“الآنسة جولي” امرأة تحت التشريح
الممثلة والمخرجة النرويجية ليف أولمان (في الثمانين من عمرها) بدأت التمثيل في المسرح النرويجي في العام 1959. ثم انتقلت إلى السويد لتشكل مع المخرج العظيم إنجمار بيرجمان ثنائياً فنياً خلاقاً أبدع عدداً من روائع السينما. اتجهت أولمان إلى الإخراج في العام 1992 بفيلم “صوفي”.
بعدها حققت “كريستين” (1995) “اعترافات خاصة” (1996) “خيانة” Faithless(1999). بعد هذا الفيلم توقفت أولمان عن الإخراج السينمائي مدة 15 سنة، مكتفية بالإخراج والتمثيل المسرحي، لتعود بفيلم “الآنسة جولي” (2014)، وهو فيلمها الخامس كمخرجة (وفيلمها الأول الناطق باللغة الإنجليزية)، والمعد عن مسرحية أوغست سترندبرغ، المكتوبة في العام 1888، والتي منعت آنذاك في أقطار عديدة، عن العلاقة المضطربة، المحكومة بالإخفاق، بين امرأة أرستقراطية وخادم، وما يحدث خلف الأبواب المغلقة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن سترندبرغ ولد ونشأ في كنف عائلة من الطبقة الدنيا. وأن هذه المسرحية كانت استقصاءً في المعايير المزدوجة، الملتوية، بشأن الجنس والامتيازات. كما أنها تشريح سيكولوجي لطبيعة امرأة جميلة لكنها مكبوحة ومعقدة، وواقعة تحت تأثير أفكار أمها المتسلطة. وقد سبق للشاشة العالمية أن تناولت هذا النص مراراً، وبمعالجات متباينة، نذكر منها: الفيلم الذي أخرجه السويدي ألف شوبيرغ في 1951، وفيلم مايك فيجيز في 2006.
ليف أولمان حافظت على المرحلة الزمنية لكنها نقلت الأحداث من السويد إلى إيرلندا، حيث تشعر (حسب تصريحها) أن التفاوت الاقتصادي بين الشخصيات يبدو معقولاً ومفهوماً أكثر مما هو في السويد. وفي فيلمها تسبر قضايا القمع العام، في ما يتصل بالجنس والطبقة، وكيف أنها تشكّل السمات الشخصية للفرد وإمكانياتها واحتمالاتها.
المسرحية تدور في موقع واحد، في الدور السفلي من القصر، وتسرد أحداثها عبر ليلة واحدة. الآنسة جولي الارستقراطية، التي نشأت في القصر، معزولةً عن المجتمع نتيجة وضعها الطبقي، تقرّر ذات مساء صيفي أن تختلط بالخدم. وهناك يحدث التصادم المحتوم على صعيد السلطة والجنس والطبقة.
النص يتمحور حول ثلاث شخصيات عاجزة عن تحقيق التواصل في ما بينها.. وأولمان تربط هذا بما يحدث في عالمنا المعاصر.. “في يومنا، الناس لا يتواصلون، إنهم يرتبطون بالكومبيوتر، ربما بمجموعة من الأشخاص، لكن لا يصغي أحدهم إلى الآخر.. وهذا ما حاولت أن أظهره.
ذات ليل.. مكاشفات
ذات أمسية صيفية، جولي (جيسيكا شاستين) ابنة البارون الارستقراطي، تقرر النزول إلى الطابق السفلي حيث المطبخ، وحيث يتصادف أن تسمع خادم والدها الخصوصي، جون (كولن فاريل) وهو يتحدث عنها مع خطيبته الطباخة كاثلين (سامنثا مورتون). لكي تعاقب جون على هذه النميمة، جولي تشرع في إذلاله وإغوائه. هي تطلب منه أن يرقص معها في قاعة الرقص بالبلدة، وأن يلثم حذاءها معتذراً. وجون يذعن لها. ثم تبدأ في ممازحته ومضايقته، ساخرةً من حيائه، متباهية بجاذبيتها الجنسية في حضور كاثلين الورعة، والتي تكتفي بالتحديق في ذهول. وجون يأخذ مغازلاتها على محمل الجد.. إذ سرعان ما يبوح بمشاعره المكبوحة تجاهها. والاثنان يقضيان الليل (كما أشرنا، الأحداث تدور في ليلة واحدة) في نزاع وتبادل للاتهامات واستجواب متبادل قاس وإغواء وبوح ومكاشفة. في هذه المواجهة المديدة، كل منهما ينزع أقنعة الآخر، ويعرّيه.
جولي ذات روح متمردة، تتظاهر بأنها متحكمة ومسيطرة على نفسها وعلى الآخرين. لكن مع مرور الوقت، نكتشف أن قسوة جولي مبعثها ذلك الشعور العميق بانعدام الأمان، وبأنها غير حصينة. هي تثبت وجودها من خلال الطريقة التي بها تعامل الخدم.
المهمة اليسيرة تمهّد السبيل لصراع طبقي موسّع بين الاثنين. “الطبقة هي الطبقة” تقول كاثلين. التفاوت الطبقي يملي آلية الاتصال، ويكبح الترابط الانساني.
حوارات
في ما يلي ترجمة لمقتطفات من أحاديث المخرجة ليف أولمان عن فيلمها “الآنسة جولي”:
* من خلال قراءتي لما كتبه سترندبرغ عن المرأة، وعن شخصية جولي، اكتشفت إلى أي مدى هو يكره النساء وما تمثله النساء، وقد اعترف بذلك. وهذا أمر مخز جداً. من جهة أخرى، هو كتب العديد من النصوص الرائعة.
في اعدادي للعمل أردت أن أظهر ما تفكر فيه الآنسة جولي وما تشعره، والأشياء التي حرمها سترندبرغ منها. أردت أن أظهرها في حالات مختلفة. ما تشعر به وهي واقفة عند المدخل، على سبيل المثال. في هذه اللحظات، سترندبرغ لم يكتب لها حواراً، لذا كان عليّ أن أفعل ذلك. ليس القصد أن أعارض سترندبرغ، وإنما لإحساسي بأن هذا ما تريد الشخصية أن تقوله. واضح من قراءة المسرحية أن جولي تشعر بأنها لا شيء، لكن أليس من الأفضل أن نراها وهي تقول ذلك، وتعبّر عنه، وأن نرى جون (الخادم) وهو يصغي إليها أو لا يصغي؟ وأعتقد أن جون يصغي إليها أكثر مما هي تصغي إليه، لأنها لا تستطيع أن تتحرّر من عزلتها.
بالنسبة لي، إنه أمر مهم جداً أن نذهب إلى ما وراء الوجوه لنكتشف ما تفكّر فيه الشخصيات.
* كنت دائماً أشتغل على أعمال هنريك إبسن، أما سترندبرغ فقد كان أيضاً حاضراً في ذهني، وكان يثير اهتمامي. هو سارد رائع، وكاتب مهم جداً، وله تأثير هائل. عندما كنت أخرج مسرحية لتنيسي وليامز، أدركت إلى أي مدى هو تأثر بسترندبرغ. وعندما استلم يوجين أونيل جائزة نوبل صرّح بأنه ينبغي أن يتقاسم الجائزة مع سترندبرغ.
* لقد عثرنا على قصر رائع هناك. وفي هذا المكان نلتقي بالآنسة جولي وجون وكريستين.. ثلاثة أشخاص يحاولون أن يحقّقوا شيئاً بطرق مختلفة، خلال ليلة في منتصف الصيف.
لقد أعدت كتابة بعض الحوارات، وحاولت أن أغوص عميقاً داخل الشخصيات، بحيث لم تعد جولي مجرد فتاة مدلّلة، محبوبة، وحلوة، تنتمي إلى الطبقة العليا، بل تظهر كامرأة قوية، تتصرف بفتور ولامبالاة، غير أن خلف هذا المظهر تبدو متقلبة، غير واثقة، وبلا جذور.
لا أظن أن سترندبرغ سيكون غاضباً مني، ذلك لأنني لم أغيّر جوهر النص. أردت منه أن يعرف ما تشعر به المرأة.
* القصة هي عما يحدث بين الرجل والمرأة، الغني والفقير، الأزمنة القديمة والأزمنة الجديدة. وهناك الصراع الطبقي الذي لا يزال قائماً في عالم اليوم، حيث القلة المتمتعة بالامتيازات تمتلك كل شيء، وغالبية الشعب لا تمتلك شيئاً.
جون يريد أن يصبح شيئاً هو لم يولد لكي يكونه. على الأرجح سوف لن ينجح، لكنه لن يستسلم أبداً. كريستين امرأة سعيدة. فخورة بطبقتها، وبالخيارات التي اتخذتها. جولي لا تشعر بأنها مرئية أو مسموعة، فماذا تفعل؟ إنها تنزل إلى الأسفل، حيث المطبخ، وبشكل عابث تتدخل في شؤون الآخرين، محاولة إيقاظ مشاعر ليست موجودة هناك.. حتى تنسحب كلياً.
* أردت أن أحافظ على الفترة الزمنية للنص لكي لا يعتقد أحد بأنني أوجّه اتهاماً إلى جهةٍ ما، لأن ذلك أمر خطير جداً. أردت أن أكون أمينةً لنص سترندبرغ. لكنني تصرّفت في بعض أجزاء النص. أعتقد أن المسرحية لها علاقة بزمننا، هذا الزمن الذي ينتشر فيه الإرهاب من جهة، واللامبالاة من جهة أخرى. نحن نعيش في عالم ذي نظام طبقي. مثل هذا النظام كان موجوداً آنذاك. في الطابق السفلي من القصر نجد المطبخ وغرف نوم الخدم. الذين يعيشون في الطابق العلوي لا يرغبون في رؤية خدمهم يتمشون أمامهم هنا وهناك. لذلك يتعيّن على الخدم أن يعبروا الأنفاق كي لا يزعجوا من يسكن في الأعلى. في يومنا هناك العديد من الناس يعيشون في مخيمات النازحين، في مأوى المشردين، في جميع أنحاء العالم، لكننا لا نراهم. إننا نشاهد بعض الصور على شاشة التلفزيون لكننا نفضّل ألا نراها حتى نتمكن من مواصلة حياتنا اليومية دونما تعكير.
* الممثلون جميعاً وافقوا مباشرةً بعد ترشيحهم للعمل. وهؤلاء هم من بين أفضل الممثلين. وكم تمنيت لو كان فيلمنا ضخم الإنتاج كي يحصل الممثلون على التقدير والجوائز التي يستحقونها عن جدارة. لا أظن أن جيسيكا أدت دوراً من قبل بمثل هذه القوة وهذه الروعة. هي مذهلة ومجنونة. الأمر نفسه ينطبق على كولن فاريل، وكذلك سامنثا مورتون. بالنسبة لي كمخرجة، عندما تدور الكاميرا، وعندما يكون لديك مثل هؤلاء الممثلين، فإنك تدعهم يخلقون، يبدعون، من خلال أعينهم، والطريقة التي بها يتحركون وينطقون ويضحكون ويبكون. ها هنا يكمن الخلق. وعليك أنت كمخرج أن تلتزم الصمت والهدوء، وأن تدعهم يكونون لفترات محدودة جزءاً من حياتك.
* كولن فاريل أدى دوره بشكل لائق ومتقن، وقد أثار اعجابي بطريقته في الأداء. أما جيسيكا فأظن أنها رائعة. في إحدى المقابلات صرّحت بأن أداءها كان ثمرة تعاون في ما بيننا، وهذا غير صحيح على الإطلاق، لأنني حين أشرع في التصوير، هي تتحرك وتنجز أشياء أعرف، كممثلة، أنني أنجزها على نحو مختلف، وأن خياراتها كلها كانت رائعة بشكل مطلق. بعد أن نفّذت المشهد الذي تتلوى فيه على الأرض، قلت لها يستحيل عليّ أن أؤدي ما فعلتيه للتو. وعندما تقتل الطائر، ورد فعلها في ما بعد، لو كنت مكانها لأدّيت المشهد بطريقة محرّكة للمشاعر، ولجعلت الجميع يبكي. لكنها فعلت العكس، وكانت مؤثرة جداً. وقد اضطررت لإنهاء المشهد لأنني لم استطع أن أتمالك نفسي وأن أتوقف عن البكاء. لقد كنت مذهولة بأدائها. هي لم تبك في هذا المشهد وإنما كانت تنشج من موضع عميق بداخلها، وهذا أثّر فيّ بعمق. من النادر في حياتك أن تسمع شخصاً ينشج هكذا.. يا إلهي! كنت أرغب في احتضانها والاعتناء بها مثلما تعتني الأم بابنتها. إنها ممثلة استثنائية!
أنا لم أخبرها عما ينبغي فعله. كيف يمكنني ذلك؟ كما أنني لا أحب أن أوجهها. كأن أقول لها: إن قلبك يدق، وأنت تفكرين في جون، وأيضاً تفكرين في أمك”.. ما الذي بوسعها أن تفعله؟ ربما لا شيء. أنا كممثلة لا أحب أن يخبرني المخرج عما ينبغي أن أفكر فيه.
* نحن نحتاج إلى العلاقات الإنسانية في الفيلم لكي نتذكر ليس فقط من نحن، لكن من يكون الآخرون، وأننا لسنا وحيدين. وأن هناك أناساً كثر لا يملكون شيئاً، وعلينا أن نهتم بهم، ونفهم لماذا نحن نتصرف بهذه الطريقة. علينا أن نتواصل.
* العمل عن ثلاثة أشخاص يحاولون التواصل في ما بينهم، لكن الوحيدة التي تؤمن بالطبقة هي كاثلين، وهي الوحيدة التي تستطيع بالفعل أن تختار أن تكون شفوقة وحنونة حتى عندما لا تكون الأمور في صالحها. هي تمسح وجه جولي وتحاول أن تجعلها تتصل بالكتاب المقدس.
* بالنسبة لي، يسهل عليّ إدارة هذا النوع من الشخصيات لأنها مألوفة لدي، وأعرفها جيداً، فأنا ممثلة مسرح، وهذه هي طريقتي في رؤية الحياة. كمخرجة، أنا أبني العمل على أساس ما يجلبه لي الممثلون. ولا أستطيع العمل إلا مع ممثلين رائعين.
* أعطيت الممثلين السيناريو وطلبت منهم أن يثقوا بي مثلما أثق بهم، لأنني أعرف أنهم حالما تدور الكاميرا سيكونون خالقي شخصياتهم، وسوف لن أخبرهم عما يفكرون فيه، أو السبب وراء ما يقولونه. مهمتي في الواقع هي التهدئة والطمأنة. فقد كنت أتعامل مع ثلاثة عمالقة في التمثيل. ما أريده من الممثلين هو مفاجأتي، إدهاشي.
* كولن أيضاً كان رائعاً في أدائه. الذين سبقوه في تأدية الدور أظهروا الشخصية في صورة المتباهي بذكوريته، والذي يتعامل مع جولي بخشونة وفظاظة. لكن كولن أظهر جانباً آخر. عندما تأتي جولي إلى المطبخ كسيّدة وتصدر أوامرها، هو ينفّذ ما تريد لكن بإمكانك أن ترى في تصلّب جسده أنه يكره ما يفعل، غير أنه لا يتمرد، لأنه نشأ هكذا. وهو يشعر بالرعب لأنه لم يعد السيد في المكان (المطبخ) الذي اعتاد أن يمارس فيه سيادته.
* لقد أردت من الفيلم أن يكون عما يحدث حين لا نصغي إلى الآخرين. أردت أن أتحدث عن التفاوت الطبقي، وعجز جولي عن منح الحب إلى الرجل بصرف النظر عن طبقته، لأنها لا تملك أي طريقة للارتباط بكائن إنساني آخر.
* كان من المفترض أن نصوّر في الأستوديو، لكن نقص المال جعلنا نبحث عن قصر مناسب، حتى عثرنا عليه وكان يحتوي على ما نحتاجه: نفق في الأسفل يتحرك من خلاله الخدم ويخفيهم عن أعين السادة في الطابق العلوي. إلى جانب النفق، هناك المطبخ وغرف نوم الخدم. أما نوافذ الغرف فإنها لا تطلّ على الطبيعة وإنما على جدران أخرى. يتعيّن عليك أن تستخدم هذه الأمكنة لتُظهر من أين جاء هؤلاء الأشخاص. لدينا أيضاً السلّم الذي يمثّل قابلية الانتقال الاجتماعي، وكيف أن جون يحلم بالذهاب إلى الطابق العلوي، وفي النهاية يجد نفسه يرتقي الدرجات فقط ليخدم سيّده. في حين أن جولي، التي كانت ترغب في النزول إلى الأسفل، ينتهي الأمر بها إلى استخدام النفق لتنفّذ ما يمليه قدرها: أن تفقد كل شيء.
المكان سهّل على الكاميرا الاقتراب من وجوههم لأسر مخاوفهم وإحساسهم بانعدام الأمان.. وهذا ما يميّز الفيلم ويعطيه أفضلية على المسرح.
* إنه أمر شاق أن تقوم امرأة بصنع فيلم، خصوصاً إذا كانت ممثلة، وأيضاً إذا تقدّمت في العمر. لكنني أحب أن أخرج المزيد من الأفلام لأنه يوحّد كل ما اكترث به. أحب أن أرى الصورة في شموليتها، كيف يتصرف الناس ولماذا يتصرفون هكذا. أنا فعلاً حزينة لأنني لم أفكر في ممارسة الإخراج إلا في وقت متأخر، عندما بلغت الخمسين، والا لحققت عدداً أكبر من الأفلام. وأشعر الآن إني محظوظة لحصولي على فرصة تحقيق فيلم مثل “الآنسة جولي”.
* لا أريد أن أحقّق أفلاماً تحتوي على مخلوقات فضائية، وتفجيرات، وشاشات خضراء.. وأنا لست ضد هذا، ثمة أفلام رائعة صُنعت على تلك الشاشة الخضراء. لكنني حزينة لأن النوع المفضّل من الأفلام صار عملة نادرة.
* رغم أن الفيلم زمنياً يعود إلى الوراء 150 عاماً، إلا أنه عن أفراد معاصرين. عن النظام الطبقي. عن الطبقة في وقت كانت الغالبية من الناس، 95 في المئة، ينتمون إلى ما دون الطبقة.
المصادر:
حوار مع ليف أولمان أجراه صامويل فراجوسو، ونشر في 18 يناير 2015.
حوار مع ليف أولمان أجرته ديانا درام، ونُشر في 4 ديسمبر 2014.
حوار مع ليف أولمان أجرته إيما مايرز، ونشر في Indiewire، 4ديسمبر 2014