“البابوان” التحرر الذاتي والاعتراف بالحق فضيلة
“أي رحلة مهما كانت طويلة يجب ان تبدأ في مكان ما.. أي رحلة مهما كانت مجيدة يمكن ان تبدأ بغلطة .لذلك عندما تشعر انك تائه لا تقلق “.
بهذه الكلمات يبدأ فيلم “البابوان” The Two Popes على لسان الكاردينال خورخي بيرجوليو المعروف بإسم (البابا فرنسيس) بابا الكنيسة الكاثولوكية الـ 266 وهو المنصب الذي يشغله حاليا ، لكن في هذه اللقطة نعود إلى عام 2005 في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس وكان وقتها رئيس الأساقفة هناك أمام جموع من مريديه ،ويتخلل الكلمات والعظات بعض القفشات الفكاهية مثل تشجيعه لفريق سان لورينزو الأرجنتيني، وفي المشهد الذي يسبقه نجد البابا يتصل”بنفسه” بإحدى شركات السياحة لحجز تذكرة واحدة “لنفسه” إلى جزيرة لابيدوسيا في البحر المتوسط ، وتغلق الموظفة الخط لأنها تعتقد أن الشخص يسخر منها مستخدما إسم بابا الفاتيكان، ومن هنا نكتشف إننا أمام فيلم غير عادي عن بابا الفاتيكان وعن الكنيسة خصوصا وأن عنوان الفيلم يوحي بهذا.
بعد وفاة بابا الفاتيكان (يوحنا بولس الثاني) عام 2005 يتجه رؤساء الأساقفة من كل دول العالم لانتخاب بابا جديد للكنيسة الكاثولوكية في الفاتيكان التي تقع في قلب روما ،وتنحصر المنافسة بعد الجولة الأولى التي لم تكن حاسمة بين الألماني جوزيف راتزنجر والأرجنتيني خورخي بيرجوليو وهي منافسة بين تيارين الأول شديد المحافظة على تقاليد الكنيسة ،والثاني تيار يدعو إلى الإصلاح ومواكبة تطورات العصر ،فهل الأحداث ستسير في إشكاليات الصراع بين التيارين ويقع الفيلم في فخ التقليدية في تناول تلك التيمة ؟
من الوهلة الأولى يبرز أننا أمام سيناريو قوي تخلله جمل حوارية معبرة جعلت القلق يقل شيئا فشيئا في آخر إنتاجات نتفليكس لهذا العام والذي اعتبره أفضلها أيضا مع فيلم “قصة زواج” فالفيلمان يعتمدان على سيناريو قوي محكم وحوار معبر والمنافسة بينهما ستكون قوية في شعبة أفضل سيناريو في الجولدن جلوب والاوسكار والبافتا.
ويحسب لكاتب السيناريو أنتوني مكارثين قدرته على خلق سيناريو مميز (سبق وقدم أعمالا جيدة مثل الساعة الأسوأ – الملحمة البوهيمية – نظرية كل شئ) معتمدا على أحداث حقيقية يعلمها الجميع وهي الأزمة التي ضربت الفاتيكان عام 2012 عندما تم القبض على سكرتير البابا بندكيت الـ16 بعد تسريبه وثائق سرية تؤكد على وجود مخالفات وإرتكاب جرائم الاعتداء على الأطفال من قبل الأساقفة ، لكن عبقرية مكارثين أن الحادثة لم تكن سوى إطار عام ربط من خلالها العلاقة بين البابوان راتزنجر (بنيديكت الـ 16) وبيرجوليو (فرنسيس)، وهي الفترة التي صاحبت استقالة البابا بنيديكت عام 2012 لأول مرة يستقيل فيها البابا منذ قرون.
ارتكز المخرج البرازيلي فيرناندو ميريليس في فيلمه على ثلاث مراحل بدأت منذ عام 2012 لكن قبلها برع على الشاشة في اختصار عملية انتخاب البابا الجديد عام 2005 في مدة زمنية قصيرة ونجح في إيصال فكرته دون خلل أو إرباك وزاد عليها تمكن المخرج في المشاهد الخاصة بعملية الإنتخاب السرية نفسها واستمرار الكنيسة الكاثولوكية في استخدام الطرق القديمة في الإقتراع والتصويت رغم أن العالم يصوت على الإنترنت الان مثل (الدخان – الإبرة والخيط – الملابس..)، وأيضا الجموع الغفيرة ووسائل الإعلام التي تنتظر نتيجة إعلان إسم البابا الجديد بشغف وترقب.
المرحلة الأولى للفيلم كانت أشبه بمناظرة سريعة بين البابوين بعد طلب البابا بنيديكت حضور الكاردينال بيرجوليو إلى روما خصوصا وان الثاني قدم طلب للبابا بهدف التقاعد وبدوره اعتبر البابا أن التقاعد في هذا التوقيت معناه التمرد ، برغم أن الحوار شيق وقوي منذ المشهد الأول لكن لا أنكر أن هذه المرحلة خشيت أن يسيطر الصراع بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي حول الطقوس الدينية كالإعتراف ودخول النساء للمذبح واليسوعية، أو المسائل الدنيوية الاجتماعية مثل قضية المثليين والنسبية والطلاق، وخصوصا وأن الثنائي مختلفان في مسألة الإدارة فالبابا يعيش السلطة بحذافيرها حيث الإقامة في القصور والطعام االصحي والملابس الرسمية القديمة التي عفى عليها الزمن الحذاء الأحمر على سبيل المثال ، أما بيرجليو فهو شخص بسيط منفتح على الآخر يحب الرقص ويعشق كرة القدم وخصوصا فريق سان لورينزو غير متمسك بعادات وتقاليد الكنيسة .
كان المتوقع أن يسير الفيلم في الاتجاهين حتى يحدث التصالح الإنساني الذي يعقبه أحترام فكري للاختلافات وهذا ما حدث في المرحلة الثانية فقد اقترب الثنائي إنسانيا وأخذ الحوار صورة أكثر حميمية اعتمد فيها المخرج على روايات وحكايات على لسانهما، وبرغم المرحلتين اعتمد فيهما المخرج على مشاهد تجمع الثنائي فقط وهذا على مستوى التنفيذ صعب جدا أن يحافظ على قوة وتماسك الفيلم معتمدا على شخصيتين فقط حتى وان قام المخرج بتغيير مواقع التصوير، لكن تمكن المخرج وبراعة السيناريو نجحا بخروج الفيلم بصورة مبهرة ، حتى كشف البابا بندكت للكاردينال بيرجليو عن نيته في الاستقالة ومن هنا تبدأ المرحلة الثالثة.
تعد المرحلة الثالثة هي الأقوى والأكثر تأثيرا في الأحداث وتنفيذا على مستوى الدراما ويمكن أن نطلق عليها عنوان “التحرر الذاتي للبابوان” فالتحرر حق أي إنسان حتى لو كان البابا ومكاشفة الأخطاء والاعتراف بالتغيير الذي يطرأ على أفكار أي إنسان حتى وإن كان البابا نفسه ففي البداية التغيير كان مثل التنازل لكن بمرور الوقت التغيير مثل التحرر الذاتي والإعتراف بالخطأ والرغبة في الإصلاح والخروج من قوقعة التقاليد.
في المرحلة الثالثة يسرد كلا منهما حكايته ويعترف أمام الآخر (رغم اختلاف الثنائي حول طقس الاعتراف) بأخطاء الماضي ، ومع إعتراف بيرجليو يعود المخرج عن طريق الفلاش باك إلى الأرجنتين في السبعينيات وتأثير التحولات السياسية على الشاب بيرجليو الذي يؤدي دوره بإتقان الممثل الأرجنتيني خوان مينوجين ، مع الدخول أكثر في تفاصيل الحكاية يلجأ المخرج إلى المونتاج المتوازي السريع بين بيرجوليو في حقبة السبعينيات وبيرجليو في 2012.
أداء الثنائي أنتوني هوبكنز في دور البابا بيندت ال16 و جوناثان برايس في دور الكاردينال خورخي بيرجوليو رائعا تفوقا في كل المشاهد التي كانت بالفعل أشبه بمبارة تمثيلية كما جاء المشهد قبل الأخير الذي جمع الثنائي عندما اجتمعا لمشاهدة نهائي كأس العالم بين منتخبا ألمانيا والأرجنتين وكلا منهما يشجع منتخب بلده .
في المشهد الأخير يعود المخرج من حيث بدأ حيث المكالمة التليفونية للبابا فرانسيس وإغلاق الخط في وجهه والذي كان يرغب في حجز تذكرة إلى جزيرة لامبيدوزاالمعروفة ببوابة المهاجرين وسبق أن شهدت حوادث غرق ليؤكد الفيلم على الدور الكبير الذي لعبه البابا فرانسيس (خورخي بيرجليو) تغيير مسار أداء الكنيسة الكاثولوكية والإصلاحات وتعديلات التشرفيات البابوية بجملته العظيمة .. نحتاج إلى جسور لا إلى جدارن .