“الخندق اللانهائي”: السينما ضد الفاشية
رياض حَمَّادي– اليمن
بانقلاب فرانكو سيطرت الفاشية على الحياة السياسية، بعد الحرب الأهلية الإسبانية، وكان من نتائج تلك الحرب أن خلَّفت الرغبة في الانتقام. أولئك الفارون من بطش رجال فرانكو وجدوا أنفسهم عرضة للاعتقال والحبس أو الإعدام. منهم من اختبأ في حفرة ضيقة في بيته، حتى صار يطلق عليهم “حيوانات الخُلد”. ومنهم من عاش في تلك الحُفر لأكثر من ثلاثين عامًا، من عام 1939 حتى تاريخ إعلان العفو عام 1969. أحد هؤلاء هو بطل الفيلم الإسباني “الخندق اللانهائي”.
خنادق الفاشية
كاتبان وثلاثة مخرجين، هم إيتور أريجي وجون غارانو وخوسيه ماريا غناغا، يختزلون هذه الوقائع التاريخية في مغامرة درامية تمتد لساعتين ونصف، هي مدة الفيلم الإسباني “الخندق اللانهائي” The Endless Trench“، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي لعام 2019، وفاز بالصَّدَفة الفضية لأفضل مخرج، وجائزة لجنة التحكيم لأفضل سيناريو، واختير لأفضل فيلم دولي روائي طويل في حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ 93، كما فاز بواحد وعشرين جائزة من بين 43 ترشيحًا هي مجموع الجوائز التي ترشح لها منذ عرضه.
تدور أحداث القصة في بلدة داخلية صغيرة ونائية في الأندلس (جنوب إسبانيا)، بين الأعوام 1936 و1969. قصة الفيلم عن هيجينيو الذي يعمل خياطًا، وهو عضو مجلس مدينة، ومتزوج مؤخرًا من روزا- قامت بالدور بيلين كويستا وترشحت عنه لجائزة غويا لألفضل ممثلة. بعد انقلاب الجنرال فرانكو واندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، يختبئ هيجينيو- قام بالدور أنطونيو دي لاتور، وترشح عنه لجائزة غويا لأفضل ممثل- في بيته بانتظار اللحظة المناسبة للهروب مع زوجته، لكن جاره جونزالو، الذي يلومه على وفاة شقيقه، يعوق محاولة هروبه، ويظل يطارده، ليقع هيجينيو في قبضة جنود فرانكو، مع سجناء معارضة آخرين. لكن تسنح لهيجينيو الفرصة للهروب والركض عبر المدينة إلى بيته حيث يبقى مختبئًا، لمدة ثلاثين عامًا، في حفرة في مطبخ بيته أولًا، ثم في خندق صغير في بيت أبيه. يقضي هيجينيو في الحفرة طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، ثم خلال فترة حكم فرانكو.
المتن الاجتماعي والهامش الفاشي
هو فيلم عن معنى السجن، والبطولة، والجبن، والشجاعة، والخوف. وعن أقسى أنواع السجون، تلك التي نبنيها داخلنا؛ لأننا نظل في خوف دائم من أن يُكشف سرنا. يتخذ الصراع في هذا الفيلم مسارين: بين هيجينيو وذاته، ثم بينه وبين جونزالوا، فيما الفاشية لا تظهر إلا في الأخبار التي تنقلها زوجته روزا، أو تلك الأخبار الشحيحة التي ينقلها المذياع، ثم التلفزيون، بعد اختراعه. الفاشية في الهامش، أما متن الصراع فاجتماعي؛ نظرا لما خلَّفته الحرب الأهلية من حزازات وأحقاد بين الناس. جونزالوا يتهم هيجينيو بالتسبب في مقتل أخيه، فيظل يطارده لمدة ثلاثين عامًا. تذكرنا هذه المطاردة برئيس الشرطة جافير الذي ظل يطارد جان فالجان لسنوات، في رواية البؤساء لفيكتور هوجو. لم تنتهِ مأساة فالجان إلا بانتحار جافيير، أما مأساة هيجينيو ورفاقه فلم تنته إلا بعد زوال حكم فرانكو وإصدار عفو عام. في رواية هوجو هو صراع بين ضمير العدالة ممثلا بجافير، وبين المجرم البريء أو التائب جان فالجان، أما في قصة هذا الفيلم فهو صراع أهلي تقتات عليه الفاشية وتبني وجودها وسلطتها.
وراء قضبان النفس
نجح الفيلم، وأداء أنطونيو دي لاتوريه، بدور هيجينيو، في تصوير تلك المنطقة الضبابية بين البطولة والجبن، الشجاعة والخوف. يظهر هيجينيو في مرات وكأنه خائف من وحش غير موجود، فيصارحه ابنه بعد سنوات بأنه جبان، وبأن الكل يعرف أنه مختبئ في البيت. تنتاب هيجينيو الوساوس فيتخيل أن الشرطي الذي قتله قبل سنوات- ودفنه في حفرة في الخندق؛ لأنه اغتصب زوجته روزا- خرج من الحفرة. وفي حوارهما المتخيل، يمتدح الشرطي قدرة هيجينيو على التحمل. يقول له: “أنت شجاع بما يكفي لئلا تنتحر”.
يطلب منه ابنه الخروج؛ فلن يبالي به أحد، بتعبيره. ثم يتلقى هيجينيو خبر العفو العام على نحو عادي، بغير فرح، ثم يتردد في الخروج، كأنه طائر ألِفَ القضبان ونسى الطيران ولون السماء. يقول لزوجته، بعد إلحاحها في خروجه: “المكان هنا لا بأس به”. وبعد تردد يخرج من خندقه ثم من البيت، ليجد الساحة شبه فارغة، إلا من القليل من الناس غير المبالين، فيصدُق بهذا ما قاله ابنه له.
بهذا تكون الفاشية قد نجحت في بناء سجونها داخل نفوس الشعب. هذه واحدة من تضمينات القصة. فالجنرال فرانكو، الذي يعني اسمه بالإسبانية: الصادق والصريح والبسيط، ليس بتلك المهابة التي يعكسها صوته في المذياع. هذا ما تلخصه روزا لزوجها بعد أن شاهدت فرانكو على أرض الواقع: “إنه ليس بتلك القوة والعظمة التي نتخيلها، فمم نخاف؟!” ثم يشاهده هيجينيو وهو يلقي خطابًا في التلفزيون، فنرى لمحة تعاطف مع الجلاد على وجه هيجينيو. ينتقد ابنه إصغاء أبيه لخطاب فرانكو، بعد ثلاثين عاما قضاها حبيس بيته ونفسه، سيذكرنا هذا بمتلازمة ستوكهولم، حين يتعاطف الضحايا مع خاطفيهم.
نرى في قصة الفيلم معنى جديد للشجاعة والبطولة الحقيقية من خلال ما فعلته روزا خلال ثلاثين عامًا، عاشتها هي الأخرى في خوف واستجوابات وكفاح متواصل من أجل لقمة العيش، وحرمان من الحياة الطبيعية ومحاولة اغتصابها. لاحظ عزيزي المشاهد والقارئ كيف يختبئ زوجها خلفها في صورة “بوستر” الفيلم، بينما تقف زوجته في المواجهة. روزا بهذا المعنى سجينة، وسجنها أشد، مع أنها كانت تخرج من البيت من وقت لآخر.
الخندق في قصة الفيلم ضيق، لكنه في عنوان الفيلم “لانهائي”، وفي العنوان ومضامينه إحالة إلى خندق آخر طويل يكمن في نفوسنا؛ الوطن بكامله خندق، ونحن، كحيوانات الخُلد، سجناء أنفسنا في انتظار العفو العام لنتمكن من مواجهة الواقع الذي يقول: إن العيش في سجون الفاشية المؤبدة بطولة، أما السجن داخل بيوتنا فضعف، ومواجهة الطغيان شجاعة، والفرار منه جبن.