“الأب” .. علاقات معقدة، صراعات مستمرة وأخطاء مكررة
حاز الفيلم الأمريكي “الأب” على ردود أفعال إيجابية خلال مشاركته في الدورة 42 لمهرجان القاهرة السينمائي خاصة بعد الأداء المميز لبطله أنتوني هوبكنز وينتظر الوسط السينمائي جوائز الأوسكار لمعرفة فرص الفيلم فيها خاصة بعد الإخفاق في جولدن جلوبس، على الجانب الآخر من العالم في شرق أوروبا تظهر تحفة سينمائية تشترك في أمرين الأول الاسم “الأب” والثانية الارتباط بجوائز الأوسكار.
فيلم “الأب” من بلغاريا الذي حصل على الجائزة الكبرى “الكريستالة الذهبية” من مهرجان كارلوفي فاري عام 2019 وشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي في دورته خلال نهاية عام 2020، ورشحته بلغاريا ليمثلها في المنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لهذا العام التي أعلنت القائمة القصيرة لها منذ أيام وكانت المفاجأة استبعاد التحفة البلغارية على غرار تحف أخرى مثل المجرية “الاستعدادات القوى لنكون معا لأجل غير مسمى” والبولندية “لن تثلج مجددا” واليونانية “تفاح” والجورجية “البداية” في المقابل ظهرت في القائمة أفلام متوسطة المستوى مثل البوسني “إلى أين تذهبين يا عايدة” و”الدجال” من التشيك و”شمس” من تايوان وأفلام أخرى ضعيفة مثل الإيراني “خورشيد” والفرنسي “نحن الإثنان” و”أفضل أيام” من هونج كونج، فمن يستحق بالفعل التواجد في القائمة قبل النهائية ثلاثة أفلام فقط من أصل 15 هم الدانمركي “جولة أخرى” والروسي “الرفاق الأعزاء” والنرويجي “الأمل“.
فيلم “الأب” البلغاري شارك في اخراجه الثنائي كريستينا جروزيفا وبيتر فالنتشانوف وفي ثالث تجربة لهما على مستوى الأفلام الروائية الطويلة، الفيلم به مزج عبقري بين التراجيديا والكوميديا من خلال علاقة شديدة التعقيد بين الأب والابن بعد وفاة الأم، المشهد الأول من الفيلم نسمع صوت قس به تراتيل من الكتاب المقدس ثم تظهر على الشاشة على مراسم دفن سيدة بينما يقف الزوج والابن في حالة من الحزن الشديد، يطلب الأب من ابنه أن يستخدم كاميرته في تصوير والدته وهي في النعش قبل غلق التابوت في موقف أثار دهشة جميع الحضور بما فيهم القس.
الفيلم سار في خطين الأول احتوى على الأفكار الرئيسية التي طرحها السيناريو من خلال العلاقة الخاصة التي يظهر من المشهد الأول انها شديدة التوتر بين الأب والابن وأن الأم هي التي كانت حلقة الوصل أو صلة التفاهم الوحيدة بينهما، أما الخط الثاني فهو الإطار العام الذي غلف الحبكة من الخارج المرتبط بتأثير وفاة الأم على بقية أفراد العائلة والجيران والجانب المرتبط بحياة الابن وعلاقته مع زوجته وعمله.
الحدث في الفيلم أو المحور الرئيسي للأحداث كان وفاة الأم ومن بعده تبدأ الرحلة الدرامية التي جمعت فاسيل ” الأب” الذي قدم دوره باقتدار الممثل إيفان سافوف، وبافيل “الابن” الذي قدم دوره بتمكن أيضا الممثل إيفان بارنيف، تلك الحالة التي أصبحت أمر واقع فرضته ظروف الوفاة بالنسبة للثنائي وأن عليهما وضع النقاط على الحروف حول علاقتهما كأنها فرصة أخيرة لتقارب وجهات النظر وتصحيح أخطاء الماضي.
أدخل المخرجان المشاهد بالتدريج في تفاصيل فيلمهما في البداية مشاهد متتالية تظهر الحالة المذرية الواضحة التي عليها الأب وشعوره بالوحدة، وحالة الابن التي تقل عن حزن الأب لكن حزن الابن كان داخليا غير ظاهر أما الجميع، لكن الأكيد في تلك المشاهد هي العلاقة المتوترة بين فاسيل وبافيل التي يشوبها رواسب قديمة تم الإفصاح عنها بمرور الاحداث.
في ظل حالة الحزن تلك اعتقد الأب أن زوجته تبعث له رسائل من العالم الآخر لأنها قبل الوفاة اتصلت به لكن هاتفه أغلق ولم يكمل المكالمة فأيقن أن الرسالة مهمة وعليه كشفها، وما زاد من ترسيخ الأمر في عقله سقوط المزهرية واكتشاف بعض الكتابات على الأجزاء المتناثرة بأنها رسالة من الأم.
وأيضا ما قالته شقيقته بوصول مكالمة لها من الأم بعد الوفاة، من هنا بدأت رحلة الأب والابن فالأول أراد التوجه إلى أحد المتخصصين في استحضار وتلاقي الأرواح لأن الفكرة سيطرت عليه كليا، وقام هذا الرجل بنصيحته بالتوجه إلى الغابة والنوم في مكان سقوط النيزك حتى يستطيع التواصل مع زوجته المتوفية بعد أن حصل منه على المال الذي قام الابن بدفعه.
يدخلنا الثنائي جروزيفا وفالنتشانوف في تفاصيل فيلمها أكثر وفي تفاصيل علاقة الأب والابن من خلال عدة صراعات ظهرت بالتدريج أيضا ليوضح لنا أسباب الخلافات بينهما، فالخلاف الحالي مرتبط بالفوضى التي يعاني منها الأب واعتقاده المترسخ برسائل زوجته من العالم الآخر زاللجوء إلى دجال ومن الناحية الأخرى الابن الذي يحاول منع والده من المضي في هذا الطريق.
أما الصراعات القديمة نجدها في أن الأب رساما والابن مصور وتحديدا في مجال الاعلانات ويبدو ان رؤية المخرجان ان التصوير هو التطور التكنولوجي للرسم واختيار فكرة الإعلانات على أنها لغة العصر ليثبتا أن الأمر صراع أجيال.
الجيل الكلاسيكي المتمسك بالحياة في الريف الذي يؤمن بالروحانيات لدرجة تجعله يتمسك بالخرافات، والجيل الأحدث نوعيا الذي نزح إلى العاصمة وجذبته الحياة الواقعية العملية السريعة، الجيل القديم الذي انحاز للشيوعية والجيل الجديد الذي تبرأ منها.
مجموعة من المتناقضات تحملها النفس البشرية عبر عنها المخرجان من خلال فاسيل وبافيل، أولا الإنسان مثل الفاكهة يحتوي على جانبين حلو وآخر مر واستخدم الثنائي في الفيلم نوعين منهما الليمون الذي كانت تعشقه الأم والآخر السفرجل الذي يعد من محاور الفيلم فيما بعد.
التناقض الآخر يرتبط باضطرار الإنسان إلى الكذب أحيانا، فالأب لم يفصح بكل التفاصيل ظاهريا هو يريد التواصل مع زوجته المتوفية حتى يكشف تفاصيل رسالتها الأخيرة له لكن في حقيقة الأمر هو يريد منها ان تسامحه على تجاهلها في بعض فترات حياتهما واهتمامه بعمله والأهم اغلاق الهاتف أثناء الحوار بينهما متعمدا وأنه خلال المكالمة تمني الموت لها وهو في حالة غضب.
نفس الحال بافيل الابن الذي أخفى عن زوجته خبر الوفاة حتى لا تتأثر نفسيا وهي في شهور الحمل الأولى، واخفى أيضا عن والده عدم علم الزوجة بالوفاة وان بافيل هو الذي طلب منها عدم الحضور، وأيضا كذبه على زوجته في أنه توجه إلى الريف لتصوير إعلان جديد، وقيام بافيل بإخفاء خبر حمل زوجته عن والديه.
بافيل الابن هو المعادل الإنساني لفاسيل الأب لكن مع اختلاف العصر، الابن رغم انتقاده الدائم لوالده إلا أنه يكرر نفس أخطائه بداية من العلاقة مع الزوجة وعدم الاهتمام المناسب ثم الكذب أحيانا.
كانت إحدى نقاط قوة السيناريو بأن الشخصيات النسائية لم تظهر في الأحداث لكنهما حاضرين بقوة في الحكايات الثانوية التي ظاهريا تبتعد عن العلاقة الرئيسية بين الأب والابن لكن في الباطن ترتبط ارتباط وثيق بهما.
الأم كانت محور الرحلة بوفاتها فرغبة الأب في التواصل معها كانت المحرك الرئيسي، أما زوجة بافيل التي تتواصل معه عن طريق الصوت من خلال الهاتف والتي تطلب منه بإلحاح احضار مربى السفرجل التي تصنع منزليا في الريف ويبدو انها في شهور “الوحم” أثناء الحمل، وفي النهاية نكتشف أن رسالة الأم إلى الأب بأنه يصنع المربى من السفرجل “أيضا” حتى لا يتلف.
غلف المخرجان تلك الرحلة الدسمة بإطار سياسي رقيق ليس فقط اختلاف التوجه السياسي بين الأب والابن لكن من خلال رواسب البيروقيراطية الشيوعية من فساد متغلغل في بلغاريا، فالشرطة تتعامل ببطئ وتخاذل أمام الإبلاغ عن رجل عجوز مفقود، والمستشفى تحاول استغلال المواطنين بجعلهم يمكثون فيها حتى وان كانت الحالة لا تستدعي ذلك.
مشهد النهاية البديع أيقن الثنائي اشتراكهما في نفس الأزمة من خلال وقوفهما أمام محصول السفرجل الذي كان المطلب المشترك لزوجتهما، واشترك فاسيل وبافيل في صنع المربى في محاولة للتصالح الإنساني بينهما خاصة بعد أن أخبر بافيل والده بأنه سيصبح أب، وهذا ما يضع امكانية أن التاريخ سيعيد نفسه وأن بافيل سيخوض نفس الرحلة مع ابنه المستقبلي بنفس التفاصيل لكن بمعطيات مختلفة في زمن نجد فيه صعوبة التواصل بين الأشخاص الأكثر قربا.