“البلد السهل”.. البداية من الصفر في مستقبل ضبابي
“الماكيت” أو النموذج المصغر، هو شكل هندسي مصغر يتم تصميمه ليكون عبارة عن رؤية أولية لشكل المبنى المراد بنائه في المستقبل، إما أن يسير الأمر بشكل منضبط للنهاية أو يواجه هذا التصميم بعض الصعوبات حتى يخرج إلى النور أو يفشل تماما، واختارت المخرجة سانيا زيفكوفيتش الصربية الأصل والكندية الجنسية اسم هذا التصميم ليكون عنوان فيلمها الروائي الطويل الأول “البلد السهل” “Easy Land”، وهذا التصميم الهندسي المصغر يعتبر حلم البطلة “ياسنا” السيدة الصربية المهاجرة إلى كندا ليكون مكانا سكنيا كبيرا يضم المهاجرين، ويوفر لهم الحياة الكريمة بمنتهى السهولة بعيدا عن التعقيدات الروتينية والتضييق الإنساني الذين يعانوا منه في دول المهجر.
تؤكد المخرجة على هذا الأمر التي تبدو انها تقدم سيرة ذاتية لها بعد تركها صربيا والهجرة إلى كندا، فقد أفرطت في استخدام الكاميرا الطائرة واللقطات الطويلة لتصوير الأماكن الخاصة التي يعيش فيها المهاجرون والتي تشبه الجيتو اليهودي القديم، لكن الفارق أن الجيتو كان اختياريا للعائلات اليهودية عكس أحياء المهاجرين الحالية التي تكون مفروضة عليهم، فهي أبنية متواضعة الشكل، ضيقة شديدة الانغلاق، تشعر وكأنها منعزلة عن المدينة الأصلية فلا مجال لأي اهتمام بالبنية التحتية أو النظافة أو حتى أبسط حقوق القانطين فيها.
تعيش “يانسا” مع ابنتها “نينا” بمفردهما في كندا ويظهر انهما من المهاجرين الجدد، ويتم وضع الأم تحت المراقبة الاجتماعية لأنها تعاني من اضطراب نفسي تسبب لها في مشكلة كبيرة في عملها السابق، وظلت تلك الازمة تلاحق الأسرة منذ الهجرة، وأثرت على الابنة التي تأخرت مرحلة دراسية عن زملائها لهذا كان عليها تقديم مشروع عبارة عن مساهمة فنية مع مخرج ينفذ رواية في أحد المسارح.
اللقطة الأولى للفيلم تقف الأم في شرفة المنزل وتنظر إلى الجانب الآخر من المدينة حيث التحضر والأبنية الفخمة، تعمل الأم – طبقا لقرار المراقبة الاجتماعية- في شركة ديكور صغيرة في عمل غير مرضي لها فهي ترى أن امكانيتها وقدرتها الهندسية تفوق هذا العمل الممل الرتيب التي ترى أنها حتى أفضل من “ليندا” مالكة الشركة وظهر من خلال نظرة يانسا إلى شهادة ليندا الهندسية، أما الابنة فعلاقتها محدودة فلا وجود لأصدقاء أو لحياة مرفهة فهي تكافح بمرور الوقت، تحلم بالعودة السريعة إلى بلجراد حيث يتواجد حبيبها السابق، تحاول التغلب على الحياة الصعبة ببيع الهواتف المحمولة المسروقة بشكل سري.
يظهر على الملصق الدعائي “الأفيش” الخاص بالفيلم صورتان يجمعهما وجود انعكاس وتطابق في نفس الوقت، كأنها مرآة للأم والابنة وهما في حالة عناق، في صورة يظهر وجه الأم وفي الأخرى يظهر وجه الابنة، فالاثنين لديهما نفس الأزمة وكلتهما تحاول إعادة المكافحة لبناء المستقبل الذي يبدو رماديا للتغلب على ذكريات الماضي المؤلمة التي لا يعطينا الفيلم تفاصيل عنها.
معاناة الأم الأولى كانت خلال فترات الحروب الصربية المتعاقبة التي مزقت هذه الدولة أو الموطن الأصلي، أما الابنة برغم انها لم تعيش تلك الأوقات لكن تأثير الحروب يتوارثه الأجيال لكن تظل مشكلة نينا خاصة بالأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أوروبا منذ أعوام وكانت دول القارة الشرقية الأكثر تضرر، فتلك الأزمات جعلت الأسرة الصغيرة جدا دائمة البدء من الصفر سواء بعد الحرب في صربيا أو بعد الأزمة الاقتصادية هناك أيضا أو حتى بعد الهجرة.
تمتلك يانسا ونينا موهبة فطرية سواء التصميم الهندسي للأولى او الرؤية الثاقبة بالنسبة للثانية، لكنهما في بلاد المهجر في حاجة إلى عامل مساعد يزيح التراب ويكتشف تلك التفاصيل المميزة فيهما وبالتأكيد الأمر صعب في ظل علاقاتهما المحدودة مع الآخرين فتصبح فرصة الحصول على الهدف أكثر صعوبة، وأيضا نسبة الأشخاص الذين يتسببوا في خذلان الأسرة مثل “بنجامين” أكثر من الداعمين الجادين “أرمان” لكن القاعدة العريضة التي تدعم الأسرة تكون مؤقتة بناء على مهمة او شفقة على غرار الطبيب النفسي أو المعلمة، لكن هذه الأسرة بحاجة إلى شخص مثل “جريج” المخرج المسرحي الذي أعاد الثقة للابنة حتى وان ظهر متعجرف في البداية.
الخط الذي اختارته المخرجة الخاص بالمسرحية كان مميزا ومتوافقا مع الأحداث خصوصا في التفاصيل التي حددتها سانيا، وفي مقدمتها اختيار مسرحية “نهاية اللعبة” للكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت فهو اختيار في منتهى الدقة للربط بين الفيلم وأحداث المسرحية، التشابه الأول ان العملين أبطالهما محدودين في العدد، فالمسرحية ضمت أربعة شخصيات فقط والفيلم أيضا الأحداث تتمحور حول بطلين، شخصيات خيط ضعيف يربطهم بين الحياة والموت، كائنات تعاني من “الشلل” يطلون على العالم الخارجي القبيح القذر، تجد نينا أن أعمال بيكيت سيئة ويبدو ان رؤيتها ليست فنية لكن تلك الأعمال وخصوصا هذه المسرحية تتلامس مع واقع نينا وتضعها أمام مستقبلها المظلم.
التفكير في المستقبل وكيفية البناء أهم ما يشغل بال المخرجة فقد كان العامل الأساسي في العلاقة الفاترة بين الأم والابنة والتصادمات الخفيفة المتكررة التي لا تتوقف، ولم تظهر الحميمية بينهما إلا في مشهد واحد الذي جاء بعد حصول نينا على ثناء معنوي من المخرج وتنفيذ وجهة نظرها وترك الممثلين في تجربة حالة الارتجال أثناء البروفات، ثم قيام نينا بعلاقة جنسية للمرة الأولى مع صديقها “أرمان” المهاجر هو الآخر، وأيضا اعتقاد نينا بحصول والدتها على الثناء أيضا على مشروعها الهندسي الذي سيؤدي إلى نقلة اقتصادية تنتشلهما من الفقر والتقشف، ذلك المشهد عكس رؤية المخرجة التي ربطت بين سعادة الأسرة المتعلقة بوجود مستقبل أفضل.
الأداء التمثيلي كان الداعم الأكبر لهذه التجربة التي تعتمد على شخصيتين رئيسيتين: الأم وقامت بدورها الممثلة المخضرمة “ميريانا جوكوفيتش” التي شاركت من قبل في فيلم “المترو” للمخرج الصربي الشهير أمير كوستوريتشا، أما دور الابنة فقد قامت به الممثلة “نينا كيري” وهي ممثلة صربية حققت شهرتها من خلال المشاركة في المسلسل الشهير “The Handmaid’s Tale”، وأيضا الأداء الملفت للمثل الكندي دانيال كاش الذي قدم دور المخرج جريج تلك الشخصية التي تجمع بين الهدوء والعجرفة.
اكتشفت نينا في الصباح أن التصميم الهندسي لم يلق قبول، وكانت تلك نقطة التحول الحقيقية لتلك الأسرة التي بعدها قررت الابنة انها ستتحمل المسئولية واتجهت إلى صاحب المنزل لتسديد الأموال المتأخرة وهو الموقف الذي رفضته الأم في بداية الفيلم لكن يبدو أن التاريخ يعيد نفسه فأغلب الظن أن يانسا قامت بنفس الأمر في الماضي أثناء التواجد في صربيا، إلى أن قررت الانتحار لعدم وصولها لما تحلم به، ويبدو أن نينا ستقطع نفس طريق والدتها في بلاد المهجر لكن هل سينتهي بها المطاف إلى الانتحار أيضا؟
تختتم المخرجة فيلمها بمشهدين بديعين الأول في المستشفى بعد انقاذ الأم من محاولة الانتحار حيث ظهرت اللقطة تبدو الرؤية فيها مشوشة ضبابية تعبر عن مستقبل الثنائي في الغربة، وفي المشهد الثاني تقوم الابنة باحتضان والدتها لإظهار مشاعر الحب المتبادل المستتر وراء أوجاع الماضي وصعوبة الحاضر وقتامة القادم والأهم للتأكيد على ضرورة البداية من الصفر مرة أخرى وهو موقف اعتادت عليه الأم قديما ويبدو أنه سيكون نمط حياة الابنة في المستقبل.