إيتوري سكولا.. وداعاً أيها المعلّم الكبير
قبل أيام، في 19 يناير 2016، بعد غيبوبة استمرت أياماً إثر عملية جراحية في القلب، فارق الحياة كاتب السيناريو والمخرج الإيطالي الكبير إيتوري سكولا، وهو في الرابعة والثمانين من عمره. وقد نعاه رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي قائلاً: “سكولا هو معلّم الشاشة، الذي امتلك قدرة حادة، بقدر ما هي مذهلة، على قراءة المجتمع الإيطالي والتحولات التي مرّ بها”.
وكتب وزير الثقافة والسياحة في تغريدة له: “معلّم عظيم، رجل استثنائي مدهش، شاب حتى آخر يوم من عمره”.
وقال الناقد باولو ميريغيتي: “سكولا كان يفهم إلى أين تمضي إيطاليا. قلة من مخرجي السينما يمتلكون تلك الرؤيا، ذلك الاستبصار”.
أما الممثلة ستيفانا ساندريللي فقد عبّرت عن حزنها وقالت: “لقد وهبني سحر الفعل المشترك، أن نفعل الأشياء معاً.. ويا لها من أشياء! يا لها من أفلام!”
إيتوري سكولا يعد واحداً من أكثر المخرجين تألقاً وأصالة في السينما الإيطالية المعاصرة، وهو من الشخصيات السينمائية البارزة والهامة، التي قدمت للسينما إلإيطالية بعضاً من روائعها عبر ثلاثة عقود. كان يمثّل الصوت السياسي المميّز في سينما ما بعد الحرب. وكان عضواً سابقاُ في الحزب الشيوعي الإيطالي.
ولد في تريفيكو، القريبة من نابولي، بإيطاليا في العام 1931. درس القانون في جامعة روما. بعد تخرجه بدأ مسيرته الفنية ككاتب ورسام في المجلات الهزلية، كما كتب بعض الأعمال الإذاعية. وفي الفترة ذاتها ازداد شغفه بالسينما.
عن علاقته بالسينما يقول: “ولدت في قرية جبلية صغيرة، عدد سكانها لا يتجاوز 600 شخص. في كل عام كانت الشاحنة تجلب لنا السينما. كنت في الرابعة من عمري عندما شاهدت فيلماً للمرة الأولى. بصبر نافد كنت أمضي إلى الميدان العام، حاملاً مقعداً للجلوس عليه أثناء العرض. أذكر هبوب ريح باردة وقوية، إلى حد تمزّق الشاشة المنصوبة في مركز القرية. هذه الحركة انتقلت إلى الفيلم، لكنها لم تزعجنا ولم نكترث بها، فقد كانت مجرد عنصر إضافي. الصالة كانت تعرض فيلماً للوريل وهاردي، لكن لم يجرؤ أحد في الصالة على الضحك. الفعالية كانت مقدّسة إلى أبعد حد، وكل شخص كان متمدّداً، يقظاً، قلقاً تقريباً، والضحك عندئذ سوف يبدو كما لو إنه استهزاء. إذن العرض الأول الذي شاهدته كان فيلماً هزلياً مع جمهور جاد جداً. وقد ظلت هذه الخاصية ملازمة لأفلامي: هجائية، هزليه، لكنها جادة في النهاية”.
ذات مقابلة، سئل سكولا: “لماذا تحقق الأفلام؟ هل تعتقد أن لها غاية؟”
أجاب:” الفيلم حكاية، وسيلة اتصال غير قابلة للاستبدال. إنه يماثل الصفحة المكتوبة، لكن له لغته التي تصل إلى كل شخص. ومن أجل أن يفهمها المرء، هو لا يحتاج إلى المهارات المطلوبة لقراءة أعمال ديكنز.
ليس هناك الكثير من الوعي بأهمية السينما في ما يتصلبالتطور الشخصي، وبقيمتها كأداة سياسية. التلفزيون تغلّب على السينما لأنه يتيح الوصول إلى جمهور عريض جداً من المقترعين. على أية حال، الجمهور العريض الذي يجلس أمام جهاز التلفزيون غالباً ما يتعرّض للإلهاء ولا يلتقط الكثير مما يُعرض على شاشته، ذلك لأن مستوى الانتباه المطلوب من قِبل التلفزيون مختلف جداً عن ذاك الانتباه الذي تقتضيه السينما.
كان سيزار زفاتيني (أشهر كاتب سيناريو إيطالي) يدعو إلى منح كل شخص كاميرا لكي يروي من خلالها قصته الخاصة. إن قيمتها ستكون أعظم لأنها تحمل أفكاراً وعواطف ومشاعر لا يستطيع التلفزيون أن يمنحها. سيكون أمراً مثيراً للاهتمام تجربة ذلك في إيطاليا، في تلك الضواحي حيث صالات السينما تغلق أبوابها أو حيث لا توجد غير الصالات المتعددة الشاشات.
إن الضحكة الكونية، التي يستطيع المتشرد (شارلي شابلن) أن يثيرها، تفسّر الدور الذي لعبته السينما، وتستطيع أن تلعبه، لأن السينما تتعامل مع موضوعات هي جوهرية عند الكائنات البشرية في جميع الأزمنة وكل القارات”.
سنوات العطاء كانت من 1964 إلى 2003 حيث أعلن عن اعتزاله وهو في الثمانين من عمره، وقد برّر قراره بالاعتزال بالقول، في إحدى مقابلاته الصحفية، أن شيخوخته صارت تحول دون استمراره في العمل ضمن صناعة محرّكها الوحيد هو الربح التجاري. ويضيف: “كنت على وشك العمل في إخراج فيلم مع الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو. كل شيء كان جاهزاً للبدء في تصويره، غير إنني لم أعد أشعر بالرغبة في العمل. لم أرد أن أكون مثل واحدة من تلك السيدات العجائز اللواتي يتبرجن ويصبغن شفاههن ويلبسن الكعب العالي ليمكثن في صحبة الشبان”.
هو الذي زاول عمله مع المخرجين الكبار – فلليني، روسيلليني، دي سيكا – في الأزمنة الذهبية، شعر بأنه لم يعد يستطيع الانسجام مع الوسط السينمائي الراهن، أو التوافق مع صناعة فقدت رونقها وبراءتها وإغراءاتها. يقول: “تجربتي في عالم صناعة الأفلام لم تعد كما كانت.. سهلة وسعيدة. هناك متطلبات انتاجية وتوزيعية لا أستطيع التناغم معها وتلبيتها. بالنسبة لي، أمر حاسم أن أحافظ على تلك الحرية في الإختيار، في الإنسحاب. كنت قد بدأت في العمل ضمن قوانين لم تعد تسمح لي بالإحساس أني حر. في هذه الأيام، السوق هي التي تختار لك. السوق كانت دائماً عاملاً هاماً، مع ذلك كنت آنذاك تجد مساحة من الاستقلال. المنتجون كانوا أكثر قابلية للتجريب والقيام بمجازفات”.
لكنه عاد في العام 2013 ليقدم آخر أفلامه “كم هو غريب أن يكون اسمك فدريكو”، وهو فيلم وثائقي عن صديقه المخرج العظيم فدريكو فلليني.
خلال سنوات العطاء والإبداع أخرج 40 فيلماً تقريباً. لقد دخل المجال السينمائي كاتباً للسيناريو في العام 1953. واستمر في كتابة سيناريوهات، أغلبها ذات طابع كوميدي، لمخرجين آخرين حتى العام 1964 حيث أخرج أول أفلامه “دعونا نتحدث عن النساء”، وهو عمل يتألف من تسعة أجزاء يظهر فيها فيتوريو جاسمان مؤدياً شخصيات مختلفة لرجال يمارسون اغواء النساء.
في أفلامه تتداخل التراجيديا بالكوميديا، يمتزج الهجاء بالنقد الاجتماعي. إنها تسخر من البورجوازية الإيطالية لكنها لا تمجّد الطبقة العاملة بل تكشف عيوبها ونواقصها ونقاط ضعفها. كل مظاهر وجوانب المجتمع المعاصر: القضايا السياسية، العلاقات الجنسية، معضلات السياحة، قضايا المرأة، وغيرها.. عرضة للكشف والنقد والسخرية أو الهجاء. هذه الأفلام نتاج وعي ورؤية ومخيلة فنان مبدع لم يكفّ لحظة عن الاهتمام بما يدور في مجتمعه، بل أن أفلامه الأخيرة هي بمثابة بحوث في كيفية تعامل الشعب الإيطالي مع تاريخه ومحيطه الاجتماعي. وعبر استجواب واستنطاق الماضي هو يسعى إلى تأويل الحاضر.
يقول سكولا: “بوسع المرء أن يقول بأنني دائماً أحقق الفيلم نفسه، متناولاً موضوعين أو ثلاثة. قبل كل شيء، هناك الزمن، والذي سحرني منذ فترة شبابي. الزمن الكرونولوجي يتدفّق، لكن في الوقائع نحن نستمر في عيش التجارب التي حدثت سابقاً والتي سوف تحدث في المستقبل. أيضاً أميل للاشتغال على ثيمة أخرى: التاريخ، بدءاً بالأحداث الصغيرة التي تهتم بالناس العاديين وعلاقتهم بالصورة الأكبر للتاريخ”.
حقق النجاح العالمي في العام 1974 بفيلمه “نحن جميعاً يحب بعضنا البعض”، ذي الطابع التراجيكوميدي، الذي يتحدث عن الحياة الإيطالية والسياسة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من خلال ثلاثة أصدقاء كانوا ضمن قوات المقاومة إبان حكم موسوليني، واستمروا في النضال من أجل تحرير إيطاليا. وقد فاز هذا الفيلم، المهدى إلى صديقه المخرج الكبير فيتوريو دي سيكا، بالجائزة الكبرى في مهرجان موسكو.
في العام 1976 حاز على جائزة الإخراج في مهرجان كان عن فيلمه “وضيع وقذر”. وفي العام 1978 حاز سكولا على جائزة جولدن جلوب وجائزة سيزار عن رائعته “يوم خاص”.. هذا الفيلم الذي يتطرق إلى العلاقة العاطفية التي تنشأ بين مراسل إذاعي محكوم بالنفي (مارسيلو ماستروياني) وربة بيت متزوجة (صوفيا لورين) خلال يوم واحد يخرج فيه الناس لمشاهدة استعراض سياسي عسكري يقدمه الحزب الفاشي احتفاءً بزيارة هتلر لروما في 1938.
فيلمه “تلك الليلة في فارين” (1982) ثناء من أكثر أعماله طموحاً، وقد تميّز بجماليته البصرية الأخاذة، عبر حكاية تاريخية مستمدة من الثورة الفرنسية. وكما في أفلامه الأخرى، يتناول سكولا التأثير المتبادل للتاريخ والسياسة والإنسان.
عن فيلمه “الشرفة” (1980) فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان. وعن فيلمه “منافسة غير عادلة” (2001) حاز على جائزة أفضل مخرج في مهرجان موسكو. وقد رشح سكولا لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي خمس مرات.
من أفلامه الناجحة الأخرى: تحيا إيطاليا (1977) عاطفة حب (1981) حلبة الرقص (1983) العائلة (1987) روعة (1988) كم الساعة الآن (1989) رحلة الكابتن فراكاسا (1990) العشاء (1998).
بموته، ترك إيتوري سكولا “فراغاً هائلاً في الثقافة الإيطالية”.. هكذا قال رئيس الوزراء الإيطالي، هكذا قال الكثيرون.