الحاجة إلى سينما طليعية جديدة: أقل من رقصة على عرش من خسارات!
يتفق جميع الباحثين والمؤرخين على أن اختراع السينما كان على يد الأخوين لوميير عام 1895 . وقد تحقق هذا الاختراع بعد جهود كثيرة قام بها مجموعة من العلماء والباحثين في ميدان البصريات والصور الفوتوغرافية. وجاء العرض الأول المؤدى عنه (أي ببطاقات مشاهدة مدفوعة الثمن) في نفس السنة باحدى مقاهي باريس حيث شاهد الجمهور آنذاك مجموعة من “المشاهد المصورة” وهي تتحرك على الشاشة.
ومن بين الافلام التي شاهدها الجمهور خلال هذا العرض فيلم “وصول القطار الى المحطة” وفر الجمهور خائفا مذعورا اثناء وصول القطار امامهم قادما من عمق الشاشة. وقد ارسل الاخوان لوميير مجموعة من المصورين الى انحاء العالم لتصوير وتسجيل غرائب الدنيا وعجائبها، واطلقت الصحافة على هؤلاء التقنيين تسمية “صيادي الصور”، ومن اشهرهم فليكس مزكيس الذي صور احداث قصف الدار البيضاء سنة 1907 كما كان اول عرض سينمائي بالمغرب سنة 1897 بالقصر الملكي بفاس.
كان الهدف من اختراع “السينماتوغراف” في البداية هو مساعدة العلماء والمكتشفين على تسجيل وتصوير ملاحظاتهم واختراعاتهم العلمية والطبية، غير ان الفرنسي جورج مليس الذي كان مولعا بالألعاب السحرية ومحترفا للالعاب البهلوانية سيوجه مصير هذه الآلة ويبعدها عن متاعب الحياتة اليومية. وقد أخذت السينما شهرتها من طبيعتها الحكائية بحيث أصبحت آلة عجيبة لحكي القصص يتجمد الناس امامها في قاعات مظلمة ليرحلوا في حلم جمعي على صوت شهرزاد العصر الحديث.
وقد رحلت السينما الى الولايات المتحدة الأمريكية على يد المخترع توماس إديسون وآخرين، وطورها والتر كريفيت الذي اخترع اللغة السينمائية ووضع بأعماله الرائدة حجر الأساس لخلق هوليود.. مدينة السينما ومصنع النجوم والاحلام. هكذا إذن حدد الأمريكيون مصير “السينماتوغراف” الذي كان منذورا للعلم والمعرفة وحولوه الى مجرد “سينما” لحكي القصص وملء فراغ الناس وتسليتهم وتأثيث حياتهم الخيالية.
يرى أندريه تاركوفسكي، شاعر وفيلسوف السينما، ان اختراع الاخوين لوميير أعلن ميلاد “مبدأ فنيا جديدا” يتلخص في كون الانسان ولأول مرة في التاريخ، استطاع ان يتغلب على “تسجيل الزمن”، وأن يحتفظ به ويعرضه مصورا متى شاء. ويلتقي تصور تاركوفسكي هذا مع تسمية “الفن السابع” التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي على يدي ريسيطو كانيدو.
ويعكس مفهوم كانيدو للسينما رأي الطليعيين الفرنسيين والتعبيريين الألمان الذين ساءهم تحريف هذا الفن الجديد عن رسالته النبيلة بواسطة مجموعة من الحرفيين والتجار الذين اكتشفوا ان السينما دجاجة تبيض ذهبا، فحاربو ا بالمال وبالعنف كل من حاول الوقوف في وجههم لاعادة الفن السينمائي الى أصله العلمي والفكري والابداعي. وما قصة اللائحة السوداء التي اخترعها مكارثي وغلفها بذريعة محاربة الفكر الشيوعي في الوسط السينمائي في أمريكا، الا مظهرا من مظاهر الحرب الخفية والمعلنة ضد الاختيار المخالف للاختيار التجاري الذي فرضته مافيا السوق على الحقل السينمائي.
مقاومة التيار
وقد قاوم الطلائعيون والتعبيريون هيمنة هذا التيار الانتفاعي الذي اختزال السينما الى مجرد الة لحكاية القصص، ووضعوا بذلك بيانات فكرية ونظريات يحفزون بها المخرجين المبدعين لانقادهم من قبضة المال والسوق وتحرير فكرهم وفنهم من الاستلاب التجاري. ومن أهم هذه التيارات التي سادت آنذاك نذكر على سبيل المثال “السينما موسيقى الضوء” و”السينما نحت للزمن” “السينما عين” و”السينما حقيقة” و”الكاميرا قلم” و”السينما شعر الواقع”.
تجتمع كل هذه النظريات حول اهمية واولوية القيمة الفكرية والفنية للسينما سواء كان سندها تخييليا أم وثائقيا. ومن أهم الأسماء التي ارتبطت ويرتبط ذكرها بالدفاع عن تصور آخر للسينما يسعى الى تأسيس وتأصيل “سينما الابداع” من الرواد و المعاصرين: نذكر على سبيل المثال لا الحصر، لوي دوليك، الكسندر استريك، جان لوك جودار، فرنسوا تروفو من فرنسا. ومن ايطاليا هناك ريسيطو كانيدو وفيلليني وبازوليني، ودزيجا فيرتوف وايزنشتاين وبودوفكين وتاركوفسكي وبارادجانوف من روسيا، وفريتز لانغ ووالتر بابست وفيم فيندرز وفاسبيندر من المانيا، ونوري بيلج سايلان وسميح كابلانوكلي من تركي، ومحمد ملص وعبد اللطيف عبد الحميد وعمر أميرالاي من سوريا، واحمد البوعناني ومصطفى الدرقاوي وفوزي بنسعيدي وحكيم بلعباس وهشام العسري من المغرب.
من خلال هذه اللائحة نلاحظ أن هناك بعض الأسماء التي مازالت تقاوم هيمنة النموذج التسليعي الذي فرض خلال العشرين سنة الأخيرة نموذجا واحدا من السرد هو السرد الهووليودي الذي يعتمد “نظرية الصراع المركزي” التي أصبحت تصنع داخل معامل الكومبيوتر بأبعاد ثلاثية، وبصور خارقة في الاتقان والدقة، تتحرك داخلها نجوم افتراضية خارقة في الإغراء والفتنة لكنها في اغلبها فارغة كالسراب خالية من ماء المعنى!
ان الرهان على هذه الاسماء وأمثالها، هو رهان على الحرية والتحرر من هيمنة النموذج الوحيد، ورهان على الابداع من أجل رفض ومقاومة تسليع الفن السينمائي وتحويل الكرة الأرضية الى جحيم استهلاكي تختفي فيه قيم الجودة الفنية وسيادة قيم الرداة الكيتشية والنهم الفرجوي.
أزمة السينما المغربية
بناء على هذا نطرح تساؤلا حول أزمة السينما المغربية في الوقت الحالي. لقد توهمنا ولفترة طويلة، ان مشكلة السينما المغربية كانت مرتبطة بالانتاج. وقد حدث ان جادت الدولة “بخيراتها” على المخرجين المنتجين، فنشطت الحركة السينمائية بشكل لم نره من قبل في أي بلد عربي باستثناء مصر والجزائر (سابقا).. غير ان المنتوج النهائي الذي تجاوز العشرين فيلما سنويا، لم يرق مع الأسف الى المستوى الفني والفكري والجمالي الذي كنا ننتظره من مخرجينا الأعزاء.
لقطة من الفيلم المغربي “ماروك” لليلى المراكشي
ورغم ان بعض الأفلام الشعبوية والجماهيرية أرضت رغبة الجمهور لبضعة أسابيع، إلا أن الأمور عادت من جديد الى فقرها الفني فحولنا السؤال من جديد نحو أزمة الابداع.. غير أن الابداع إشكالية مركبة ترتبط بالمخيل والخيال والتخييل، مما يجعل الخوض فيها من باب الممكن والمستحيل، وهو باب سيسجل “الجريمة” ضد مجهول.
وللمساهمة في البحث عن هذا المجهول لا بد من إعادة احياء “حلقة المخرجين المفقودين” الذين تركناهم في بداية هذا المقال يقاومون السينما السائدة ويبحثون عن “الصورة المشتهاة” لنقترح معهم على المخرجين الطلائعيين الجدد تغيير الاختيار الجمالي السائد باختيار جمالي مختلف مبني على هدم النظر وجعل القلب عين البصر، من اجل خلق جبهة جديدة لإنقاذ الفن وانقاذ السينما وإنقاد الانسان لأن الانسان المعاصر انتقل من مرحلة الاستلاب والتشييء في نهاية القرن الماضي، الى مرحلة الخواء فصار أجوفا يمارس الاخصاء القيمي على نفسه لكي يصبح منسجما مع عصره ومع تطلعاته، غير أن السينما ذات البعد الفني والجمالي والثقافي، يمكن أن تقف ضد فقر الدم الذي يعاني منه المجتمع.
فعلى السينما الحقيقية أن تسدل الستار على المفرقعات اللفظية والسمعية البصرية وان تتجاوز الالتهابات الحسية لتفتح المجال امام الغسق لتسكن الكلمات والصور.
ان ما ينقص الساحة السنمائية في المغرب هي”العقيدة السينمائية”، ونقصد بالعقيدة هنا رؤية العالم الفنية والفلسفية والوجودية التي تؤطر المنجز الفيلمي فمعظم المخرجين لا عقيدة لهم، وما يهم المخرج المهرول والمتهافت اليوم هو الفيلم، ومايهمه من الفيلم هو ما سيجنيه من ربح أو من أموال الدعم التي تقدمها الدولة، فيلجأ الى التلفيق والتزويق والتزييف، كما أن الكتابة السينمائية ينقصها “شيء ما” حسب تعبير تشيكوف، لأن الكتابة فعل تقني توجهه صيغ الوعي باللغة السينمائية، أفقه “اللغة الثانية”، ومداره تحويل التجربة لخلق مثال فني “يذود” الواقع بصيغ إدراك الذات لعملها وللعالم، كما ينبغي أن تكون السينما محاطة بمناخ ثقافي يرفض التزييف والرداءة والنفاق والجبن والولاءات المصلحية العابرة، لأن ثمة ما يليق بهذه الحياة!
* ناقد وباحث سينمائي من المغرب