“البيات الشتوي” عزلة المثقف داخل سجن الذات

يُعتبر المخرج التركي نوري بيلچ جيلان من أهم المخرجين المعاصرين في تركيا الآن. وقد بدأ الإخراج في سن متأخرة حيث كان عمره 35 سنة. وتعتبر أفلامه كلها مهمة، بدءاً من Uzak أو “بعيد” (2002) وانتهاءً بفيلمه “البيات الشتوي” Winter Sleep (2014) .

وقد عُرضت كل أفلامه في مهرجان “كان” الدولي وحصدت العديد من الجوائز في الأقسام المختلفة للمهرجان إلى أن تُوّج فيلمه “البيات الشتوي” بجائزة السعفة الذهبية. وأثناء تسلمه الجائزة أكد جيلان على القيمة والمغزى العميق لتلك الجائزة التي تواكب إحتفالية مرور مائة عام على نشأة السينما التركية. 

“البيات الشتوي” عرض في القاهرة أخيرا ضمن عروض “بانوراما الفيلم الأوروبي”.  ورغم طول مدة الفيلم التي بلغت ثلاث ساعات وربع الساعة، لا يشعر المشاهد بالضجر أو الملل، وذلك لعمق الحوار والسيناريو المحكم الذي يجعلك تهيم مع شخصيات الفيلم. ويقول جيلان إن مدة عرض الفيلم قبل المونتاج كانت أربع ساعات ونصف ولكنه استطاع تقليصها إلى المدة التي عُرض بها.

ويحكي “البيات الشتوي” قصة رجل في العقد السادس من العمر يُدعى “آيدن” كان يعمل في الماضي ممثلاً مسرحياً، ولكنه ترك تلك المهنة التي أحبها كثيراً ليدير فندقاً صغيراً يقع في منطقة نائية في وسط الأناضول بتركيا. ويعاونه في إدارة الفندق زوجته نيهال وأخته المطلقة نكلة اللتان تعيشان معه. وهو رغم ذلك يشعر بالوحدة ويحاول كتابة كتاب عن تاريخ المسرح التركي، كما أنه يكتب مقالات قليلة في جريدة لا يقرأها سوى سكان القرية الجبلية التي يعيش بها. ورغم اشتغاله بالثقافة إلا أنه يشعر بالندم على حياته التي مضت، حياة الإبداع التي يفتقدها.

والمعروف عن المخرج جيلان أنه يكتب أفلامه بمساعدة زوجته إيبرو؛ وهو يقول أنه اختار إسم “آيدن” لبطل الفيلم والتي تعني مثقف بالتركية. وهنا نجد التدقيق منه في اختيار الأسماء، كما نلاحظ أهمية الحوار في كل المشاهد، حيث يعتمد الفيلم كليةً على الصراعات الفكرية بين البطل وزوجته وأخته. وأذكر كمثال ذلك الحوار الطويل بين البطل وأخته، والذي نفهم منه أن الأخت ترى أن أخاها يهدر وقته في المقالات التي يكتبها في الجريدة، بينما يرى البطل أهمية كتاباته لأن كثيراً من القراء يبعثون إليه بخطابات استفسار عن حلول لمشاكلهم.

وفي مشهد آخر نعايش الصراع الفكري الدائر بين الزوج والزوجة اللذين لا يستطيعان الحياة مع بعضهما، حيث تجرفنا صراعاتهما المستمرة داخل دوامة ذلك الزواج الذي يوشك على الإنهيار والدمار.

أما بالنسبة للمزاج العام للفيلم، فقد استطاع جيلان خلق جواً من الإنغلاق والتمحور حول الذات، فبالرغم من وجود الفندق في منطقة جبلية، إلا أن المشاهد الداخلية في المكان الذي يدوّن فيه البطل كتاباته تشعرك بالوحدة وكأنه يعيش في سجن من صنع نفسه. وقد أدّى ذلك الجو الإنغلاقي إلى الشعور بعدم الألفة بين أفراد العائلة والفندق نفسه.

الاحساس بالفشل

وبتحليل شخصية البطل آيدن، نجد أنه يشعر أنه لم يحقق شيئاً في حياته، فهو فاشل في جميع جوانب الحياة، يعيش في ماضيه عندما كان ممثلاً مسرحياً، ويحاول إدارة فندق فاشل لا يرتاده إلا القليل من السائحين، وعلاقته بأفراد أسرته متوترة جداً، حيث لا يمكنه التفاهم معهم. ونجده قرب نهاية الأحداث يحاول الهروب من هذا المكان إلى إسطنبول، ولكنه يجد نفسه يعود مرة أخرى إلى مكان الفندق الموحش. ويلعب دور آيدن الممثل التركي هالوك بلجينير. 

وأخيرا، وكما في أفلامه السابقة، فقد استطاع المخرج خلق فيلم ممتاز في جميع عناصره. كما يجب الإشادة بأداء جميع الممثلين الرئيسيين، وعلى رأسهم بطل الفيلم الذي هو في الأصل ممثل مسرحي تركي. كما يجب التنويه إلى قوة الحوار المستخدم في شتّى المشاهد.

ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى تدقيق المخرج بالتفاصيل، وخاصةً في بناء مشاهد داخلية رائعة الإضاءة، أذكر من أهمها مشهد الحوار المطوّل بين البطل وأخته، وتركيزه على الديكور كالأرفف التي تحمل الكتب والأباجورات وغيرها.  ويقول نوري بيلچ جيلان إن فكرة “البيات الشتوي” مستوحاة من بعض أعمال الأديب الروسي أنطون تشيكوڤ.

Visited 29 times, 1 visit(s) today