الدراما التليفزيونية: تسقط المدينة الفاضلة

وأخيرا “شهد شاهد من أهلها”، والشاهد هو الرئيس “عبدالفتاح السيسي” شخصيا، وموضوع الشهادة هو سوء وانحدار الدراما المصرية، وهو ما لاحظه السيد الرئيس في أهم موسم للدراما وهو شهر رمضان 2025.

وإذا كانت ملاحظة السيد الرئيس صحيحة تماما، وإذا كنا نشكره عليها، وتثبت أن الرئيس عينه على الشعب، وأنه يعمل بمنطق يد تعمل ويد تحمل السلاح، رغم ذلك فهذه الشهادة تشير لوجود خلل في كل الأجهزة المعنية بالدراما، وأن مسئوليها يفتقدون الخبرة اللازمة، أو أنهم غير أمناء على عملهم، ولا على المواطن الذي يكسبون من ورائه مئات الملايين من سلة عملات العالم، وإلا فما معنى الاتجاه الفوري لتشكيل لجان تنبثق منها لجان، بعضها سيتبع رئيس الوزراء شخصيا!

ونتمنى ألا يكون ذلك مجرد زوبعة في فنجان، والموظفون المصريون وراءهم في هذه النقطة خبرات “الدولة العميقة” إياها، هذا المصطلح الذي لم ينعكس مجسدا في شئ، إلا في الفساد، وخلق الروتين، ولي عنق القوانين وإيجاد ثغرات فيها تنزع منها أنيابها والمخالب وتصبح قوانين وديعة مسالمة مستأنسة مثل أي حيوان أليف.. ولديهم المقدرة على تفريغ أي شئ من محتواه الحقيقي بمهارة وإبداع.

من مسلسل سيد الناس

السؤال يطل برأسه: وهل كل شئ لابد أن يبدأ من عند الرئيس، وماذا يفعل الباقون من الوزير، كل في تخصص وزارته- إلى اصغر مسئول؟ إذا كان الأمر كذلك فالطبيعي هو تنحية كل المتخاذلين والمتكاسلين والمرتشين، وفصلهم من العمل أو إحالتهم إلى المعاش المبكر.

الحقيقة تقول أن للرئيس السيسي نفسه محاولة مهمة في التصدي للفساد الإداري الذي ينخر العمود الفقري للدولة المصرية، التي هي عميقة عمق آلاف السنين، حين أصدر منذ سنوات قانونا بمحاسبة موظفي المجالس المحلية بأثر رجعي يمتد ثماني سنوات.. لكننا لم نسمع عن موظف خضع للمحاسبة بهذا الشكل وتفعيل هذا القانون.

نقاط كتيرة يستدعيها الموضوع، على رأسها “الرقابة على المصنفات الفنية”، فهي التي توافق في البداية على العمل مكتوبا على الورق قبل التصوير، ثم المشاهدة بعد التصوير والسماح بالعرض من عدمه.. والأعمال التي أزعجت السيد الرئيس وقبلها الشعب المصري كله مفروض أنها مرت بهذه المراحل الروتينية، فكيف مررت الرقابة هذه الأعمال وسمحت بالتصوير، ثم بالعرض.

منذ سنوات بدأ التحول الدرامي في مصر، لتتسرب إليها نماذج غريبة.. فيها ينتصر الشر على الخير، بل بدأ صناع الدراما في قلب معادلة الصراع الأبدي بين الخير والشئ، فعمدوا لتجميل الشر والأشرار، بينما يجتمع الهوام والحشرات حول الخير، فمسلسل “إش إش” يدور حول راقصة تقع ضحية للآخرين، وهي شخصية مجني عليها -ولا غبار مبدئيا حول شخصية الراقصة فهي شخصية طبيعية في نسيج المجتمع- لكن الأحداث تتفرع لنصل لشخصية تاجر مخدرات، تطالب شخصيات المسلسل -وبعض الجماهير في الواقع- بعدم القبض عليه لأنهم أحبوه، بعد أن قدمه المخرج في إطار الشخص الطيب والجميل والكيوت والجدع، حتى إنه أصبح فتى أحلام الفتيات.

الظاهرة ليست جديدة، بل إنها أصبحت الآن في فترة المراهقة، يعني لم تعد طفلة.. وهنا يبرز اسم “محمد سامي” – أحد أبرز مخرجي المسلسلات في السنوات الأخيرة- وهو مخرج مسلسلي “إش إش” و”سيد الناس” اللذين تم عرضهما في رمضان 2025.

من مسلسل إش إش

والناس يتساءلون عن سر اختيار “سامي” أبطال مسلسلاته من واقع غرائبي، حتى مَشاهد الحارة المصرية عنده تأتي زاعقة، ليس فيها غير الخناقات والسب بألفاظ نابية بدأت تشق طريقها للدراما المصرية، كل شئ فيها يتم في الشارع أمام الملأ وعلى العلن، ليس فيها حرمات ولا خصوصيات، القوي فيها يسن القوانين وينفذها، ليتحول تدريجيا من الجدعنة إلى الفتونة وصولا إلى البلطجة، ويتحول معه بعض أهل الحارة إلى مساعدين منافقين له، بفعل الخوف، وبفعل مكاسبهم من ورائه.

ومن الواضح أن “محمد سامي” وغيره من المخرجين يحاولون مضاهاة عالم الحارة في روايات “نجيب محفوظ” وعالم الفتوات فيها ويحاولون إعادة تقديمها، لكنهم للأسف لم يفهموا روح الحارة وفلسفة أهلها والحميمية التي تجمع بينهم، فتحولت الحارة في مسلسلاتهم إلى منبع للشر، وقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت.

بالعودة لسنوات العقد الماضي، نجد الظاهرة تبدأ من هناك، فمسلسل “الأجهر” مثلا لـ “عمرو سعد” يتناول لصوص الماس وكيف تم تقديمهم في جو من الرفاهية، وتبرير أفعالهم، ويضفي على شخصية “الأجهر” صفات الطيبة وعمل الخير ومساعدة الفقراء، وبالعودة للخلف قليلا نجد مسلسل “جبل الحلال” لـ “محمود عبدالعزيز” يدور الصراع فيه بين تاجر آثار وتاجر سلاح، ورغم أن المجالين محرمان قانونا، فقد تم تجميل تاجر الآثار “محمود عبدالعزيز”، ورغم محاولة توبته فإنه يعيش ناعما بما جناه طوال عمره من أموال، بل ويتم “توريث” المهنة لأحد شباب العائلة “كريم عبدالعزيز”.. وفي هذه النوعية من الدراما تقدم الحلقات مشاهد من الثراء والرفاهية تتضاءل أمامه وبالتدريج أي قيم، وتصب المَشاهد السم في لا وعي الجمهور، ليعجب أولا مما يراه، ثم يتمنى أن يعيش في مثل هذا النعيم، ولو على حساب قيمه وأحلاقه ومبادئه، وربما يحاول السعي لتحقيق ذلك.

من الظواهر السلبية الخطيرة المتوازية مع الموضوعات المطروحة في الدراما التليفزيونية خلال العقد الماضي إعلاء تيمة الانتقام التي سادت كثيرا من المسلسلات في الأعوام الماضية، فهي تُعلي من قيمة الثأر الشخصي، وتحض على الاندماج بالشر ومجاراته، لاكتساب بعض خبراته في الممارسات الإجرامية، تمهيدا ليوم يقتص فيه الإنسان لنفسه، في تأكيد على العودة لقوانين الغابة، ومنها مسلسل “العتاولة”، وكأن أبناء الحارة المصرية تخلوا عن أخلاقهم ومعتقداتهم فجأة ليصبحوا براجماتيين، ويرفعون شعار “المصلحة أولا وقبل كل شئ”.

هؤلاء الفنانون ينقلبون على فكرة المدينة الفاضلة، ويقدمون المدينة غير الفاضلة –ديستوبيا- بديلا جديدا، يحاولون سحق شعاراتنا القديمة “الحق، الخير، الجمال” تحت أقدامهم باعتبارها وهماً، وبالتالي فالمجد للشيطان والقبح والشر والتردي.