إشكالية النقد والمشاهدة: كيف نفهَم ما نُشاهد؟

يثير أمير العمري في مقال بعنوان “الوصايا العشر للناقد المحترم” إشكالية كتابة وأسلوب النقد السينمائي وطريقة الكتابة، ماذا نكتب وكيف نكتب، يبدأها بأن النقدغير الصناعة وليس كما يروّج البعض، جزءا من الصناعة، بل هو جزء من الثقافة. أما عن أسلوب وطريقة الكتابة فيجد أن كلها أمورا تقديرية تخضع لثقافة الناقد وميوله ولا تهتدي بوصفة سحريه وأن جانبا أساسيا في ثقافة الناقد هي “القراءة” وليست المشاهدة فقط.

وسبق  للعمري أن قدم في عام 2010، في ندوة مخصصة للنقد بمهرجان تطوان السينمائي بالمغرب، دراسة بحثية عن النقد السينمائي من واقع تجربته  الشخصية والأفضل أن يقال من واقع منهجه الخاص الذي يؤكد بأنه لا يميل الى فرضه على أي ممن يكتبون النقد.

يمارس أمير العمري النقد السينمائي منذ عقود، إضافة إلى مساهمته في إنشاء وتنشيط نوادي السينما ورئاسته أكبر تجمع لنقاد السينما في الشرق الأوسط، وحضر وشارك في لجان تحكيم عشرات المهرجانات العربية والدولية وألف وترجم كتب عديدة وتابع منذ سنوات تحرير “عين على السينما” الإلكترونية الفريدة من نوعها.

وكما يبدو فأن دافع العمري في مقاله “الوصايا العشر” أخلاقي بالدرجة الأولى وهو يضع وصاياه الطريفة أمام من ينعته بالناقد المحترم كالتالي:

 لكي تكتب النقد السينمائي يجب أن يكون لديك أولا هًمّ حقيقي بقضية السينما.

 لكي تكون ناقدا يجب أن تبتعد عن التقاط صور “السيلفي” مع “الفنانات”.

عدم الدخول في الصناعة نفسها.

 لا ترتمي تحت قدمي مدير أي مهرجان، فالناقد يوجد من دون المهرجانات ولكن المهرجانات لا توجد من دون النقاد.

 يجب أن تكتب دون أن يكون لعلاقاتك الشخصية بصناع الفيلم أي تأثير على ما تكتبه.

 اعتمد على اجتهادك الخاص في فهم وتحليل الفيلم ولا تنقل أفكار وآراء الآخرين حتى لو بدا أنك تخالف الغالبية.

 إذا أردت مشاهدة الأفلام في عروض خاصة، لا يجب أن تشاهدها في حضور مخرجيها.

 لا تذهب أبدا لمشاهدة أي فيلم في منزل مخرجه حتى لو كان صديقك.

 لا تقبل أن يدعوك أي منتج أو مخرج إلى الطعام أو الشراب.

 شاهد الأفلام كلما أمكنك على الشاشة الكبيرة لا على شاشة اللابتوب أو الكومبيوتر

رابط إلى مقال أمير العمري “الوصايا العشر للناقد السينمائي “المحترم”

ولأن العمري لا يؤمن بوجود وصفة سحرية يلتزم بها الناقد، بودنا أن نتوقف عند ما يسميه مشاهدة وقراءة الأفلام. صحيح أن ليس هناك وصفة، لكن هناك ثقافة الناقد الذي يقرأ الفيلم وفقا لذوقه الذاتي أو تذوقه الموضوعي، والفارق كبير فيما بينهما، ليحاول أن  ينقل عدوى ما قرأه لشخص آخر شاهده أو ينوي مشاهدته، وهو يعبر، شاء أم أبى، عن صور سياق الفيلم البصري بوساطة الكلمات.

يتسائل العمري: هل الأفضل أن يكتب الناقد عما يحبه من أفلام وعما يروق له ويعجبه منها، أم أن من واجبه الكتابة عما لا يعجبه أيضا، حتى لو أثار استياء المعجبين بالفيلم من الجمهور؟ لا شك أن عملية القراءة تُلزم الناقد حتى وان كان لا يحب الفيلم أن يقرأه بعيدا عن ذوقه، إذ لا يمكنه ان يحب كل الافلام التي يكتب عنها حتى وان كانت من صنع مخرجين كبار لكن المهم ألا يخلط بين ذوقه وتذوقه، بين أن يحب هذا الفيلم أو ذاك أو لا يحبه؟

قيس الزبيدي

وعن ضرورة التسلح بأدوات تؤهل الناقد لقراءة الفيلم وفهمه فإنه قد يستطيع بعد جهد جهيد أن يمتلك منهجا يُمكنه من تحليل عناصر الفيلم وكشف مُكوناته الفنية. لكن لا يمكن لقواعد أي منهج بعينه أنْ  تقرأ وتحلل كل الافلام دون أخذ جنسها وأنواعها وحتى تقنياتها بنظر الاعتبار.

يستند منهج ديكارت إلى فهم قواعد أربع:

  • قاعدة البداهة، وتقوم على الإدراك المباشر.
  • قاعدة التحليل، وتقوم على ما يمكن تسميته الآن التفكيك، أي تقسيم أي مقولة، أولاً، إلى عدد من المقاطع الممكنة واللازمة لحلها.
  • قاعدة التركيب وتقوم، ثانياً، على ترتيب الأفكار للانطلاق من الأمور البسيطة والتدرج منها في الصعود تدريجياً إلى معرفة أكثر تركيباً.
  • قاعدة الاستقراء وتقوم على مراجعات عامة لكلية الأجزاء بحيث لا تغفل شيئاً منها.

ربما يفيد هنا تعداد تيموثي كوريغان في مؤلفه «كتابة النقد السينمائي» لمناهج ستة:  الشكلي والمضموني والتاريخي والقومي والإخراجي والأيديولوجي. غير أن هناك من يرى مناهج وطرقا اخرى في قراءة وتحليل الفيلم. وعلى الأرجح أن هذه المناهج لا تكون متفردة، بل متداخلة في أساليبها بدرجات متفاوتة، كما ذلك لا يعني أن أنواعها تظل ثابتة، إنما تواكب معارف العلم، لأن أدوات العلم تتغير وحاجاته تتطور. كما إن التكوين الثقافي للنقاد يختلف ايضا نظرا للمناهج التي يفيدون منها في دراساتهم الاكاديمية أو في دراساتهم الشخصية خلال وأثناء ممارستهم للنقد السينمائي.

كيف يكتسب النقد أهميته حقاً، أمن كونه كتابة في “أدب” السينما أم من كتابة في ما يسمى  “علم” السينما؟خاصة وأن العمري إذ يتطرق إلى جهود الناقد الكبير سمير فريد، يرى انه بدأ مع ثلاثة نقاد آخرين مثل فتحي فرج وصبحي شفيق وسامي السلاموني، في شق طريق جديد في النقد السينمائي يقوم على التحليل العلمي وليس على الانطباعات الصحفية السريعة.

كان الناقد الوجودي أندريه بازان يعمل على تطوير نظرية سينمائية منطلقا من “كون وجود السينما يسبق جوهرها” وكانت نظريته استنتاجية- قائمة على التطبيق والممارسة. وقد واصل عمله على أكثر من خلال تفحصه النقدي للأنواع الفنية ومهما تكن النتائج التي استخلصها، فإنها اقتربت مباشرة من تجربة الواقع الملموس للفيلم، وجربت وضع حجر الأساس لنظرية أخلاقية وسيميائية، أخذت أهميتها عند عدد من زملائه في مجلة “كراسات السينما” التي أسسها عام 1951، وهي أكثر المجلات السينمائية أهمية وتأثيراً في تاريخ السينما وكانت خلال الخمسينيات ومطلع الستينيات، أشبه بمأوى للمثقفين النقاد، أمثال فرانسوا تروفو وجان لوك غودار وكلود شابرول وأريك رومر وجاك ريفيت وغيرهم. وقد ساهم كل هؤلاء مساهمة فعالة في تطوير نظرية بازان.

وفي غضون ذلك بدأ تروفو وغودار ونقاد آخرون في تطوير نظرية التطبيق النقدي على صفحات المجلة نفسها وشكلوا أيضا، كمخرجين، الرعيل الأول من السينمائيين الذين كانت أعمالهم موضع دراسة متقنة في تاريخ ونظرية السينما، ولم تكن أفلامهم مجرد أمثلة تطبيقية للنظرية وممارستها، بل غالباً ما كانت مقالات نظرية، برهنت، لأول مره على إمكان كتابة نظرية في الأفلام ، بدلاً من طبعها على الورق.

نمت فكرة كتاب جون أور “السينما والحداثة” من محاولة القيام بفهم تفصيلي للتساؤل السينمائي الخاص بالحداثة ومن إعادة قراءة لذلك الجدل العارم في مجلة “كراسات السينما” حول فيلم ألان رينيه “هيروشيما حبيبتي”، لأن النقاد لم  يعرفوا وقتئذ، أن يضعوا الفيلم في أي مكانة في تاريخ السينما، رغم أنه جدد الإحساس بنقاوة فن السينما. ويحاول المؤلف، بعد ثلاثين عاماً، أن يجيب عن السؤال الذي طُرح وقتئذ حول نوعية الأفلام التي تجاوزت الأسلوب السردي التقليدي لتصبح سينما المستقبل.

وكان ألان رينيه قد توجه بالنقد في عام 1962 لتصريح من سارتر عام 1944 قائلا أنه بعد أن شاهد سارتر فيلم أورسون ويلز “المواطن كين” قال: “رأيت فيلماً شيقاً، لكن هذه ليست سينما. هذا فيلم يعتمد الماضي المستمر ولا يقدر المرء فيه أن يتماهى مع البطل ذاته”! 

ويعقب رينيه: “لست ادري إن كنت على معرفة كافية بمسرح بريشت.. غير أنه من المؤكد أني أحب إيجاد شيء ما يكون بمثابة معادل لتلك الحرية، التي أحسها في كل أعمال بريشت المسرحية. وأنا لا أفكر باقتباس ما،  أنا أبحث أكثر عن معادل”.

اشكالية من يصنع الفيلم إذن، أو من يشاهد الفيلم  كانت قائمة ولا تزال وسبق ليوري لوتمان في كتابه «قضايا علم الجمال السينمائي» أنْ طَرح سؤاله الراهن: كيف يمكن جعل السينما التي بلغت درجة عالية من التعقيد السيميائي الدلالي، في متناول جمهور شديد التفاوت في مستواه الثقافي؟ لكن يمكن أن نضيف أيضا كيف يمكن جعل السينما، وهي تبلغ هذه الدرجة العالية من التعقيد السيميائي، في متناول الناقد وماذا يترتب عليه أن يقرأ؟ وماذا عليه أن يشاهد؟

تتكون ثقافة الناقد السينمائي- حسب العمري- من أركان عدة:

  • إلمام كاف بتاريخ السينما.
  • متابعة جيدة للتيارات والاتجاهات المختلفة في السينما.
  • مشاهدة مكثفة للأفلام التي تعد علامات في تاريخ السينما وتشمل الكلاسيكيات القديمة والحديثة.
  • التمتع بثقافة تشكيلية عالية.
  • اضطلاع على الأدب والمسرح إضافة إلى ثقافة عامة، اترتبط بعلوم انسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس.
  • ويأتي دور الناقد ومهمته كما يراها العمري في أن  يتوجه أساسا إلى القراء من المشاهدين ومن غير المشاهدين. لعله يؤثر مع غيره من النقاد في محاولة خلق جمهور يقرأ ويقوٍّم ما يشاهد من أفلام وهو هدف لا يتحقق ببساطة إلا بفضل النقاد.

لقطة من فيلم احتقار” لجان لوك غودار

وسنأتي بمثال على ذلك:

خرج فيلم “الاحتقار” للعرض الجماهيري في عام 1963 في خمس صالات عرض في آن واحد وكان عدد جمهور المشاهدين في اليوم الأول قد بلغ 2863 متفرجاً. وكان غودار مطمئناً لاستقبال النقاد لفيلمه من زملاء الأمس في مجلة كراسات السينما ذات التأثير الكبير على الجمهور. وكالعادة استقبل الفيلم بمواقف متباينة من جانب الجمهور والنقاد، فهناك من النقاد من وصف فيلمه بالتحفة السينمائية ومنهم من اتهمه بالقصور واعتبروا فيلمه مثيراً للضجر ويبعث على الملل. وأشارت في حينها مجلة ” سينما 64″، إلى أنما المرة الأولى التي  يحصل فيلم على تقييم متناقض كلياً وتقويم متطرف تماماً بين مؤيد ورافض للفيلم على صفحاتها، فالبعض أصر على أنه تحفة فنية سينمائية رائعة والآخر أعتبره تافهاً ووضيعاً وعديم القيمة. لكن حينما أعيد عرض الفيلم بعد عقدين من الزمن  في ست صالات عرض باريسية اختلف الأمر تماما فالنقاد تلقفوه بإعجاب شديد وحتى بالإجماع تقريبا. كان سبب النجاح  ظهور نقاد سينما جدد على الساحة النقدية الفرنسية الذين تتلمذوا على يد غودار وزملائه وتشكلت أذواقهم ومفاهيمهم الجمالية السينمائية وفق جماليات ومعايير الموجة الجديدة الفرنسية.

من المفيد أن نشير أخيرا إلى كتاب “الذهاب إلى السينما” لأستاذ السيناريو اللامع سيد فيلد، الذي دوّن فيه مذكراته، حينما بدأ يفكر طوال السنوات الخمس والثلاثين الماضية، من حياة، قضاها في السينما، ويذكر من وجّهوه وتركوا أثراً في نفسه وفي الأفلام التي شاهدها ودرسها وهدفه من كتابة سيرته الشخصية أن تساعد القارئ و ” تضيء له الطريق وتكّون لديه تجربة سينمائية غنيه ممتعة وعميقة“. لأن السينما أصبحت ليست فقط جزءاً مكملاً لثقافتنا أو جزءاً من تراثنا، إنما باتت تشكل أسلوب حياة، يَسمُ العالم كله.

المصادر

  1. يوري لوتمان: مقدمة في السيميائية . ترجمة نبيل الدبس. مراجعة قيس الزبيدي/الفن السابع/ المؤسسة العامة للسينما دمشق. 2001
  2. قيس الزبيدي. درامية  التغيير- برتولد بريشت. دراسات مختارة/ دار كنعان دمشق 2004
  3. أمير العمري: ورقة بحثية في مهرجان تطوان السينمائي عام 2006
  4. جون أور- “السينما والحداثة” – ترجمة محسن ويفي/ مكتبة الإسكندرية/ 2006-
  5. جواد شارة: كـــيـــف نــقـــرأ فــيــلــمـــاً؟ الحوار المتمدن  2010
  6. قيس الزبيدي: في الثقافة السينمائية- مونوغرافيات/ افاق سينمائية الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة /2013
  7. أمير العمري: الوصايا العشر للناقد المحترم- صحيفة العرب 2017


Visited 33 times, 1 visit(s) today