تعزيزها بأسلوبي الريبورتاجات والمقابلات مع الناس، فهذا عامل مهمته التسويق للمباني والشقق على الطريقة الرأسمالية، هذه الأخيرة هي نظام الاقتصاد الحر الذي يتساءل مايكل عن كنهه بأسلوب فكاهي، وكأنه يبني نصا من بنات أفكاره من خلال عملية الكولاج بالقص واللصق لمشاهد متفرقة من الأرشيف، وصولا إلى تقويل الأرشيف ما لم يقله أصلا، وبهذا النسق الفني يُعرِّف الرأسمالية بوصفها المنافسة –غير النزيهة.

نحن رقم واحد؟

 لا يريد مور التبسيط والتهكم لغرض التسلية فقط، بل هدفه الوصول إلى اتهام الرأسمالية –التي تدعي أنها رقم واحد في كل شيء؟- ويراها تهديدا لسلامة الناس وأمنهم، فما هو سبب كثرت حوادث الطيران في أمريكا يا ترى؟ هذا هو النظام الاقتصادي؟ فتصبح نتيجة الاستدلال المنطقي الذي يعرضه سينمائيا، هو كون النظام الاقتصادي في أمريكا الشمالية القائم، يضغط على العامل –مصدر الثروة الحقيقي- إلى الإجهاد المهني –لزيادة دخل مالك المؤسسة المتسلط- وبهذا يفسر مور الأخطاء المهنية الخطيرة، التي تصل إلى درجة إزهاق أرواح بريئة، كذلك الطيار الذي يتقاضى أجرا ضئيلا جدا مما يجعله يكثف العمل وهذا ما يصل به حتما إلى التعب الذي ينتج عنه الكوارث الجوية، فهل يمكن العيش بأمان تحت لواء الرأسمالية المأمركة؟

طبعا يأتي دور صناديق الضمان الصحي والاجتماعي المُخوصصة كحل لضحايا ذلك الخلل المهني، لكنها عمليا تسعى جاهدة لتَحرِم المستفيد الشرعي من مستحقّاته لأتفه الأسباب، فلا يمكنك الاستفادة من الخدمات الصحية إلا إذا كنت مؤمن التأمين المناسب، فقيمة الإنسان تثمن بمال التأمين الصحي، وبذلك لم يفوت مايكل مور أي جزئية إلا وتطرق إليها ليحاصر الـحـلـم الأمريكي ومن كل جهة، حتى البعد العقدي في مقابلة مع أب كاثوليكي يعارض الرأسمالية ويراها شرّ مطلق، ونفتح قوسا حول هذا المشهد للإشارة بأن مايكل يلجا حاليا إلى الفوارق المذهبية في الدين، وهذه سابقة في أفلامه، حيث أنه يقدم لنا رأي رجل دين كاثوليكي رافض للرسملة في مقابِلِ البروتستانتي، الذي يرى هذا النظام في جوهره مصداقا للمعتقدات المسيحية الراسخة التي نفهمها “بالأخلاق البروتستنتية” لــماكس فيبر.

انقلاب أمريكي بحت

  بأسلوب ماكر وساخر يربط مور بين فارق الطبقات وحرية الاقتصاد في المفهوم الرأسمالي، ويبدأ بالبحث في الميثاق الوطني الأمريكي، فلم يجد إشارة مباشرة للرأسمالية كضرورة حكم، فهل الرأسمالية هي مصداق الديمقراطية التي تنادي بها الولايات المتحدة الأمريكية؟ وبذلك هاجم الرأسمالية بالبرهان الديني والاتهام بالانسلاخ الحس الوطني، بدليل أن حتمية الإيديولوجية الرأسمالية غير مدونة في الميثاق الوطني الذي يقرؤه أمامنا في متحفهم المشهور.

ومع ذلك يعترف مور بتجذر ترابط الديمقراطية بالرأسمالية في ذهنية المجتمع الأمريكي، وانصهار الكل في جسد الأمركة، ثم يتجه إلى الجامعة عسى أنه يجد تفسيرا للمعادلات الرياضية الاقتصادية الغامضة، إلا أنه يفضح علماء الجامعات عبر تصوير إخفاقهم في تفسير المعادلات وتبرير ضرورتها، وبلغة سينمائية تعتمد المونتاج السريع الذي يقوم على متجاورات قصيرة في مدّتها تقدم في كل مرّة شخصية سياسية أو وجاهة تكرّر الكلمة ذاتها، ولأن التكرار من أدوات الحفظ والترسيخ، استطاع مور دعم فكرة معينة في أذهان المُشاهِدين، ألا وهي كون كل شيء خاضع للتلاعب بالبسطاء بحكم جهلهم وتسليم عقولهم لمؤسسات تدعي المعرفة لكنها ليست سوى قناع دعائي لإيديولوجية ضارة.

الأمة الغبية

  يصور لنا مور أسرة تقطن داخل شاحنة، والمفاجئة التي أفرحتهم وحمست المُشاهِد لإمكانية التغيير كانت بحصول هذه العائلة المعوزّة المكونة من الأفارقة الأمريكان السود البشرة في أغلبهم على بيت، لكن سرعان ما يأتي أحد عملاء البنوك للاستحواذ على فرحتهم، وهكذا تستمرّ الأزمة ويعيش الناس في الشارع، وبـهـذا ينقلنا مـور نقلةً مصعدية ترفعنا عـالـيـة لـتـحـط عزائمنا فـي سـقوط حـر متسارع بعد ذلك، مما يجعلنا نتشاءم من إمكان التغيير في ظل القيادة الجديدة المتمثلة في الرئيس باراك أوباما.

وبهذا يبدأ حراك المتذمّرين من عمال ومستضعفين بمساندة مور الملتزم في مشهد ثوريضد بنك فور أميريكا، ويعود الخطاب والوعظ الديني بشقه الايجابي المتمثّل في تأييد وتسديد مسار المحتجين، ويَحْضُربعض النواب لإمضاء المساندة، فلا يمكن التصدّي لمحاولات الرأسمالية في تحطيمها البنية التحتية للفقراء إلا بالتكاثف الجماهيري حسب مور الثائر، فيضرب مثالا على ذلك بالتطرّق لاستبداد ساسة شركة شيفروليه في ميشيغان.

وجاءت ردّة فعل العمال ضد ذلك العدوان بحركة شاملة أدّت بالرئيس روزفلت حينها -وبعد عدم تمكن آلة قمع الشرطة من توقيف الحراك الشعبي- لإلقاء خطاب رسمي جريء في لهجته، يقرّر خلاله اتخاذ قرارات شبه راديكالية في صالح العمال، ومات روزفلت تاركا خلفه نُظُمًا تضمن العيش الكريم للمواطنين، لكن جاءت الفيضانات والكوارث لتسحق كل شيء.

وهنا يقتحم مور البطل من جديد الساحة عبر مبادرة ميدانية جريئة، تتمثّل في لفِّ شريط على مؤسسة بنكية كرمز لنبذ وحصار الرأسمالية الشريرة، لكنه لا يستطيع فعل الكثير برمزيته تلك لتبديل الأمر، فالتغيير مهمة ترجع على عاتق كافة الجماهير. وكان مور بذلك الفعل متنبّئ بالثورات الشعبية التي ما لبثت أن التهب فتيلها، وتأتي قراءة مايكل للوضع الاقتصادي العالمي صائبة.

مما يجعلنا نقرّ بأن قراءة أفلام مايكل مور تنبؤ بمصير حكام الولايات المتحدة وساسة العالم، بين أن يصححوا مسارهم ليستمروا، أو يبقى الأمر على حاله ليفتح مجالا لتخلي الشعوب عنهم، لأن الفقراء أكثر نفرا من الأغنياء، وبما أن هذا النظام يخدم الأغنياء فقط بحسب طرح مايكل مور، فإنه يأتي الزمن الذي يتكتل فيه الفقراء لخوض حرب بدون هوادة لاسترجاع كرامتهم التي تداس من طرف أرباب المال، وجشع الشركات بتواطؤ السياسة وتردي الموقف الديني حيال ما يجري.

لكن نقاط ضعف هذا الفيلم تكمن بالدرجة الأولى حسب رأيي في طغيان التحليل الذهني النظري من جهة، وكثرت الاستعراض الساخر من جهة أخرى، كما أن الواقع أثبت أن الرئيس دونالد ترامب تأكيد على أن الواقع على حاله ولن يتغير أي شيء، وهذا ما يدفعني بحماس لمشاهدة فيلم مايكل مور الجديد فهرنهايت 2018، لمعرفة وجهة نظر الفيلم إزاء ما آلت إليه الدولة الأهم في عالمنا المعاصر، والتي تؤثر سياساتها الخارجية في واقعا العربي المتردي.

*  ناقد من الجزائر

Visited 91 times, 1 visit(s) today