الاهتمام السعودي بالأفلام الوثائقية

حسام الخولي

دشنت قناة الشرق الوثائقية نفسها باعتبارها قناة وثائقية متخصصة تخرج من السعودية، فيما بدا أنه خطوة جريئة وحماسية قررتها المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام أثناء المؤتمر الذي أعلن فيه عن عدد من التجديدات والتوسعات الإعلامية الإخبارية والسينمائية والتسجيلية. ودوّت جملة قوية تدعو للتأمل وإعادة مراجعة الأوراق، حينما خرج تصريح عن المجموعة يقول: صوت العرب الآن يخرج من السعودية.

تبدو هذه بمثابة دعوة مفتوحة للحديث عن المنطقة التي تحاول السعودية الوقوف فيها هنا والآن، وإلى أي مدى تريد أن تصل، لكن في كل الأحوال لم تكن لتخرج دون أن تصبح لدى المجموعة، إلى جانب الصحف والقنوات والمواقع الإخبارية، مكان يمكن أن يؤهل لعرض الجانب التسجيلي الحي من الدولة القديمة والجديدة التي تنهض حاليا بأفكار ورؤى مختلفة.

تقول المجموعة إنها تسعى من خلال إطلاق “الشرق الوثائقية” إل تلبية ارتفاع الطلب على الأفلام والبرامج الوثائقية حيث إن أكثر من 80% من المشاهدين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يرغبون في متابعة المزيد من المحتوى العربي عالي الجودة وفقاً لاستطلاع أجرته المجموعة. كما قامت قناة “الشرق الإخبارية” ببث أكثر من 400 ساعة من الأفلام الوثائقية، حصدت من خلالها نسبة عالية من المشاهدة والتفاعل، ما يشير بوضوح لوجود فجوة في المعروض لهذا النوع من المحتوى في المنطقة.

جاء كل ذلك في خطوة متطورة تتوازى مع الصحوة العامة الأخيرة التي تخوضها السعودية في الفترة الأخيرة، والاهتمام الكبير الذي توليه الدولة إلى الترفيه والصناعة الفنية والسينمائية عموما، في محاولة لعرض التجارب الأولى التي خرجت على استحياء، إلى جانب المساحة الكبيرة التي ستمنحها لصانعي الأفلام الوثائقية السعوديين وغير السعوديين لاحقًا.

بشكلٍ عام تبدو فكرة وجود قناة للأفلام التسجيلية أو الوثائقية في هذا التوقيت تحديدًا، شديدة الأهمية، فهي تظهر في وقت مثالي يتيح التنافس مع قناة الجزيرة الوثائقية وهي الأقدم في المنطقة العربية، باعتبارها متخصصة في عرض الأفلام التسجيلية العربية من كل مكان منذ حوالي 17 عاما، وكذلك مع الوثائقية المصرية التي دشنت مؤخرًا أيضًا، لتمثل هذه القنوات وهذا الاهتمام بالفيلم الوثائقي وأجوائه وعالمه، تلبية لمتطلبات الجمهور في العالم العربي.

ويبدو التساؤل الأول هنا هو: هل يعني تأسيس قناة تسجيلية متخصصة جديدة مجرد أن السعودية تهتم بهذا النوع من الإنتاج الفني، أم أن الأمر لا يتوقف على مجرد المشاركة بقناة ويحتاج إلى تفعيل أمور أخرى كثيرة أكثر تأسيسًا وأهمية؟

فكرة قديمة ونماذج جديدة

لم يكن تخصيص قناة وثائقية سعودية فكرة وليدة اليوم أو التطور المفاجئ، بل كثيرًا ما ظهرت الفكرة في نقاشات كثيرة على هامش “مهرجان أفلام السعودية”، وهو المهرجان المحلي السينمائي القديم، وكيف يمكن تقديم الداخل السعودي باختلاف موضوعاته وسياقاته، كما اهتم مهرجان البحر الأحمر من بدايته، بتوفير جانب متخصص للمشاهدة والتفاعل مع أفلام وثائقية من مختلف بلدان العالم، كما عرض عددا كبيرا من الأفلام السعودية الوثائقية.

إلى جانب العديد من النماذج الفيلمية التي نحاول رصدها هنا، لا تقل بعض الأفلام الأخرى أهمية من حيث اللحظة التي خرجت فيها، وربما يبدو هناك حُكم عام على تواضعها الفني بشك لعام، إلا أنها نقطة قوة يمكن الاستفادة من صناعتها إجماليًا فيما بعد، والبناء عليها.

في الدورة الأخيرة لمهرجان أفلام السعودية، عرض ضمن الأفلام التسجيلية السعودية في المهرجان فيلم “قصيدة الملك”، الذي كان وثيقة تحقيق في القصة التي شغلت بال السعوديين لفترة طويلة امتدت لسنوات، بطلها الأساسي هو هذا الرجل الذي يكشف الفيلم قصة حياته، أي الشاعر السعودي حيدر العبد الله الذي اختارت منصة “ثمانية” أن تكون قصته هي الفيلم الأول الذي تقدمه في سلسلة “جواب” التي قالت أنها “تكشف من خلالها الجانب الآخر من قصص المشاهير”، بالتالي افترضت البداية الفيلمية التعريفية شهرة صاحبها، واعتمدت على الجانب السئ الذي تسببت فيه تلك الشهرة أو كانت سببها أساسًا.

كما عرضت في الدورة الأخيرة لمهرجان أفلام السعودية أحد الأفلام الوثائقية الذي يعرض السيرة الوطنية للكاتب السعودي تركي السديري، وهي سيرة راسخة في الذاكرة الإعلامية والحياتية للشارع السعودي، تخليدًا للرجل الذي لقبه الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، بـ”ملك الصحافة”، والمقصود فيلم “قصة ملك الصحافة” الذي يتناول سيرة تركي السديري، وهو من إخراج حسن سعيد، وتأليف الكاتب علي سعيد وحسن سعيد.

عرض أيضًا الفيلم السعودي “من ذاكرة الشمال” الذي أخرجه عبد المحسن المطيري، وهو فيلم وثائقي عن حرب الخليج (1990-1991)، بالتزامن مع مرور 30 عامًا على اندلاعها، حيث يتتبّع جهود مجموعة من صناع الأفلام الذين شهدوا أحداث الحرب عندما كانوا أطفالا، ضمن رحلتهم عبر السعودية، لتوثيق قصص أولئك الذين عايشوا الحرب وذاقوا ويلاتها.

ما قبل إم بي سي وما بعده

قطعت السعودية مشوارا قديما بدأ مع المحبين من زوار الكعبة والسائحين الذين قاموا بتصوير وتوثيق بعض الأماكن والتقاليد والعادات، لكنها لم تكن أفلاما بالمعنى الاحترافي أكثر من كونها مجرد تسجيلات شخصية للأفراد، ثم تطور الأمر، وظهر الإنتاج من خلال شركات غير سعودية، مثلما كان في أرامكو التي صنعت عددًا كبيرًا من الأفلام التسجيلية التي كان بعضها غير مسموح بعرضه خارج الشركة ذاتها، أو من خلال إنتاج عربي كما حدث مع شركة استديو مصر وكانت من أشهر شركات الإنتاج في العالم العربي، وقد أسهمت في إنتاج عدد من الأفلام في السعودية عام 1938 كانت توثق للحج إلى بيت الله الحرام، وقد أنتجت الفيلم لحساب شركة مصر للتمثيل والسينما التي يتبعها ستديو مصر.

تطور الأمر مع ظهور شركة “أرا” أو شبكة mbc كما نعرفها اليوم، باعتبارها الوسيط الإعلامي الأكثر شهرة في السعودية، كانت قد ظهرت في بداية التسعينيات وكان جزء من وظيفتها، إنتاج أفلام تسجيلية عن السعودية ذاتها.

ويقول المخرج مجدي فاروق إنه كان ممن شاهدوا تلك الأفلام إلى جانب أفلام أخرى مع صناعة أفلام تالية من جانب قناة “العربية”، وكانت تلك الأفلام تحاول أن ترصد ملامح ونقاط القوة والجذب في المناطق السعودية المجهولة، غير المعروفة للجميع، وأخيرًا عندما قررت السعودية أن تتوسّع في هذا النوع من الإنتاج وتفتح المجال أمام القطاع الخاص بشكل أكثر رحابة.

بات الجميع يفهم أن صناعة السينما التسجيلية لم تعد تعتمد ذلك الشكل النمطي القديم، ولم تعد أفلاما سياحية براقة وخادعة تزيف الواقع، فالجمهور يشاهد الآن ويقارن ويشترك في الحدث أكثر من أي وقت مضى. وهو ما تدركه المملكة والقائمون على الإنتاج السينمائي فيها وعلى رأسهم هيئة الأفلام السعودية. تحديدًا، والتي تسعى لتحقيقه.

يقتضي الإنتاج الحقيقي للسينما التسجيلية مساحات أوسع من الحرية في تصوير إشكاليات الواقع، وعدم الاكتفاء بالتواجد في المحافل الدولية، بل لتطوير هذه الصناعة الفنية لتصبح أكثر قدرة على المنافسة.

الفكرة الأهم وراء إنتاج محتوى وثائقي هي المكاشفة والتعلّم، لأن السينما التسجيلية في النهاية تبدو أساسًا راسخًا لعرض القضايا والأزمات، لا كمساحة للاستعراض الفارغ الذي يمكن أن يحدث في وسائط أخرى، ومن دون ذلك لن تبدو كسينما تسجيلية من الأساس.

لذلك تصبح الريادة أو الأفضلية الإعلامية أو السينمائية في منطقة الإنتاج التسجيلي في يد من يملك القوة للسماح بإنتاج أعمال تتعمق أكثر في طرح القضايا الشائكة والأمور المبهمة لتوضيحها إلى الجمهور، لا مجرد إتاحة ترددات قناة هنا أو هناك.

Visited 6 times, 1 visit(s) today