“التقارير عن ساره وسليم” اكتشاف حقيقي في مهرجان روتردام

يعتبر الفيلم الروائي الطويل “التقارير عن ساره وسليم”، للمخرج الفلسطيني مؤيد عليان، الاكتشاف الحقيقي في الدورة الـ47 من مهرجان روتردام السينمائي حيث عرض للمرة الأولى على المستوى العالمي وحظى بتقديرات كبيرة من جانب الجمهور في استطلاعات الرأي اليومية، ولاشك أنه سيجوب روتردام الكثير من المهرجانات السينمائية الأخرى، لكنه قد يواجه مشكلة في العالم العربي بسبب بظهور مشاركة بعض الممثلين الإسرائيليين.

الفيلم هو العمل الروائي الطويل الثاني لمؤيد عليان وشقيقه كاتب السيناريو رامي عليان بعد “حب وسرقة ومشاكل أخرى” (2915). ومؤيد مخرج فلسطيني من العاملين داخل فلسطين التاريحية، وهو يقيم في مدينة القدس، وتدور أحداث فيلمه في القسم الشرقي من المدينة، وهو يجمع بين ممثلين من فلسطينيي الداخل، وبعض الممثلين من اليهود الإسرائيليين، ليس بهدف “التطبيع” بل لأن هذا ما تفرضه دراما الفيلم ورغبة مخرجه في إضفاء الواقعية على عمله، كما تفرضه أيضا ظروف العمل في الأرض المحتلة. وعادة يكون الممثلون الذين يعملون في الأفلام الفلسطينية من المساندين لحقوق الفلسطينيين.

الفيلم من الانتاج الفلسطيني، وقد اشتركت في إنتاجه شركات من هولندا والمانيا والمكسيك، كما حصل على دعم من مؤسسات عربية من بينها الصندوق العربي للثقافة والفنون “آفاق”، وفيلم “لاب” فلسطين. ويعتبر سيناريو الفيلم الذي كتبه رامي عليان أحد أفضل السيناريوهات في السينما الفلسطينية، وهو يسير في توازن دقيق محسوب جيدا، سواء في العلاقات بين الشخصيات المختلفة، أو في ضبط الحبكة ودفعها إلى الأمام في شكل أقرب إلى أسلوب فيلم التحقيق البوليسي ولكن على غرار الأفلام التي يصنعها المخرج الإيراني أصغر فرهادي.

يبدأ الفيلم من علاقة جسدية ملتهبة بين سيدة يهودية متزوجة هي “ساره” التي تمتلك مقهى، وشاب فلسطيني يقوم بتوزيع المخبوزات باستخدام سيارة نقل صغيرة. ساره متزوجة ولديها ابنة في السابعة من عمرها هي فلورا، وزوجها ضابط في الوحدات الخاصة الإسرائيلية التي تستهدف النشطاء الفلسطينيين. و”سليم” متزوج من “بيسان” الحامل في طفله الأول. ولذلك فالاثنان يتقابلان سرا لممارسة الجنس في سيارة النقل الصغيرة.

لسنا أمام علاقة خيانة زوجية تقليدية، فسرعان ما ستفجر هذه العلاقة الكثير من القضايا السياسية التي تتعلق بطبيعة الواقع المشحون بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

سليم مجتهد في عمله ينقل المخبوزات لحساب مخبز اسرائيلي، لكنه يعاني من قلة الدخل، لذلك فقد اضطر للسكن في شقة بمنزل عائلة زوجته حيث يساعده شقيقها “محمود” قدر استطاعته، لكن سليم غير راض عن هذه المساعدة، بل تجعله يشعر بالمهانة والضعة. لكنه يقبل عندما يغلف محمود مساعدته بطابع عملي عندما يكلفه بنقل بعض السلع الضرورية الى الفلسطينيين في الضفة الغربية،على أن يقتسم الإثنان الأرباح.

ربما كان شعور سليم بعدم الارتياح بسبب وجوده تحت رحمة عائلة زوجته، بالإضافة إلى رفض زوجته الحامل مضاجعته بدافع الخوف- كما تقول- على الجنين، ربما يكون الدافع وراء تمادي سليم في علاقته الجنسية مع “ساره”. أما ساره فرغم استقرار حياتها الزوجية وتمتعها بالعيش في مسكن فسيح، يطل من أعلى ربوة على مدينة القدس في منظر خلاب، واستقلالها الاقتصادي (هي تمتلك وتدير المقهى)، إلا أنها تعاني من برودة علاقتها بزوجها “دافيد” الذي ينشغل عنها في عمله المجهد الذي يكرس له كل وقته، خاصة بعد ترقية حصوله على ترقية.

سليم وساره.. خطأ إدخال اليهودية وسط الفلسطينيين في بيت لحم

شخصيات الفيلم

لدينا حتى الآن خمس شخصيات، لكن ليس من الممكن الحديث عن شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية، فشخصيات الفيلم تتمتع بمساحة جيدة وأدوار عضوية في نسيج الفيلم وهذه حسنة أخرى من حسنات السيناريو. وكلما شعر المشاهد بأن “الحبكة” أصبحت واضحة ولم تعد هناك حاجة إلى مزيد من الأحداث، يفاجئنا السيناريو بدخول أطراف أخرى تضيف إضافات جوهرية إلى الفيلم. لدينا الآن سليم وبيسان، وساره ودافيد، ومحمود. ولكن مع تراجع الجانب المتعلق بالجنس، تتضح العقدة السياسية، فيدخلنا الفيلم إلى قضية الاحتلال ونظرة الإسرائيلي الى “الآخر” بل ونظرة الفلسطيني إلى الفلسطيني، في ظل أوضاع يشوبها التوتر الشديد على جانبي الجدار الفاصل.

الذهاب إلى الطرف الآخر

في لحظة نزق، أو شعور بالملل، أو رغبة في حب الاستطلاع، تطلب ساره أن تصحب سليم ليلا إلى بيت لحم حيث سيقوم بتوزيع بعض السلع، على أن يعودا معا لاطفاء ظمأ الرغبة في سيارته كما اعتادا. هناك يعرجان على مقصف لتناول الشراب حيث تتظاهر ساره بأنها سائحة هولندية، وتتحدث الانكليزية بدلا من العبرية. لكن أمرها ينكشف أمام شاب فلسطيني ثمل يصر على أن يجذبها لترقض معه فتنشب مشاجرة بينه وبين سليم، يتوعده الشاب على إثرها شرا. “خطئية” إدخال ساره اليهودية الىوسط الفلسطينيين في بيت لحم، سيدفع سليم ثمنها باهظا. تعتقله المخابرات الفلسطينية بناء على تقرير حول علاقته بامرأة اسرائيلية- غالبا جاءت الوشاية م طرف الشاب الذي تشاجر معه في بيت لحم، لكن الاتهامات تشمل المخدرات والدعارة، فهو متهم بجلب امرأة يهودية بغرض الدعارة. نعلم بالطبع أن سليم برئ من هذه الاتهامات، لكنه مذنب بسبب خيانته لزوجته. ولا تتغاضى المخابرات الفلسطينية عن فعلته إلا بعد تدخل “أبو ابراهيم” أحد كبار القادة في الضفة، ولكن شريطة أن يكتب سليم تقريرا يعترف فيه بأنه قام بتجنيد “امرأة اسرائيلية”- ليس بغضرالدعارة- ولكن للتجسس لحساب الفلسطينيين، دون حاجة الى ذكر اسمها. اي أن سليم البعيد كل البعد عن السياسة، يجد نفسه منغمسا في قضية ذات طابع سياسي مباشر. وهو يرضخ ويكتب التقرير المطلوب- ثم مزيدا من التقارير- حتى لا يفتضح أمره أمام زوجته، خاصة بعد أن استدعي شقيقها محمود الذي توسط له عند “أبو ابراهيم”.

لا تنتهي الكارثة هنا، فوحدة دافيد العسكرية تشن حملة مداهمات في رام الله، يروح ضحيتها- كما تقول الأخبار- عدد كبير من الفلسطينيين، لكن الأخطر أن القوات الإسرائيلية تقتحم مقر المخابرات الفلسطينية وتصادر محتوياته، وبالتالي تقع “التقارير” في يدي رئيس الوحدة “أفي” فيعتقل سليم ويقوم بتعذيبه حتى يعترف باسم المرأة اليهودية التي قام بتجنيدها، لكن سليم يصمد. وتأتي محامية فلسطينية هي “مريم” للدفاع عنه، لكنها تريد شهود نفي لا يمكنها العثور عليهم. وعندما يعترف لها بحقيقة علاقته بساره، تحاول الاتصال بها لاقناعها بأن تشهد لصالحه لكن ساره تتنصل، ولا يمضي وقت طويل قبل أن يعرف “دافيد” بخيانة ساره له، لكنه يخشى أن تكون قد وقعت في “خيانة إسرائيل”.

 ميساء عبد الهادي في دور الزوجة بيسان التي تبحث عن الحقيقة

تساؤلات مشروعة

هل ستعرف بيسان زوجة سليم بما فعله سليم؟ وماذا ستفعل، وهل ستمضي في مهمة تحر لجمع أطراف القصة ومعرفة الحقيقة كاملة؟ وماذ ستفعل عندئذ؟ هل ستقف الى جوار زوجها السجين المهدد بعشر سنوات في السجن؟ أم ستلعنه وتتنصل منه؟ هل ستكشف حقيقته للفلسطينيين في الخارج، الذين يعتبرونه بطلا ويعلقون صوره على الجدران؟ أم ستحافظ على صورته باعتباره والد طفلها المنتظر؟

من الجهة الأخرى: ماذا سيحدث لساره في علاقتها بزوجها؟ وكيف سيكون ردة فعل “دافيد”، ثم انعكاس القضية على عمله خاصة بعد أن يكتشف رؤساؤه أنه أدلى بمعلومات شديدة السرية لزوجته؟ وهل ستتمكن المحامية المدافعة عن حقوق “الأسرى” الفلسطينيين من إنقاذ سليم؟

دافيد وبيسان كلاهما ضحية الخيانة، لكنهما ليسا متساويين، فدافيد يحاول تهديد بيسان والاعتداء عليها في منزلها كما يتوعد سليم بأن يقضي حياته كلها وراء القضبان. وساره اخطأت ويتعين عليها أن تجفع الثمن الآن، لكنها ربما تفضل التكفير عن هطيئتها بأن تفعل شيئا جيدا. وبيسان ضحية مزدوجة: للاحتلال من جهة، ولسليم من جهة أخرى. لكن سليم يصبح ضحية الطرفين: الفلسطيني والإسرائيلي في مناخ انعدام الثقة والتوتر الدائم والقمع المستمر. إننا أمام دراما شديدة التعقيد لكنها تسير في سلالة، وتسلسل منطقي، تبدأ من تساؤل أخلاقي وتمتد لتطرح تساؤلات أكبر عن الضحية والجلاد والمذنب والقامع، عمن هو المعتدي ومن هو ضحية العدوان،وهل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي أخلاقي أم سياسي. ومثل هذه التساؤلات الكامنة تحت جلد الدراما، هي ما يمنح هذا الفيلم خصوصيته وجماله الداخلي.

عن الإخراج

لدينا اختيار جيد لمواقع الأحداث، وتصميم فني بديع: منزل ساره ودافيد الفسيح الجميل المنسق، في تناقضه مع شقة بيسان وسليم الضيقة الفقيرة (مصمم المناظر بشار حسونة). ولدينا تصوير يحرص على إضفاء الواقعية على الصور دون افراط في الضوء، بل ينتقل في نعومة، من الداخل الى الخارج، ومن النهار الى الليل، بفضل براعة مدير التصوير الألماني “سباستيان بوك”. يتميز الفيلم أيضا بإيقاع متماسك داخل المشهد الواحد، وإيقاع عام للفيلم يتدفق بسلاسة دون وجود لقطة زائدة أو أخرى ناقصة. ويدرك المخرج بالتعاون مع المونتير (سمير قمصية) متى وأين ينتقل من مكان إلى آخر، لا تضيع منه شخصية في الزحام، ولا يغفل عن تفصيلة من التفاصيل التي ألقى بها في مسار الفيلم في البداية دون أن تلفت نظرنا، لكننا سنكتشف أن دلالتها كبيرة فيما بعد. ومثالا على هذا: يصر دافيد أمام رؤسائه أنه لم يبح لزوجته قط بتفاصيل سرية تتعلق بعمله. لكن رئيسه يفاجئه بتسجيل مكالمة أجرتها زوجته ساره، تطلب من سليم عدم الذهاب الى رام الله “التي ستشهد عملية عسكرية تلك الليلة”. وكان دافيد قد اعترف لها بالفعل أنه سيتولى قيادة القوة التي ستشن الغارة على رام الله.

سليم يواجه قضاء حياته وراء القضبان بسبب خطأ

يختار مؤيد عليان زواياه بعناية، يجعل الكاميرا تتلصص عندما يقتضي ذلك، أو يجعلها شاهدا على الحدث، أو اقتحامية من دون اعتداء، يهتم كثيرا بتكوين اللقطات، وبالحركة خارج الكادر، تستطيع أن تستنتج من دون أن ترى، وأن تشعر من دون أن تقترب. ولا يفرط كثيرا في تحريك الكاميرا لكي لا يفسد المناخ الواقعي. إنه يجعلها تهتز في ارتباك مع ارتباك بطله ضحية الواقع السياسي المتشابك في فلسطين. لكن سيطرة عليان على الممثلين مدهشة.

عن التمثيل

لاشك أن من أهم عوامل نجاح الفيلم وتأثيره الكبير يرجع الى أدارء مجموعة الممثلين جميعا وفي مقدمتهم بالطبع أديب صفدي في دور سليم، بتعبيره البليغ عن الفلسطيني “البسيط” الذي يريد أن يعمل ويعيش ويبحث أيضا عن المتعة خارج الزواج، ولكن خطيئته هذه ستسقطه في هاوية سحيقة. لا تقل عنه قوة في الأداء الممثلة سيفان كريتشنر في دور ساره، التي تنتقل ما بين المرأة المغوية اللعوب إلى الزوجة والأم، ثم إلى الشعور بالذنب والرغبة في التكفير في النهاية. وكعادتها تتميز ميساء عبد الهادي في دور بيسان، التي تعاني من آلام الحمل وتتحامل لكي تدافع عن كرامتها كامرأة، لكنها تريد أيضا أن ترد الضربة إلى المحتل قبل أن تنتقم من الزوج. من الأدوار المتميزة كثيرا أيضا دور “أبو ابراهيم” الذي أداه بصدق وإقناع وبساطة كامل الباشا رغم ظهوره القصير، ومحمد عيد في دور محمود الذي داء شديد الإقناع، وإيشال غولان في دور دافيد المكتئب المكنب على دوره كممثل لشراسة المحتل.

“التقارير عن ساره وسليم” لا يقل أهمية عن فيلم “عمر” لهاني أبو أسعد. لكني أنصح مخرجه باختيار إسم آخر له أكثر تعبيرا ودلالة وبساطة أيضا من هذا العنوان “التقريري”!

Visited 58 times, 1 visit(s) today