“الخطة 75”.. التخلص من كبار السن بالموت الرحيم
محمد كمال
يظهر خلال متابعة الدراما اليابانية مدى احترامهم في المعاملات الإنسانية والإنحناء الدائم أمام المتحدث في حالات إلقاء التحية وأيضا الشكر ويظهر أيضا أنهم شعب مطيع بالفطرة بالتالي يبدو أن هذا الأمر انتقل إلى تعامل المواطنين العاديين مع الحكومة، ويبدو أيضا أن الحكومات اليابانية على مدار تعاقبها تدرك هذا جيدا وهو ما جعل المخرجة تشي هاياكاوا، تتحمس وتتولى كتابة السيناريو لقصة الكاتب جايسون جراي “Plan 75” أو “الخطة 75” لتقدم من خلالها أول تجربة لها في السينما الروائية الطويلة في فيلم يحمل نفس الاسم.
وحصل الفيلم على تنويه خاص من لجنة التحكيم خلال مهرجان كان، وهو التمثيل الرسمي لليابان خلال المنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، ويتواجد الفيلم ضمن قسم البانوراما الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي ويعد ثاني أفضل الأفلام التي شهدتها الدورة 44 بعد البولندي “إيو”.
فكرة انصياع المواطنين اليابانيين للحكومات، كانت المحرك الأساسي للفيلم من خلال طرح خيالي درامي شديد الجمال لكن واقعيا شديد القسوة، وهو حث كل من تجاوز ال 75 من عمره بتوقيع اتفاق بينه وبين الحكومة للموت “القتل” الرحيم في مقابل الحصول على مبلغ يصل إلى 1000 دولار بالإضافة إلى تحمل الحكومة كل نفقات الجنازة سواء بالدفن أو الحرق، كل هذا من أجل المستقبل بسبب أن اليابان وفق الإحصائيات من أكثر دول العالم التي بها كبار السن لترشيد نفقات الدعم الحكومي لهم.
يبدأ الفيلم بصوت بيان من التليفزيون الياباني بأن الحكومة طرحت مشروع يسمى “الخطة 75” بأن من اجتاز عمر الـ 75 عليه أن يتقدم بطلب للحكومة لانهاء حياته عن طريق الموت “القتل” الرحيم والترويج للأمر بأنه من أجل مستقبل أفضل للدولة، ولأن الشعب الياباني يستمع لحكومته شهدت هذه الخطة إقبالا من كبار السن مع اختلاف الدوافع حيث أن هناك من نظر إلى مستقبل الأجيال القادمة، وهناك من اتجه ناحية الامتيازات المادية والدفن المجاني، وهناك من لديه أزمات إنسانية.
تبدأ المخرجة في التمهيد لهذه الخطة من خلال أمرين الأول الخاص بالطلبات التي تقدمت من قبل المسنين بالموافقة على الموت “القتل” الرحيم وإظهار نماذج عديدة مع اختلاف المبررات حول الإقدام على هذا الفعل، والأمر الثاني تقديم صورة كاملة لهذا المشروع التخيلي الذي ينفذ تحت إشراف الحكومة من خلال تشبيه بأنه شركة تشبه شركات القطاع الخاص الرأسمالية لديها إدارة عليا وأخرى تنفيذية لكن الجزء الذي ركزت عليه المخرجة كان الخاص بخدمة العملاء التي تنقسم إلى جزئين الأول الخاص بمقابلة وإقناع العجائز على الموت “القتل” الرحيم وتقديم الإغراءات المادية لهم أما الجزء الثاني فهم الأشخاص الذين يأتي دورهم بعد الاتفاق وتوقيع العقود حيث يكون دورهم متباعة الحالات تليفونيا حتى يأتي موعدهم موتهم “قتلهم”.
وبعد التمهيد المميز الذي كان أشبه بـ”فرشة” ناجحة تلمم المخرجة الأوراق، وتبدأ بالتركيز على خمسة شخصيات مختلفين في المراحل العمرية والمستوى المعيشي لكن كلهم مرتبطين بشكل أساسي بالخطة 75، الأولى هي ميتشي 78 عام وهي إمرأة وحيدة تزوجت مرتين من قبل مستمرة في عملها كعاملة في أحد الفنادق بتفاني وإخلاص وحيوية لكن فجأة تقرر إدارة الفندق الإنصياع للحكومة وطرد كل من تجاوز ال 75، ولم يتوقف الأمر عند العمل فقط بل امتد إلى قرار آخر من صاحب المبنى السكني أيضا بإجبار كبار السن بترك الشقق الخاصة بهم لتأجيرها وأستبدالهم بأشخاص أصغر في المرحلة العمرية، وزاد الأمر سوء بعد أن فشلت ميتشي في إيجاد عمل آخر حتى جاء الموقف الحاسم حين توفيت صديقتها العجوز وهي تعيش بمفردها في منزلها ومن هنا جاء قرار ميتشي باللجوء إلى الخطة 75.
الشخصية الثانية المرتبطة بميتشي هي يوكو التي تبدأ مهمتها من خلال التواصل مع ميتشي تليفونيا بعد توقيع اتفاق الموت “القتل” الرحيم، ويوكو فتاة صغيرة في بداية العشرينيات في مقتبل حياتها العملية بوظيفة حكومية تبدو في الظاهر بسيطة لكن يوكو تكتشف أنها في بداية مشوارها العملي تصطدم بحالة إنسانية شديدة التعقيد ولهذا حدث التحول في شخصيتها ففي البداية علاقة العمل الرسمية كأي موظف خدمة عملاء يحفظ الكلمات ويرددها للعميل لكن بمرور الوقت يحدث التعاطف مع ميتشي وتبدأ يوكو في إعادة النظر حول هذا العمل وهذه الخطة.
ثم يأتي هيرومو أوكابي موظف خدمة العملاء الذي يقابل المسنين ويعرض عليهم مزايا الخطة يصطدم هو الآخر بأن عمه يكويو أحد الذين لديهم الرغبة في التقدم بتوقيع هذا الاتفاق رغم أن العلاقة بينهما منقطعة منذ 20 عاما لدرجة جعلت العم لا يحضر جنازة والد هيرومو، وتشهد هذه العلاقة أيضا جانب تصاعدي في التعاطف والجوانب الإنسانية رغم إبعاد هيرومو عن حالة عمه لأن الخطة تمنع التعامل بين الأقارب حتى الدرجة الثالثة.
والشخصية الخامسة كانت ماريا المرأة الفلبينية وهي عاملة مهاجرة لليابان تفشل في الحصول على تأمين علاجي لابنتها المريضة وتحاول الحصول على مساعدات من دور الخدمات الاجتماعية حتى تتمكن عن طريق سيدة مجتمع الالتحاق بوظيفة داخل الخطة 75، تبدأ مهمة ماريا بعد تنفيذ عملية الموت “القتل” الرحيم تقوم هي بتفريغ ملابس وحقائب المتوفيين مع زميلها العجوز الذي يعرض عليها في أحد المواقف الاحتفاظ بالأشياء التي تركها من توفوا داخل الخطة.
بعد العرض التمهيدي للخطة الحكومية وإفساح المجال أمام ظهور العديد من الشخصيات حول موقفهم من الخطة تقوم هاياكاوا بالتركيز خلال أحداث فيلمها على الشخصيات الخمس من خلال علاقتهم بأمرين الخطة وبأنفسهم حيث نجد أن كلا من يوكو وهيرومو هم المعادل العكسي لميتشي ويكويو من خلال أمرين أولا فارق المراحل العمرية حيث أن الثنائي الأول في مرحلة الشباب أما الثنائي الآخرين عجائز.
وثانيا الموقف من المشروع حيث نجد اختلاف هذا الموقف بالعكس أيضا في البداية الثنائي الشاب لديهم الحماس والرغبة في المشاركة لكن بمرور الوقت تبدأ التساؤلات في فرض نفسها عليهم بعد قيام هيرومو بإعادة حسابات علاقته بعمه، وتعاطف يوكو مع ميتشي من خلال مكالماتهما التليفونية لدرجة جعلت يوكو تقبل طلب ميتشي بمقابلتها شخصيا رغم أن قانون العمل داخل الخطة يمنع هذا.
أما الثنائي العجوز ميتشي ويكويو فأن موقفهما في البداية من الخطة لم يكن بقناعة كاملة، ميتشي فقدت وظيفتها وسكنها ولا تجد بدائل أما يكويو يشعر بالوحدة والاغتراب لأن لم يعد أحد يتواصل معه لكن بمرور الوقت يستسلم يكويو للخطة ولم يسير وراء مشاعره العائدة بعد أعوام تجاه ابن شقيقه عكس ميتشي التي كانت طوال الوقت مترددة متذبذبة في الأمر وظل هذا التردد حتى النهاية، أما الشخصية الخامسة ماريا فهي طوال الوقت تراقب في صمت كأنها تسأل نفسها ما الذي أقوم به؟ لكنها تظل صامتة لأنها بحاجة إلى العمل من أجل ابنتها المريضة.
رغم قسوة الخطة 75 لكنها ساهمت في وجود تواصل إنساني – يبدو أنه مفقود في اليابان – بين جيلين مختلفين سواء العم وابن شقيقه أو ميتشي ويوكو وأكدت المخرجة على تلك الفكرة في مشاهد النهاية عندما اجتمع الشخصيات الخمس في المكان المخصص للموت “القتل” الرحيم داخل مبنى الخطة 75 كأن الأجيال الجديدة تريد توصيل رسالة للحكومة صحيح أنكم أقدمتهم على هذه الخطة من أجل المستقبل لكن دائما هناك حلول أخرى غير إقناع البشر بإنهاء الحياة، لكن يبدو أن الآلة الرأسمالية في اليابان تسير بالإتجاه الحل الأسهل والتخلص من الذين لم يعد لديهم اقدرة العمل داخل دائرة الرأسمالية الاقتصادية دون النظر للمشاعر الإنسانية.
ارتكز الفيلم على مشروع خيالي لكنه يحمل فكرة شديدة العمق بها جوانب فلسفية سوداء بالفعل الإنسان لا يختار وقت قدومه للدنيا لكن من حقه تحديد نهايته لكن خارج إطار مشروع حكومي يحث ظاهريا ويجبر عمليا على ذلك لديا ميتشي اجتازت ال 75 لكن لديها قناعة بأنها قادرة على العمل ومواصلة الحياة لكنها لم تجد أبسط حقوقها متواجدة وفي نفس الوقت تجد أن الحكومة تطالبها بإنهاء حياتها من أجل المستقبل.