“الثور الهائج” والكبت الذكوري
بقلم: ليزي بوردن
ترجمة: رشا كمال
بمناسبة مرور أربعين عاماً على رائعة المخرج الكبير مارتن سكورسيزي “تالثور الهائج” Raging Bull، أعادت مجلة “سايت آند ساوند” نشر مقال لمخرجة فيلم ” مولودة في النيران”born in flames من عدد قديم يعود إلى عام 1995، تستعرض فيه تأثير هذا الفيلم على علاقتها بوالدها. هنا نص المثال:
“الثور الهائج” Raging bull للمخرج مارتن سكورسيزي، فيلم قاس، وجميل، ومصور بالأبيض والأسود. ويعتبره كثير من المشاهدين واحدا من أعظم الأفلام التي أنتجت خلال ثمانينيات القرن الماضي. ورغم ذلك، تعرض الفيلم عند صدوره للنقد الحاد، لأنه كان يدور حول شخصية لا يمكن التعاطف معها، هي شخصية الملاكم جاك لاموتا، وهو رجل عنيف ومتوحش، بارع فقط في المعاملة السيئة. وهو ما كاد يحول دون أن يلقى الفيلم الدعم المالي اللازم لإنتاجه، فقد رأى أحد مديري شركة ام- جي- ام أنه كان مجرد حشرة.
كيف يمكن لأي شخص إذن أن يتساءل عن كيفية تناول سكورسيزي لمثل هذه الشخصية؟
يعتبر فيلم “الثور الهائج” Raging Bull ثالث أفلام الثلاثية التي تشمل فيلم “سائق التاكسي” Taxi driver، و فيلم “الشوارع الخلفية” Mean Streets. وفي هذه الثلاثية يتناول المخرج الشخصية المنعزلة، التي تعيش على هامش المجتمع، العنف هو وسيلتها الوحيدة للتعبير عن غضبها وإخفاقاتها.
في فيلم “الشوارع الخلفية” نرى جوني بوي يضع قنبلة بداخل أحد صناديق البريد، ويطلق الرصاص من فوق الأسطح. وفي فيلم “سائق التاكسي” يتحول ترافيس بيكل تدريجيا الي ارهابي مسلح. أما في فيلم “الثور الهائج”، فيتشاجر جاك لاموتا مع الجميع، سواء من داخل أو خارج حلبة الملاكمة.
وتعتبر الشخصيات الثلاث شخصيات انتحارية، وتتجلى هذه الصفة بوضوح في الحركات الجسدية الغريبة لشخصية جوني بوي، وفي الاستعدادات شبه العسكرية وتسريحة الموهوك لترافيس، كما تظهر في البدانة المفرطة لشخصية جاك لاموتا.
عندما شاهدت الفيلم للمرة الأولى ادهشني كثيرا الوزن الزائد الذي اكتسبه روبرت دي نيرو، فقد ازداد وزنه بأكثر من خمسين كيلوغراماً من أجل أداء هذا الدور. لم ار شيئا كهذا من قبل. لقد تخطى بذلك عتبة الوهم. فأصبح نفسه قصيراً، وكاد فخذاه أن يحتكا عند الحركة، وتدلى بطنه الضخم خارج سرواله، فتحول إلى شخص مختلف تماما.
ويعود سبب اختيار سكورسيزي لشخصية لاموتا الأكبر سناً، لتأطير قصة الفيلم بدلا من الاعتماد على لقطات العودة الى الماضي، كما قال هو، إلى أن الشخص النحيف والشخص البدين كانا يبدوان شخصين مختلفين تماما. ويرجع سر افتتاني بشخصية الرجل البدين لأسباب شخصية تماما÷ فقد كان أبي رجلا بدينا، وكانت مشاهد العنف المنزلي في الفيلم تعكس جزءا من حياتي. اتذكر مشاحنات والدي التي كانت تنتهي بقلب وعاء السلاطة فوق رأس أمي، أو ركله الأبواب في المنزل. وكانت حياتنا العائلية التي تظهر في الأفلام المنزلية الملونة بوجوه تعلوها الابتسامة، تشبه مثيلتها في فيلم “الثور الهائج”.
وقد استطعت أن أفهم أبي الذي كان سمسارا في البورصة من خلال شخصية لاموتا. فكلاهما كان يراوده شعور بالذنب ومشاعر متضاربة بخصوص المسائل الجنسية. وقد أدت عقدة النقص الذكورية لديهما إلى عزل أنفسهما داخل جدار من الشحوم كوسيلة دفاعية ضد الغريزة الجنسية والتعبير عنها من خلال العنف. كان والدي حاصلا على الدكتوراه في الاقتصاد، ورغم ذلك كان يفتقر التعبير عن مكنونات نفسه.
أما جاك الشاب قد كان عاجزا أيضا عن التعبير عن ذاته خارج الحلبة، وكان يعبر عنها فقط في نوبات عنف فورية. فنرى تصاعد حدة التوتر السريع عندما يطلب من زوجته الأولى إحضار الطعام، فليقي به من فوق طاولة المطبخ ويخرج مندفعا هائجا.
وعندما يشتكي من لعنة حجم يديه الصغيرتين، هذا الحجم الذي يناسب ملاكمة الوزن المتوسط فقط، مما يجعله غير مؤهل للنزال أمام بطل الوزن الثقيل جوي لويس، يتطور الأمر للمشاجرة بالأيدي مع أخيه. وعقب زواجه من زوجته الثانية “فيكي” ينتهي به الظن والشكوك والغيرة الي صفعة أو مشاجرة.
أما داخل حلبة الملاكمة، فيبدع جاك في التعبير عن مشاعره التي يعجز عنها في أي مكان آخر خارجها. ورغم انه فتى مسيحي طيب القلب، إلا إنه يتجنب الركن الأساسي في ديانته وهو الاعتراف، فهو يؤديه داخل الحلبة.
داخل الحلبة فقط يستطيع هذا الرجل الذي يجد صعوبة في طلب المغفرة والاعتذار لمن يجرحهم، التكفير عن ذنوبه. ويشرح جاك لمدربه أن السبب وراء هزيمته الاولى امام شوجر راي روبنسون كان عقابا على أمور سيئة ارتكبها في حياته.
والمتعة التي يستمدها من الضرب تعتبر خلاصا من الخطيئة، بل وتتخذ شكلا من أشكال المازوخية الجنسية. فهو يتمادى لابعد من تقاليد الملاكمة القديمة والتي كانت تقتضي من اللاعبين عدم إجهاد أنفسهم بممارسة الجنس قبل المباريات.
ويفضل إتمام نشوته الجنسية عن طريق إراقة الدماء. وهو ينشد راحته داخل حلبة النزال، لشعوره بالدونية من إشباعها والحصول عليها من زوجته، تلك الإلهة الشقراء التي فاز بها.
وبالانتقال بين مشاعره المحبطة خارج الحلبة وتعبيره الأوبرالي عنها في داخلها، يستعرض الفيلم عنف هذه الشخصية من منظور الطرف الأخر. فنصبح داخل غرفة المرحاض مع فيكي عندما يركل جاك الباب مقتحما المكان، ونكون مع اخيه جوي عندما يهجم عليه في منزله غاضباً وينهال عليه ضربا.
أما في مباريات الملاكمة، فيضع سكورسيزي الكاميرا داخل الحلبة من وجهة نظر جاك، ليجعلنا نتماهى ونتوحد مع حالات الانعزال، والانتصار، والرعب وبلاغة هذا النوع من العنف.
يخسر جاك لقبه وينتصر عليه تدميره الذاتي، فيهوى إلى الحضيض، ويعاشر الفتيات القصر، ويكتسب المزيد من الوزن، وينتهي به الحال في السجن مطرقا رأسه في الجدران وهو يردد باكيا أنا لست حيوانا. ولأول مرة يستطيع أن يعبر عن مشكلاته خارج الحلبة ويتخطاها.
إن أداءه للخطبة الشهيرة المقتبسة من فيلم “على رصيف الميناء” On the Waterfront “كان بوسعي أن أكون منافسا” جاء أداءً مباشرا خاليا من المشاعر، ولكنها عبرت عن أحزانه وخزيه. نعم كانت خطبة مستعارة ولكنها جاءت معبرة، وشخصية، تكفر عن جميع ذنوبه.
في عام 1982، وبعد عامين من عرض الفيلم، خسر أبي كل أمواله في البورصة وألقى بنفسه من النافذة. ولم أعرف أبدا ما إذا كان قد شاهد هذا الفيلم أم لا.
- عن مجلة “سايت آند ساوند”، 13 نوفمبر 2020