“البحث عن سيد مرزوق”.. الرجل الذي استيقظ

نور الشريف وآثار الحكيم في "البحث عن سيد مرزوق" نور الشريف وآثار الحكيم في "البحث عن سيد مرزوق"

يبدو فيلم “البحث عن سيد مرزوق” من تأليف وإخراج داوود عبد السيد (1991) كجوهرة لامعة في مسيرته السينمائية، وفي مسيرة الفيلم المصري، رغم أن العمل لم يحقق نجاحا تجاريا عند عرضه، بعكس فيلمه الأشهر “الكيت كات”، الذي عرض في نفس الفترة، مما جعل داوود يقول إنه ربما لم يستطع أن يصل بفيلمه الى الجمهور، ولم يستطع أن يختار الشكل المناسب لفيلمه الهام.

من حيث المضمون، فإن “البحث عن سيد مرزوق” تتمثل فيه تقريبا التيمات الأساسية التي يختبرها داوود في أعماله الروائية الطويلة، وأعني بذلك تيمة المراقب الذي يتورط ويصبح مشاركا، بعد أن يخوض تجربة صعبة وشاقة، وتيمة العجز في مقابل القدرة، وهي أيضا محاولة يختبرها في قلب التجربة، وليست مجرد فكرة نظرية مجردة، وتيمة القيود في مقابل الحرية، ولعل سينما داوود كلها في عنوانها العام هي سينما محاولة تحطيم الأغلال، بكل أنواعها، سواء كانت داخلية نفسية، أو كانت أغلالا خارجية مرئية، أقول “محاولة” إذ أن النتائج ليست نهائية أو قاطعة، والحفاوة لديه تكون بالمحاولة في حد ذاتها، لأنها دليل الإنتقال من العجز الى القدرة، ودليل رفض دور المتفرج أو المراقب، المحاولة  عنده هي دليل إنسانية الإنسان، بصرف النظر عن نتائجها.

أما من حيث الشكل، فإن بناء “البحث عن سيد مرزوق” يأخذنا الى منطقة أقرب الى الكابوس أو الحلم المضطرب، شخصية سيد مرزوق تمارس خيالا كاملا في حكاياتها، والعلاقات بين المشاهد المتتالية ليست سببية كما تعود المتفرج في السرد التقليدي، إننا أمام رحلة ومشاهدات رجل من خلال عالم متسع لم يكن يعرفه، وعن طريق مرشد له عجيب وغريب اسمه سيد مرزوق.

في عالم الحلم تتغير المشاهد بمنتهى الحرية، وتتغير أيضا أسماء نفس الشخصية كما يحدث مع الفتاة التي لعبتها آثار الحكيم، بل ويمكن في عالم الحلم أن تستعير شخصية وجه شخصية أخري، ويتفكك السرد الى أجزاء تتطلب التجميع.

هنا سرد “يستعير” آليات حرة في الإنتقال تشبه آليات الأحلام، ولكنه ليس سردا معقدا أو سيرياليا مثلا، حيث يمكنك رغم الإنتقالات بين الأماكن، ورغم عدم التصاعد التقليدي، أن تميز الشخصيات وعلاقاتها بوضوح تمام، بل إن الحوار يوضح على لسان الشخصيات مغزى الرحلة أو الحكاية، كما أن المشاهد التي تبدو منفصلة في البداية، مثل مشهد الرجل الذي تحتاج ابنته الى حضّانة، ومشهد الرجل الذي يقلد شارلي شابلن، سرعان ما تكتسب دلالاتها في نهاية الفيلم، فهي جزء من كلّ، ويوسف (بطل الرحلة) لن يظل كما هو من البداية حتى النهاية، ولكنه سيتغير، وستصل الأحداث الى ذروة حقيقية بدفاع يوسف عن نفسه، وبرغبته في قتل سيد مرزوق، بعد أن كان يحبه.

مواطن ومخبر وبيزنس مان

منطق الكابوس هنا أزاح منطق الحدوتة التقليدي، ولكنه لم يقم بإلغائه، فقد ظل من الممكن أن تحكي القصة ببساطة عن علاقة ثلاثية بين يوسف كمال (المواطن)، والمقدم عمر أبو شادي (رجل الأمن / المخبر)، ورجل الأعمال سيد مرزوق (السيد المرزوق كما يدل اسمه، وهو البيزنس مان المثير للريبة)، أي أن الفيلم ببساطة يحلل العلاقة بين مواطن ومخبر وبيزنس مان، حيث يختبر داوود بالتجربة علاقات القوة والضعف، والعجز والقدرة، والغفلة واليقظة.

أردت أن أقول إن شكل السرد المختلف عما تعود الجمهور لم يكن في حده الأقصى، رغم غرابة وحدة الإنتقالات، وخصوصا في بداية الفيلم، كما أن هذا الشكل ليس سيرياليا يغيب فيه المنطق العقلي مثلا، بل إن بناء الفيلم عقلاني تماما، كل شيء له معنى، وكل مشهد جزء من اللوحة العامة، بشرط أن تتأمله في إطار اللوحة، كما أن استعارة السرد لآلية عمل الأحلام، وقفزاتها، لا يعني أننا أمام حلم كامل أو كابوس في عقل يوسف النائم مثلا،  لأن الفيلم عن “يقظة يوسف” ، وليس عن منامه، إنه مجرد “استخدام” فقط  للطريقة الغريبة التي يعمل بها الحلم، والذي يتحول هنا حرفيا الى كابوس، بعد أن يزول انبهار يوسف بعالم سيد مرزوق العجيب.

ولكن هل كان يمكن أن يكون السرد تقليديا؟

 نعم بكل تأكيد، ونظريا فإن كل طريقة سرد لفيلم سينمائي يمكن تستبدل بطريقة أخرى، ولكن معيار الحكم هو مدى ملاءمة طريقة السرد في “البحث عن سيد مرزوق”، لمغزى الفيلم، أي ملاءمة شكل السرد للمضمون، وهنا نقول بكل ثقة إن داوود اختار شكلا مناسبا بدرجة مدهشة، لأن هذه الغرابة السردية متوافقة تماما مع غرابة تجربة يوسف الفريدة، الذي يواجه العالم بدهشة طفل، بعد 20 عاما من العزلة والإنكفاء على الذات، فكل ما يراه غريب أصلا، فما بالنا لو زاد الأمر غرابة بأحداثه وشخصياته وتفاصيله؟

هدف الرحلة كلها هي أن يتحول يوسف من التسليم الى السؤال، وهذا الشكل الغريب يثير التساؤلات عن كل شيء، ومنذ المشاهد الأولى، حتى يطرح يوسف تساؤلات متتالية أكثر تعقيدا في حواره في السيارة مع سيد مرزوق، تساؤلات ستنقله الى خانة المشارك فالمتورط، حتى يصبح فاعلا وصاحب موقف في النهاية.

الشكل الغريب ليس لعبة مجانية، بل هو المعادل المستتر لفكرة اليقظة والسؤال، إنه يحقق هدفه تماما في أسئلة يوسف ودهشته، والدهشة ستثير فضولا، يؤدي الى اكتشاف وتحديد مواقف وتورط وأفعال.

هذا السرد المثير للأسئلة في كل مشهد تقريبا، ومع ظهور كل شخصية جديدة، لا ينقل يوسف وحده من خانة المراقب، الى فئة المشارك، ولكنه يقوم بنفس الدور مع متفرج الفيلم.

 الفكرة هنا هي أن الحكاية ليست عن يوسف وحده، ولكنها عن كل متفرج يكتفي بالفرجة، لأن الأمر لا يعنيه، يستفز السرد المتفرج، لأنه يتطلب يقظة، واليقظة تحمل اكتشافا أو محاولة للاكتشاف.

موقفك سيكون إما برفض اليقظة، مع توفير الإهتمام لأشياء أخرى خارج الفيلم، وهنا سترفض اللعبة من الأصل، أما لو واصلت المشاهدة، فستطرح الأسئلة في نفس اللحظة التي يطرحها يوسف داخل الفيلم، وربما تتحرر منها في النهاية في نفس اللحظة التي يتحرر فيها يوسف من أسئلته وتجربته الصعبة.

كان يمكن أن يسرد داوود حكايته بشكل له مستوى تقليدي بسيط، ولكنه لم يكن سيحقق في رأيي هذا الإمتزاج بين الشكل والمضمون، الغرابة هنا ليست مجرد لعبة سردية، ولكنها مضمون الرحلة نفسها، سواء في دهشة طفل كبير يرى مجتمعه لأول مرة، أو سواء في غرابة العلاقة أو التحالف بين الأثرياء وبين رجال الشرطة، أو بمعنى أوضح بين أهل الثروة، وأهل السلطة الأمنية.

الغرابة أصلا في هذا التقسيم الفئوي للمجتمع، والذي يقوله سيد مرزوق نقلا عن عمر أبو شادي، وهو تقسيم اقتصادي اجتماعي ومرتبط أيضا بالموقف من القانون، هو كذلك تقسيم مغلق، بحيث لا يمكن أن يتجاوز كل مواطن فيه حدود فئته، وعندما حاول يوسف أن يتجاوز تصنيفه في فئة الغلابة، ليصبح في فئة المشاغبين، قام الأسياد المتحالفين مع الأمن بتحويله الى فئة المطاريد.

غرابة السرد هي الترجمة المثلى لغرابة ثراء يوسف مرزوق، وحكاياته الغريبة عن الثروة، وفتح أبواب المدينة له، وهي غرابة تتسق مع عالم رجال البيزنس الأقرب الى عالم ألف ليلة وليلة، الغرابة السردية تتسق أيضا مع غرابة منطق رجل الأمن عمر، الذي يبدو كما لو كان موظفا لدى رجل الثروة، وليس موظفا لدى الدولة ومواطنيها، والغرابة السردية تبدو أيضا متسقة تماما مع غرابة أن يشعر يوسف، والفتاة متعددة الأسماء، بالخوف داخل قسم الشرطة، وليس بعيدا عن القسم!

ثلاثة أنواع

رحلة البحث عن سيد مرزوق، والتي يقوم بها يوسف كمال، فيكتشف فيها أيضا عمر أبو شادي، هي قراءة مدهشة لأنواع ثلاثة من الشخصيات أفرزهم زمن الفيلم، ونراهم أمامنا حتى اليوم:

 النوع الأول هو الشخص العادي من فئة السائرين بجوار الحيط، والذين لا يريدون المشاكل، وهم من فئة الغلابة، الذين لا تتغير حياتهم، بل يسيرون فيما يشبه الدوائر، فيعودون الى نفس النقطة.

يوسف كمال (نور الشريف) هو النموذج الأبرز في الفيلم لهذه النوعية، فمنذ أن قال له صوت في مظاهرة اشترك فيها: ” أرجع يا يوسف للبيت”، انطوى على نفسه، وانحصرت حركته من البيت الى العمل وبالعكس، رتابة وظيفية كاملة تثير الملل، حتى المنبه الخاص به كف عن إيقاظه بالرنين، لعله أصابه التعب فتعطل، أما يوسف فهو آلة متحركة لم تتعب بعد، لدرجة أنه ينزل مهرولا ليذهب الى العمل يوم الجمعة.

هو لا يرى النساء الا في الشارع، ويحلم بفتاة ينتظرها، وسيراها مجسدة أمامه في رحلة يقظته، متعددة الأسماء (رضا وعبلة ونجوى ومنى)، وكأنها عناوين مختلفة لنفس الشخصية الحلم، مراوغة ومتلونة وصعب الوصول إليها، ولهذا تحمل أكثر من اسم، ولعلها أيضا تمثل كثيرات في كل مكان، وبمختلف الأسماء، دائما خائفة ومضطربة، تظهر لتختفي، حضورها هش وعابر، وتذكرنا في ذلك بعبارة قالها سيد مرزوق ليوسف عندما وصفه بأنه: “موجود ومش موجود”. هذا هو المواطن الذي اختار أن يكون على الهامش، غير مرئي وصامت حتى لا يهاجمه الصوت الذي طالبه يوما ما بالعودة الي البيت وإلا.

 الفتاة متعددة الأسماء أيضا مواطنة عادية مسكونة بالخوف، إنها حلم يوسف الذي يراه واقعا أمامه، ولكن الفتاة لن تنقذه، ستتعاطف معه فحسب في قسم الشرطة، ولكنها أيضا خائفة، واختفاؤها الأخير قد يكون في داخل قسم الشرطة.

النوع الثاني هو الشخص غير العادي سيد مرزوق ، وهورجل ثري للغاية، ويستمتع بالحياة وبالحرية، يدير 5 شركات، ويتحدث 4 لغات، يعرفه يوسف على الفور عندما يراه، ويقدمه بوصفه المهندس والمقاول الشهير.

سيد مرزوق (ودلالة الاسم واضحة) هو “سيد” الزمن الجديد، وهو “مرزوق” بالحظ والثروة والنفوذ، وبالبشر الذين يعرفهم، وبالسلطة التي تسهر على حمايته، والصورة التي قدمها الفيلم له تجعله أقرب الى الأساطير المتحركة، إنه لا يكتفي بفتح أبواب المدينة، وبفتح باب مقبرة الملوك، ولكنه ينطلق في الحكي ليفتح أيضا أبواب الخيال، لقد أمتلك الواقع تماما، فصار فوق الواقع.

في حكاياته وفي الأماكن التي يختارها للحكي ما يشير حرفيا الى امتلاك المدينة، نراه وهو ينصب خيمته ليشرب الحشيش في قلب مقبرة أسرة محمد علي، ويحكى قصصا خرافية عن ثراء أسرته، وعن حديقة حيوان خاصة حرضت الدولة على تأميم ثروة أسرته، يتحدث ببساطة عن “عقدة الفيل الضائع”، فبعد أن فقد الفيل والحديقة، أصبح يسعى للبحث عن فيل بديل يمنحه تميزا وقيمة، أراد أن يعوض الثروة الضائعة، ولكنه يشعر في نفس الوقت بأنه غير محترم، رغم احترام الناس له.

 سيد مرزوق يجسد أشباح الثراء القديم، وعفاريت الثراء الجديد معا، وفي حكاية انتزاع قطعة أرض من رجل يهدده الآن بالقتل، ما يدل على نوع هذا الثراء، وطرق الوصول إليه.

الرجل غير العادي استراح للرجل العادي يوسف، وجد فيه طفلا مندهشا لم يشرب من قبل إلا بعض أكواب البيرة، اعتبره موجودا وغير موجود، ووجده دوما مستمعا عظيما.

 الفاعل يسعده أن يحكي للمراقب الواقف على شاطيء الحياة، والمراقب سعيد بأن يتنازل رجل غير عادي فيختصه بالحكايات، وسعيد أكثر لأنه يرى رجلا شامل القدرة والقوة، بعكس شخصية يوسف، ولذلك يقول يوسف إنه يحب سيد مرزوق، لأنه ببساطة حقق ويحقق كل ما لم يستطع يوسف أن يحققه، وعندما يتحدث يوسف مثلا عن حلمه بفتاة ما، تظهر فجأة فتاة بجوار سيد مرزوق، فكأن ما يحلم به يوسف، هو أمر واقع في حياة سيد مرزوق.

القوة والسلطة

أما النوع الثالث فهو أيضا شخص غير عادي، ليس بسبب الثروة، وإنما بسبب السلطة الأمنية التي يملكها، وهو الضابط عمر رجل المباحث، والذي يتركز عمله معظم الوقت في حماية سيد مرزوق بل هو أحرص على حياة مرزوق منه شخصيا، بينما يعامله مرزوق ببعض التعالي، صحيح أنه يصفه بأنه ضابط غير عادي سريع الترقي، ولكنه يرى أن اهتمام الضابط المبالغ فيه بسلامته، يؤثر على حريته في مدينته التي فتحها بثروته.

عمر يعامل يوسف من ناحيته ببعض التعاطف، ربما لأنه اكتشف من البداية أنه لا يشكل خطرا من أي نوع، ولا من أي اتجاه، ولعله اكتشف أنه مجرد مواطن خائف جديد مثل كثيرين التقاهم.

 يوسف نفسه كان مرعوبا منذ البداية، لدرجة أنه ظل مربوطا بالكلبش والكرسي في كل مكان يتحرك فيه، ولم يخرج يده أخيرا إلا بمساعدة عمر، وكان عمر أيضا هو الذي لفت نظر يوسف الى أن خوفه وهروبه من السيارة جعله الشخص الوحيد المصاب في عملية إطلاق النار، الخوف إذن لا يمنع من الإصابة، بل قد يكون سببا فيها.
وقد حرص عمر كذلك على إظهار قوة الأمن وشراسته  ليوسف في مشهد إطلاق النار، كما حرص على أن يجيب عن تساؤل يوسف حول الدمى التي يلقونها في الماء، فينتشلها رجال الضفادع البشرية، هذه الدمية تجسد استهانة كاملة بالبشر، وقوة مطلقة لا يمكن محاسبتها أو سؤالها عما تفعل، وقد وصلت الرسالة تماما الى يوسف الخائف أصلا من العالم خارج البيت.

تنسب الى عمر أيضا نظرية أنواع الناس التي نقلها عنه سيد مرزوق بعد أن استملح معناها، والنظرية تقسم الناس الى أسياد وغلابة ومشاغبين ومطاريد، ولأن المقدم عمر ليس غلبانا وليس من المطاريد ولا من المشاغبين، فلابد أن أنه يضع نفسه في فئة الأسياء الجدد، رأسا برأس مع سيد مرزوق، ولعل هذا سبب اهتمام السيد عمر بالسيد سيد مرزوق، وهو أيضا اهتمام لا يخلو من فائدة متبادلة.

الآن، وقد تحددت الأنواع الثلاثة للشخصيات، فإن الفيلم ليس إلا رحلة يوسف، الرجل الذي استيقظ، لاكتشاف عالم سيد وعالم عمر، وهما رجلان لا ينامان، إنها رحلة المراقب والمتفرج الأبدي، لاكتشاف ما فعله اللاعبان الكبيران، أهل السلطة والأمن، في غيابه.

انبهار ومواجهة

 ينبهر يوسف في البداية بما يفتقده في نفسه (الثروة والقوة)، فيحب سيد، ويخاف عمر ويمتثل له، ولكنه سرعان ما سيكتشف أنه لم يكن سوى ألعوبة في يد مرزوق وعمر، وأنه في لحظة ما لن يتردد أهل السلطة وأهل الثروة في التضحية به، بل وسيكتشف أن يقظته في يوم أجازته من أخطر ما حدث له في حياته كلها، وأن حصاد الرحلة كلها هو أنه من المستحيل أن يلتقي الغلابة والمطاريد والمشاغبين في خندق واحد مع الأسياد.

يوسف غلبان يتحول الى مشاغب، فلا يصمت على ظلمه وتلفيق التهمة له، سيكره سيد مرزوق بدلا من أن يحبه، وسيتحول أيضا الى أحد مطاريد البوليس في مشهد النهاية، وبنهاية مفتوحة تقول إن الصراع مفتوح ومستمر، هذا غلبان واحد أقلق راحة المدينة، بعد أن جرب وعرف واكتشف، فماذا يمكن أن يحدث لو استيقظ غلابة آخرون؟

الغلابة في الفيلم كثيرون، وليس يوسف كمال فقط، ولكنهم مختلفون في رد فعلهم تجاهما يعانونه، هناك الرجل الذي يحتاج 2000 جنيه لكي يضع ابنته في الحضانة، وهو أول من يلتقيه يوسف في رحلته لاكتشاف المجتمع، الرجل سيكتشف أنه يمكن أن يكون إيجابيا بدلا من التسليم بالهزيمة، يفكر في أن يحاول أن يصنع حضانة بنفسه، محاولة ومغامرة قد تفشل، ولكنها أفضل من أن يكتفي فقط بمراقبة موت ابنته الوليدة أمام عينيه.

شابلن الأصلي أيضا من الغلابة الذين يتحايلون على المعايش، ولكنه مستسلم تماما لظروفه، لا يغير مهنته أبدا وكأنها قدر مقدور، ويقبل دوما بالفتات، يذهب الى  الرزق في الشارع الهاديء، ولا يضر أحدا، ويسير داخل الحيط، وليس الى جواره، ينشر البهجة، ويرضى بالنصيب، ويبتسم رغم الظروف، ومع ذلك ستقتله سيارة سيد مرزوق وفيها يوسف نفسه، وهي لحظة تنوير هامة في الفيلم، حيث يبدو شابلن معادلا آخر للمواطن يوسف، مما سيمهد لتمرد يوسف على سيد مرزوق، وهو بالأساس تمرد ليوسف على وضعه الدائم كمواطن مراقب.

العاهرة التي التقاها يوسف هي أيضا تنويعة على فئة الغلابة، تزعم أنها أمريكية لكي يزيد سعرها، وتتصل بالبوليس عندما ترى الدماء على فانلة يوسف، هي أيضا لا يمكن أن تعمل إلا بموافقة الأمن، ولعلها تتواصل مع الشرطة تأمينا لرزقها.

هناك أيضا الفتاة متعددة الأسماء، خوفها المستمر وتغيير اسمها يجعلها عنوانا على كثيرات، وهي تختفي تماما في النهاية، يسخر سيد مرزوق ضاحكا من أن تكون مهمة بالنسبة لها، إنها ليست سوى مادة لحكاياته، ووسيلة لتسليته، مثل شابلن الذي يسلي الآخرين، والذي دهسه سيد بسيارته، ومثل فيفي سوهاج  التي تغني طوال الوقت، ولا يظهر الحزن في عينيها إلا بعد تساؤلات يوسف المثيرة للحزن في السيارة.

 فيفي سوهاج تحمل اسم محافظتها دليلا على ماضيها البائس، وهي لا تفعل شيئا سوى تسلية الملك الجديد، السيد المرزوق، وسبحان العاطي الوهّاب.

السادة الجدد

السادة الجدد ناعمون جدا، سيد مرزوق يتذكر عيد ميلاد يوسف، وعمر يعتذر عن تكبيل يوسف، يبدو لي أنها سياسة جذابة وخادعة، وربما كانت اعترافا ضمنيا بأن قوتهم وثراءهم ناتجان مباشرة عن ضعف يوسف ونومه، وإن مجرد أستيقاظه يظل مزعجا، حتى لو استيقظ مندهشا مثل طفل يكتشف الحياة لأول مرة، ففي لحظة ما سيكتشف يوسف أن يقظته خطرة على ثراء سيد، وخطرة على قوة وبطش عمر، وهذا ما حدث بالضبط في نهاية الرحلة.

هكذا يكتشف المتفرج أن هناك منطقا عقلانيا بديع التحليل وراء ما يراه من غرابة سردية، وهكذا نستعيد إيجابية الرجل الباحث عن حضّانة، ونحن نرى تحرك يوسف في النهاية من خانة المراقب، الى خانة المتمرد والفاعل، هذا التمرد أفضل وأكرم من الفرجة والنوم في يوم الأجازة.

هكذا أيضا يعود شابلن الى الصورة بعد أن صدمته سيارة سيد مرزوق، ويصبح موت شابلن محرضا ل يوسف على اليقظة، وهكذا نتذكر مشهد الضفادع البشرية عندما يكشف عمر ل يوسف عن سر الدمى التي يلقيها في النيل.

 كل تفصيلة وكل مشهد أو شخصية أصبح لها معنى في الجدارية الضخمة لمجتمع سادته الأثرياء ورجال الأمن، والبقية من المطاريد أو المشاغبين أو الغلابة، وعلى  كل شخص أو متفرج أن يختار الفئة التي يريد أن ينتمي إليها، إنه سؤال سيد مرزوق ل يوسف، ولكنه في الواقع سؤال داوود لنا جميعا.

يعني ذلك بوضوح أن “البحث عن سيد مرزوق” ليس لغزا سيرياليا غريبا ومجانيا، ولكنه سرد متماسك جدا، ينقل صورا مقلوبة لمجتمع مقلوب، لذلك جاءت اللعبة غريبة، وكل ما فيها غريب، ظاهرها اللعب وباطنها المأساة والاسئلة الخطيرة، ولا توجد أسئلة لا تجلب الحزن كما يقول يوسف بعد يقظته الكاملة.

نحن أيضا كمراقبين ومتفرجين خارج الشاشة نطرح الأسئلة عما رايناه: كيف صار يوسف على هذا النحو المهمش؟ ومن أجلسه على كنبة منزله طوال هذه السنوات؟ أليس هو شريك في المسؤولية لأنه عطل قدرته بنفسه؟ هل أنقذه خوفه من التورط والمطاردة والاتهام؟ كيف امتلك السادة المرزوقون المدينة لدرجة تدخين الحشيش في مقابر الأسرة الملكية؟ وكيف يصعد عمر وأمثاله بهذه السرعة؟

السادة يمتصون الغلابة ويقهرونهم بالمال والسلطة الأمنية، البعض يشاغب ويرفض أن يصمت، فيصير مطاردا، وعدوا للسلطة، والبعض يقنع الفتات، حتى لو تطلب الأمر أن يتسلل ليستنشق دخان الحشيش المتصاعد من خيمة سيد مرزوق في مقبرة أسرة محمد علي، والبعض يحاول على طريقة رجل الحضّانة، والبعض قنع بدور المسلّي مثل فيفي سوهاج أو شابلن الأصلي، والبعض لا نراه أصلا لأنه يرفض أن يترك البيت إلا للعمل.

رحلة يوسف أقوى أهم بكثير من رحلة بطل فيلم “بعد ساعات العمل” للمخرج مارتن سكورسيزي، حيث يدخل بطله أيضا دوامة مزعجة، رحلة يوسف تحلل مجتمعا بأكمله من خلال يوسف، البطل حاضر في الفيلمين، ولكن داوود أنطلق الى حالة بأكملها بكل خصوصيتها المصرية اقتصاديا واجتماعيا، وبينما يظل بطل سكورسيزي مسجونا في فرديته، فإن بطل داوود ينطلق من فرديته الى مجتمعه كله، ويتمرد تماما على وضعه في آخر المطاف.

 صحيح أن يوسف في تمرده يدافع في النهاية عن نفسه، وليسعن الآخرين، ولكن مجرد اكتشافه لخطورة سيد مرزوق وعمر أبو شادي، وأنهما يستغفلاه، هي خطوة خطيرة في الصراع، وهو صراع بلا نهاية ولا حلول وسط، مثلما نرى في مشهد النهاية.

أداء متميز

اختار داوود أن يؤدي أبطاله من منطقة خاصة، فالشخصيات تلقي الحوار أحيانا بكل حياد، بينما نلمس في أداء سيد مرزوق بالذات نبرة خيالية، وقد كان علي حسنين في دور سيد مرزوق اكتشافا حقيقيا في هذا العمل، الذي يعتبر أول ادواره، هو بشكله وهيئته وشعره الطويل وقمصانه الملونة وحكاياته الغامضة مثل كائن أسطوري صنعه الواقع.

نور الشريف مدهش في أداء شخصية يوسف، وهو أيضا أكثر من كونه شخصية بسيطة، لأنه نموذج لكل الصامتين جميعا، أداء نور يتحول من دهشة وفرحة طفل خرج الى العالم، الى نظرات رجل مخدوع ومهان، وصولا الى نظرات التمرد والتحدي، الشخصية تنمو من حيث الوعي والقدرة، ونور الذي يجر قدميه مضطربا في بداية الفيلم، تثبت قدماه تدريجيا على الأرض، ويجري بكل قوة في النهاية،  ليس جريا لرجل خائف، ولكنه جري رجل عنيد في معركة طويلة من عدة فصول، يوسف كمال يبدو مثل عبد فك قيوده وتحرر بعد طول خنوع، ونور الشريف، فهم مأساة يوسف وجسدها ببراعة من الحب الى الكراهية، وبما يليق حقا بمشخصاتي قدير.

آثار الحكيم كانت حقا مجرد طيف عابر، خائف وغامض، كثيرون وكثيرات مثلها، بل إن اختفاءها أثار تساؤلات لا تقل أهمية عن وجودها، لقد توقعت هي نفسها أن تختفي، فأعطت عنوانها ل يوسف، فلما ذهب الى هناك وجد فتاة أخرى تعرف طريقها، ولكن الفتاة اختفت ليجد نفسه أمام العاهرة، هنا لعبة ذكية تأخذنا من غلبانة الى غلبانة الى غلبانة، وكأنها تنويعات على نغمة القهر والخوف والإحتياج الى أمان.

 لا ننسى كذلك حضور لوسي في دور فيفي سوهاج، هيئتها وماكياجها، وفساتينها فاقعة الألوان تلفت نظرنا، مثلما يلفت نظرنا أعضاء فرقتها من المسنين الغلابة، هي أيضا شاهد صامت يغني ويتألم، ويقنع بالفتات من السيد المرزوق، تثير لوسي بأدائها البهجة والرثاء معا.

شوقي شامخ كان ايضا رائعا في دور عمر، ثقته ولامبالاته ومعرفته لما يريد، لغة جسده التي تكشف عن ثبات ورزانة، كل ذلك منح الشخصية هالة تعادل قدرة سيد مرزوق الإستعراضية.

 وقدم ممثلون آخرون أدوارا مميزة للغاية في مشاهد قصيرة لا تنسى: سامي المغاوري (رجل الخضّانة)، وأحمد كمال في دوره القصير المؤثر (شابلن)، والممثلة التي لعبت دوار العاهرة، كلهم كانوا مناطق لامعة في جدارية الرحلة المذهلة.

المخرج داود عبد السيد

وبينما تحمل موسيقى راجح داوود شجنا يكشف عن جوهر اللعبة، حتى ونحن نتأمل أو نتساءل، فإن صورة طارق التلمساني تتحول أيضا من نهار مشمس، الى ليل شحيح الضوء، بل إن دخولنا لقسم الشرطة المظلم يجعل الطرقات والحجرات مثل السجن بالضبط، وبينما تنعكس ومضات النور القادمة من حمام السباحة على وجه سيد مرزوق، فتعطيه بريقا كامل الوصف، فإن يوسف يحاصره ظلام القسم، حتى يصرح فى الطريق برغبته في قتل سيد مرزوق، هنا فقط نراه كطيف متحرك أسود، يتقدم حتى يتكلم، فيخرج من الظلام أخيرا الى دائرة النور.

داوود كمخرج يكتفي بغرابة السرد والمعنى، فلا يحرك الكاميرا بشكل غريب أو مفتعل، يحتفظ لها بثباتها المتأمل، ويحرك الممثلين فقط داخل الكادر، الصراع ساكن في معظم المشاهد، ولا يصبح واضحا إلا في مشهد المطاردة، هنا تمتليء المشاهد بالحركة، وتقطع المونتيرة رحمة منتصر بشكل أسرع، لتزيد إحساسنا بالحركة، وبالإنتقال من مكان الى أخر، مطاردة تذكرنا هذه المشاهد عموما بمشاهد مطاردة المساجين الهاربين، أو بمشاهد مطاردة العبيد الآبقين في أفلام القهر والعبودية.

“البحث عن سيد مرزوق” في معناه الأهم ليس إلا تأكيدا على إصرار داوود عبد السيد أن يحاول أبطاله تحطيم أغلالهم، رحلة يوسف تقول إنه لم يحاول أصلا، ولذلك ظل مستسلما للكلابش الذي قيد به، بل وحمل معه المقعد المرتبط بالكلابش، ولم يكن الأمر محتاجا منه إلا أن يضم أصابعه ليخرجها بسهولة من القيود، هو أصلا لم يحاول، فاستسلم الى قيود وهمية.

أقدام رجال الأمن في نهاية “البحث عن سيد مرزوق” سنراها في بداية فيلم “الكيت كات”، وعجز يوسف عن المحاولة، سيعوضه الشيخ حسني الى أقصى حدود محاولة مواجهة العجز العبثية.

 نضحك من عجز يوسف الذي جعله أسير كلابش يمكن أن التخلص منه بسهولة، وربما نضحك أيضا على محاولات الشيخ حسني لقهر ظلام لا يمكن التخلص منه أبدا، ولكننا نحترم الشيخ حسني لأنه حاول وسيحاول دائما بدون توقف مثل سيزيف جدنا القديم.

المحاولة أشرف وأكرم من العجز، مهما كانت النتائج.

العجز موت، ليس أقل من ذلك، ولكن المحاولة دليل وجود حياة ومقاومة لا تموت.

https://www.youtube.com/watch?v=XSvjhX1-8xs
Visited 127 times, 1 visit(s) today