اعترافات شارلي كوفمان بأسرار سيناريوهات أفلامه
شارلي ستيوارت كوفمان كاتب وسيناريست ومخرج ومنتج سينمائي أمريكي من مواليد عام 1958 حائز على جائزة الأوسكار لأفضل نص سينمائي أصلي في العام 2005، كما اختارته مجلة “تايم” الأمريكية ضمن قائمتها لأكثر مئة شخصية تأثيرًا حول العالم في العام 2004. من أفلامه: ” أن تكون جون مالكوفيتش”، “عداد”، “ضوء الشمس الأبدي للعقل المجهول”، “أنوماليزا”، وغغيرها.
أكثر ما يميّز أفلام كوفمان أفكارها المدهشة الغريبة وسيناريوهاتها المركبة التي تترك المشاهد في حالةٍ من الانتشاء العقلي والرغبة العارمة في التأمّل الوجودي والفلسفي.
في محاولةٍ لتفكيك بعض هذه الأفلام الساحرة وتحليلها فكريًا، سأقوم في هذا المقال وبدءًا من المقطع التالي بالتحدث بلسان كوفمان، متخيّلًا أنه سيُدلي باعترافاتٍ وشهاداتٍ حول تلك الأفلام، أي أنني سأحاول تحليل أفلامه انطلاقًا من داخل رأسه هو شخصيًّا، بشكلٍ مشابهٍ لما فعل في رائعته “أن تكون جون مالكوڤيتش”:
“بالنسبة لي، ما من شيءٍ في الكون أكثرُ إثارةً وإغراءً من التأمل من العقل البشري، وإنّ كلّ ما أكتبه وأتخيله وأفكره، هو ضمن إطار البحث عن طرق جديدةٍ للاحتفاء بهذا العقل والإمعان في تمجيده وفي الاندهاش بأضوائه ومتاهاته.
حين أبتغي التحديد، سأقولُ إن أكثر ما يجذبُ مخيّلتي هي الاحتمالات الهائلةُ التي يمكن لدماغ الإنسان أن يُنتجها، الطبقات التي يستطيعُ برشاقةٍ أن ينتقل فيما بينها والدهاليز التي يخطّها تجوال السيالة العصبية في تلافيفه. لهذا السّبب، تبدوسيناريوهاتي كلُّها معقّدةً ومرهقة.. غير أنها رغم ذلك مدهشة. وأظنّ أن المطّلع عليها سيصفها بالأوصاف السابقة حتّى لو لم يفهمها، ذلك أنّها تعتمد في إدهاشها العقلَ على وظيفة العقل نفسه، فهي خلال تمحيصه والحفر فيه تجعله يَجفل من نفسه وينتشي مثل نرجس المجب بذاته الذي يتأمل نفسه أمام مرآته.
إذا ادّعيتُ أنّ أفلامي هي معادلاتٌ موضوعيّةٌ لأفكارٍ ومفاهيمَ واعيةٍ حددتها مسبقًا وعلّقتُها على جدار الغرفة قبل أن أمسك قلمي وورقتي.. سيبدو ذلك تصريحًا خطيرًا ومغرورًا أكثر من اللازم، ولذا لن أفعل. بل على العكس.. سأنسبُ كل المفاهيم المجردة التي تملّكت أحاسيس مشاهديّ وأدمغتهم إلى ذلك القديس الأكبر: اللاوعي. ما سأفعلهُ اليوم عبر هذا التسجيل هو تعيينٌ لإسقاطات لاوعيي، ومحاولةٌ لتفكيك الأضواء الكثيفةِ التي توجه نحوها شخصياتي الغريبة. بغية ذلك، سأقوم بتمرير ثلاثةٍ من سيناريوهات أفلامي على آلة الوعي الرصينة الصارمة، وليُعِنّي الله وروح كارل غوستاف يونغ على هذا.
1- ما أردتُ إثباتَه في “أن تكون جون مالكوفيتش”Being John Malkovich ينطلق من مقولةِ أوسكار وايلد الشهيرة “إن معظم الأشخاص هم أشخاص آخرون، أفكارهم هي آراء آخرين، حياتهم تقليد، حتى مشاعرهم لا تتجاوز كونها اقتباسات ” ويتمثل في التالي:
أن تكون شخصًا آخر، غيرك، يعني دومًا ألا تكون أحدًا على الإطلاق. وأن تحصل على شيءٍ ما اعتمادًا على فكرةٍ غيرِ أصيلةٍ فيك يعني حتمًا أنّك لم تحصل عليه بعد، وأنك على الأغلب لن تحصل عليه أبدًا.
التقنية السينمائية الأساسيّة اعتمدت تخيّل ذلك: تصوّر أنك تستطيع عبر فتحةٍ مخفيّةٍ أن تصل إلى عقل شخصٍ آخر، أن تصبح ضمنه، أن ترى بعينيه وتسمع بأذنيه وتتكلم بلسانه، باختصارٍ أن ” تكونه “، أن تدمج وجودكما معًا وتستغلّ ذلك لأهدافك الخاصّة، وكم ستكبر تلك الأهداف وسيسهل تحقيقها في نفس الوقتِ حين يكون ذلك الشخص هو جون مالكوڤيتش.
لقد انتشيتُ بهذا التصور نشوةً عظيمةً وذهبتُ به إلى أبعد حدّ. بيّنتُ كم يسعدُ الناس حين يكونون أشخاصًا غيرهم، كم هم مستعدون للتضحية كي يروا الدنيا من عيون غير عيونهم، ويمارسوا الوجود بأدواتٍ ليست أدواتهم.
وحده مالكوڤيتش أرهقه ذلك الثقب، فقد شعر كم من الصعب أن يُطِلّ على عقله، كم من المرهق أن يكون ذاته.. وذاته فقط.
في نهاية الفيلم، انهارت العلاقةُ التي استغلّت الثقب المؤدّي إلى عقل مالكوڤيتش، لصالح علاقةٍ أخرى أُرغِمت في سياق الأحداث على الابتعاد كليًا عنه. حيث اعترفت ماكسين لوت بحبها الدّفين، وهجرت كريچ الذي بنى حياةً كاملةً معها انطلاقًا من عقل مالكوڤيتش وجسده.
لقطة من فيلم “أن تكون جون مالكوفيتش”
إنّ ممارستَك لوجودك عبر منبرٍ آخر غير منبرك الخاصّ لن يعني سوى امّحائك، سوى فنائك ككيانٍ مستقلٍّ ومالكٍ لخيارك، بهذا المعنى “أن تكون جون مالكوڤيتش” لا يعني شيئًا، لا يعني أيّ شيءٍ على الإطلاق، وأولئك العجزة الذين قادهم للدخول إلى عقل مالكوڤيتش بشكل جماعيّ.. فعلوا ذلك لأنهم عجزةٌ، ولأن عمرهم لم يعد يسمح لهم إلا بخياراتٍ محدودةٍ، ظنوا أن أفضلها كان ذلك الخيار.
ورغم إدراكنا اللاواعي كبشر لسوء هذا الخيار، يُصرّ أغلبنا على المُضيّ فيه.. هنالك قوةٌ عميقةٌ تدفعنا بشراسةٍ إلى أن نكون على الدّوام غيرنا، وأن نسلم زمام أمورنا إلى آخرين نظنهم جديرين بذلك. إننا نستمتع بكوننا عرائس تحركنا الأيدي من عَلٍ، ونتجاهل كم يقزّمنا ذلك ويُحني ظهورنا. لقد حاولت أن أُرمّز لهذه الفكرة عبر توابع “الطابق السابع والنصف”، الذي كان يَضطَرُ زوّاره إلى تقويس أجسادهم بسبب سقفه الخفيض.
إنّ Being John Malkovich هودعوةٌ إلى الحرية، إلى تجاوز القوالب الثابتة المبهرة، إلى الفردية بشكلها الأسمى وإلى الإيمان بالذات ووضعها وخياراتها الخاصّة فوق كل اعتبار.
2- ” اخرسي.. تبًا لكِ يا امرأة. إنك مجرد عجوز وحيدة يائسة مدمنة مثيرة للشفقة”
زفرتُ ذلك بأعلى صوتي، في مشهدٍ يمثّل ذروة الفيلم ولحظة الزلزال في حياةِ البطل. لقد كانت هذه الشتائمُ موجهةً إلى الضعف والعجز والكسل والخوف والندم والذنب والكبت والنكوص وكل تلك المفاهيم الدنيئة.
كما أوحت افتتاحيّته، يشكل فيلم “إعداد” Adaptation استطرادًا لـ”أن تكون جون مالكوفيتش” Being John Malkovich وتعميقًا له. أردتُ فيه تبيان أنّ ذلك الإيمان العميق بالذات يتضمّن القفزَ من خلالها والتفوّقَ عليها.
من فيلم “إعداد”
ثنائيةُ تشارلي- دونالد كانت غايتُها إبرازَ التضادّ بين نموذجين توأمين للشخصية البشرية: المستسلم لقلقه الوجوديّ والمتحرر منه. وأود البوح بأنّ ذلك القلق كان أكثر ما عانيتُ منه في حياتي، لد منعني عن سلكِ العديد من الطرق وبسببه ندمتُ على كل قرارٍ اتخذت، لقد شكّل على الدوام عقبةً حقيقيّةً في وجه أحلامي اللامنتهية. لذا، جعلتُ من بطل هذا الفيلم بالذات تجسيدًا لشخصيتي الفعلية باسمي وكنيتي الكاملين. أما بخصوص دونالد، توأمي المتخيل، فقد خلقتُهُ مطابقًا لهيئتي البيولوجية، ولكن على النقيض التام لوضعي السيكولوجي: متمردًا على خوفه الاجتماعي ومسيطرًا عليه تمامًا، مؤمنًا بذاته، مندفعًا متدفقًا ومستمتعًا بحياته إلى أقصى حدّ.
في هذا الفيلم أردتُ أن أقول إنّ كلّ ما يعيقُكَ ينبع في النهاية منك وحدك: كان التوأمان بنفس المواصفات تمامًا، لكنّ أحدهما كان خجولًا إلى درجة الذعر من عيوبه الخارجية والداخليّة، والآخر كان متقبّلًا لها ومتحكمًا بموقفه منها على أكمل وجه.
الحوارُ الذي دار بين تشارلي ودونالد أثناء تخفّيهما عن سوزان وعشيقها أوحى لشارلي بالكثير، لقد أخرجه فجأةً من قيده القديم وجعله ينظر لوجوده من منظارٍ آخر غير الثقب الصغير الذي كان قد اعتاده في قوقعته الأزليّة. وفي النهاية، حين قُتِل دونالد، حين ضحّى بحياته في سبيل شارلي، شعر شارلي بأنه مَدينٌ له حتى عظامه وبأنّ هذا الدّين لن يُوفّى إلا بتحطيمه لسجن مخاوفه السخيف. لقد كانت تضحيةُ دونالد بمثابة دعوةٍ حاسمةٍ لشارلي إلى الثورة على نفسه، إلى التغلب على ضعفها وإلى تحرير طاقاته الهائلة التي طالما قمعتها هواجسُه.
من خلال الخطّين المتوازيين في السيناريو: خط محاولات شارلي البائسة للكتابة وخط رواية سوزان الباهتة الخالية من أي إيقاع، حاولتُ إيصال فكرة أنّ ما يضيف اللحن الحقيقي إلى أي قصة حياة هو الجانب “الدونالدي” في نفس من يعيشها، ذلك أنّ سيناريوهات تشارلي وحياته نفسها كانا يمضيانِ برتابةٍ مقيتةٍ ودون أيّ محفزاتٍ حقيقية إلى أن تدخّل دونالد فيهما باندفاعه وتمرده.
بهذا المعنى يُشكّل فيلم Adaptation إيمانًا بالـ” نيتشوية “، فهو يملأ مُشاهدَه رغبةً بالتمرد الدائم على عنصر الكبت الذي فيه، وإلى تجاوز أيّ صوتٍ يُعيقُهُ عن المضي قُدُمًا في سبيل ما يحلم ويؤمن به، إنه يُفعمهُ شهوةً إلى ” التفوق ” بأبهى صورِه.
لقطة من فيلم” أشعة الشمس الأبدية للعقل المجهول”
3- في فيلم “أشعة الشمس الأبدية للعقل المجهول” Eternal sunshine of the spotless mind حاولتُ التعمُّقَ في البعد الرومانسي لفكرة “العود الأبدي” التي طالما استوقفَت تأمُّلاتي.
في الفيلم، حين التقى العاشقان جويل وكليمانتين، مرة أخرى وبالصدفة، بعد أن أجرى كلٌّ منهما – عبر تقنيةٍ حديثةٍ متخيَّلة – عملية مسحٍ نهائيةً وحاسمةً للآخر من ذاكرته.،وقع كلٌّ منهما، مرةً أخرى، في غرام الآخر. وبهذا، أشرتُ إلى أنّ تلك القوة المبهمةَ المسماة بـ”الحب”، مقدّرةً على الإنسان ومختومةً على قلبه، مهما تبدّلت الظروف ومهما أُعيدت الكَرّات. ولقد عُدتُ ثانيةً لتأكيد هذه الفكرة عندما وقعت الممرضة ماري في حبّ الدكتور ميرزيواك، مرةً أُخرى، بعد أن كانت بدورها قد مسحته من ذاكرتها بشكلٍ كاملٍ ونهائي.
أن تقع في حبّ شخصٍ محدّدٍ بعينه هو أمر حتميّ، أمرٌ يشبه القدر، ولا صلة له بأحوالك أو بزمانك ومكانك، هو فقط: خطةٌ وجوديةٌ لا مناصَ لك منها، هذا ما أردتُ إيصاله من الفيلم: منطقة الرومانسية، وتعزيز شرعيّتها إلى أبعد حدّ. شعرتُ من خلال هذا الفيلم بأنني أشدّ على يد كل عاشق في هذا الكون وأهمسُ في أذنه بثقةٍ: لستَ بواهم.
لقد كان هذا الفيلمُ تبشيرًا بالحب، ودعوةً للاستسلام له. وددتُ من خلاله أن أُبيّنَ أنَّ الحب هو المفهوم الوحيد الذي يستحق أن نذيب ذواتنا فيه وأن ننساق وراءه بكلّ حواسّنا وأفئدتِنا.
حسنًا، أظنني بدوتُ معقّدًا إلى حدٍّ بعيدٍ في تحليلي هذا لسيناريوهاتي. ولكن، كيف لا أكون كذلك والحياة التي أحاول تفكيكها من خلال تلك السيناريوهات هي نفسها على درجةٍ هائلة من التعقيد تتوافقُ مع درجة تعقيد القشرة المخية التي تتوهّمها. أعتقد أنني وفقًا لذلك.. معذورٌ للغاية.
يبدو إيماني بمفاهيم الحرية والتمرد والحب الذي رشح من خلال هذه الاعترافات.. قويًا ومتجذرًا في لاوعيي إلى الحدّ الذي أنتج تلك الأفلام المركبة التي كان هدفها العميقُ الوحيد – كما اتضح اليوم- هو زرع هذه المفاهيم في حواسّ وعقول المشاهدين.
والآن، سأختمُ هذا التسجيل بعبارةٍ لدونالد كوفمان، توأمي الخيالي وشخصيتي الموازية. أظنني ضمنتُ في هذه العبارة المفاهيم الثّلاثة التي أشرتُ إليها، وبذلك، يكون دونالد قد همس بها من أعمق أعماق تشارلي:
” لقد أحببتُ سارا، شارلي. وكان لي وحدي هذا الحب. كان ملكي، حتى سارا نفسها لم تكن تملك الحق بأن تسلبه مني”!