أوليفر ستون يكشف إرهاب المال في “وول ستريت”
يبدو فيلم “وول ستريت” (Wall Street) الذي صنع قبل أكثر من ثلاثين عاما عملا شديد المعاصرة ولا يزال صالحا حتى الآن، لفهم الكثير مما وقع خلال العقد الأخير في الولايات المتحدة وأدى إلى الأزمة المالية العالمية التي نتج عنها ما عرف بـ”الركود الكبير” الذي لا يزال قائما حتى يومنا هذا في بلدان عدة، وكان ما حدث ويحدث في “وول ستريت” هو السبب.
يبدو الفيلم أيضا شديد الصلة بالمفاهيم والأفكار التي يرددها الرئيس دونالد ترامب كثيرا وتعكس نظرته الخاصة للنجاح، أي تحقيق الثروة والاستحواذ على كل ما يمكن الوصول إليه، بغض النظر عن الأخلاقيات.
كان والد أوليفر ستون مضاربا في بورصة نيويورك، ويعترف هو بأنه لم يكن يحبه خاصة بعد أن خسر كل ما يملك وأصبح يتعين على أوليفر أن يتدبر تكاليف استكمال دراسته بنفسه.
وعندما كان ستون يكتب سيناريو فيلم “الوجه ذو الندبة” (1984)، الذي أخرجه بريان دي بالما وقام ببطولته آل باتشينو، جاءته فكرة فيلم “وول ستريت” بعد أن وجد شبها بين توني مونتانا بطل “الوجه ذو الندبة” المهووس بفكرة تحقيق الثراء السريع، وبين رجل كان قد عرفه وعرف أنه حقق ثروات طائلة من المضاربة في البورصة، يصفه ستون بأنه كان “مثل تاجر مخدرات مجنون، يوالي اتصالاته الهاتفية مع هونغ كونغ ولندن، يفحص رسائل التليكس، ويتحدث عن الأموال الكثيرة التي يكسبها أو يخسرها يوميا.
وكان يعيش طراز حياة ‘الوجه ذو الندبة’، ويمتلك منزلين على غرار منزل غاتسبي، وعدة عربات تجرها الخيول وسيارات وطائرات خاصة وشركة للنقل البحري، ومجموعة من المقتنيات الفنية، ومنزلا ريفيا في مانهاتن. ثم كان سقوطه المروع”.
بناء الفيلم
فيلم “وول ستريت” تحذير مبكر من تداعيات المضاربة العشوائية ويمكن أن تتسبب في كوارث حقيقية كما حدث بالفعل
يعتبر فيلم “وول ستريت” تحذيرا مبكرا من تداعيات المضاربة العشوائية والجشع الذي يدفع شركات المال في “وول ستريت” إلى المجازفة بأموال المودعين والمستثمرين، ويمكن بالتالي أن تتسبب في كوارث حقيقية كما حدث بالفعل. ولا شك أن فيلم “وول ستريت” قد ألهم المخرج سكورسيزي فيما بعد، ليخرج “ذئب في وول ستريت” الذي يُعدُّ الامتداد الطبيعي لفيلمنا هذا. ولكن في حين جاء “ذئب في وول ستريت” دراسة في سيكولوجية الجشع، كان “وول ستريت” معالجة تكشف عن الدوافع الأخلاقية للشخصيات، وترصد نقاط الضعف التي تؤدي إلى سقوطها.
يقوم البناء في “وول ستريت” على فكرة شبيهة بـ”فاوست” الذي يبيع روحه لـ”الشيطان ميفيستو” من أجل الحصول على المال وتحقيق الثراء السريع. أما فاوست هنا فهو بد فوكس (الذي يقوم بدوره شارلي شين)، وهو شاب طموح يعمل في إحدى شركات وول ستريت، يشتري ويبيع الأسهم لحساب المستثمرين. أما الشيطان فهو غوردون جيكو (يقوم بالدور مايكل دوغلاس ببراعة استحق عليها جائزة الأوسكار) وهو أحد كبار رجال المال الذي يتحكم في مصير الكثير من الشركات، يشتري ويبيع ويحقق ويستخدم الغش والطرق الشيطانية لتحقيق ثروات طائلة.
يتطلع بد إلى العمل لدى جيكو وسرعان ما يجد نفسه قد وقع في حبائله، فالرجل يريده أن يحصل له على معلومات سرية من الداخل، أي من داخل الشركات، حتى يمكنه التلاعب في البورصة بالشراء والبيع وتحقيق الأرباح، وهو عمل يجرمه القانون الأميركي. وعلى المستوى الثاني -بالتوازي مع مستوى العلاقة بين فاوست والشيطان- هناك ثنائية الأب والأب البديل.
فوالد بد، كارل (الذي يقوم بدوره مارتن شين والد شارلي الحقيقي) وهو مهندس في شركة الطيران “بلو ستار”، يمثل الفكر القديم القائم على مبدأ الاجتهاد في العمل من أجل الترقي وتحقيق الصعود، ولكن هذه الأفكار لا تتفق مع رغبة ابنه بد في الصعود السريع، فيرتمي في أحضان الأب البديل جيكو الذي يغريه بالثراء ويُزيّنُ له طريق التلاعب والخيانة والغش، فيخون أولا والده عندما يفشي بمعلومات عن خطط شركة “بلو ستار” للتوسع فيدفع جيكو إلى شراء أسهمها، ثم يخون نفسه بعمل علاقة ذات دلالات رمزية مع العشيقة السابقة (المستهلكة) لجيكو أي الشقراء دارين (داريل هانا) التي تصمم الديكورات الداخلية لمنازل الأثرياء الذين تتعرف عليهم عن طريق جيكو. أي أنها تنتمي إلى عالم الجشع والبحث عن المال بأي ثمن، لذلك ستتركه عندما يحل صدامه مع جيكو.
يتمادى بد في إرضاء شهوة الاستحواذ عند أبيه البديل جيكو، ولا يتورع عن انتحال صفة عامل نظافة ويتسلل إلى شركة صديق قديم له، وهي شركة متخصصة في الإجراءات القانونية التي تيسّر استيلاء الشركات الكبيرة على الشركات الصغيرة، ويسطو على ملفات الشركة التي تحتوي على تفاصيل هامة يقوم بتصويرها ونقلها إلى جيكو الذي يستفيد منها كثيرا في عملياته المريبة.هجاء سياسي للمؤسسة الأميركية التي لا تعرف القيم
ويحصل بد على الكثير من المال، ويشتري شقة فخمة في مانهاتن تقوم دارين بتصميم ديكوراتها، ثم يتدنى أكثر فيرضخ لإغراء جيكو بجعله رئيسا لشركة “بلو ستار” التي اشترى أسهمها، ويقف ضد والده كارل الذي يرفض شروط جيكو التي تقضي بالاستمرار في العمل مع غيره من العمال النقابيين في الشركة، مع الموافقة على خفض رواتب جميع العاملين أكثر من 20 في المئة وزيادة ساعات العمل 7 ساعات شهريا.
هذه المواجهة التي تصل إلى ذروتها الدرامية في مشهد الاجتماع بين ممثلي الشركة والنقابة من جهة، وجيكو ورجاله وعلى رأسهم بد نفسه من ناحية أخرى، سرعان ما تسفر عن خطة أخرى موازية سرية يعدها جيكو لتصفية الشركة كلها.
الهجاء السياسي
الدافع الأخلاقي يبرز عندما يكتشف بد في لحظة وعي (متأخر كثيرا) أنه خُدع، وأن جيكو قد غرر به، وأنه لا يمانع من الإلقاء بوالده في عرض الطريق خدمة لمصالحه. فيثور على جيكو ويدبّر خطة يستخدم فيها نفس السلاح، فيقنع رجل الأعمال البريطاني غريم جيكو، بشراء أسهم “بلوستار” بعد أن يجعلها تنخفض انخفاضا سريعا في البورصة فلا يجد جيكو مفرّا من بيعها.
ينتمي فيلم “وول ستريت” إلى سينما الهجاء السياسي للمؤسسة الأميركية التي لا تعرف الأخلاقيات أو القيم، والتي تندفع في ممارساتها “العدوانية”؛ أولا على مستوى الأميركيين، بالحرص على حماية الأثرياء والسماح لهم بممارسة جميع أنواع الاعتداءات (يجب أن نلاحظ هنا أن مصير جيكو يبقى غامضا في النهاية، وغالبا لن يواجه الاتهام رسميا بينما يتم القبض على بد وتقديمه للمحاكمة). وعلى المستوى الثاني، تسمح قواعد اللعبة التي تدار من خلالها الأمور، بدور مباشر للمؤسسة في التحكم بما يجري في العالم، كما يكشف أحد أهم مشاهد الفيلم يبلغ فيه أداء مايكل دوغلاس ذروته.
يحضر جيكو اجتماعا لشركة “تيدلر” التي يدبر لتصفيتها ونراه يمسك بالميكروفون ويلقي خطبة طويلة وهو يتحرك بين مساهمي الشركة مذكرا إياهم بأنه لا يفعل أكثر من تطبيق القاعدة الأميركية القديمة ومتابعة السير في طريق “الحلم الذهبي الأميركي” فيقول “لقد أصبح الوهم حقيقة، إن الأغنياء الذين تبلغ نسبتهم واحدا في المئة يمتلكون نصف الثروة في أميركا.. بينما لا يساوي تسعون في المئة من الأميركيين شيئا.. أنا لم أخلق هذا الوضع.. إنني أمتلك. نحن نضع القواعد.
إننا نصنع الأخبار والحروب والسلام والمجاعات والانتفاضات وأسعار ورق التواليت. إننا نخرج الأرنب من القبعة، بينما يقف الناس ويتساءلون في دهشة كيف نفعل ذلك. أيها الفتى أنت لم تعد ساذجا الآن لكي تظل متشبثا بفكرة أننا نعيش في ديمقراطية؟ إنها سوق حرة.. هل أنت معي؟”.
يمضي جيكو في الإفصاح الوقح عن الولع بالسلطة وعن العلاقة بين سلطة المال وسلطة السياسة عندما يذكر أعضاء شركة تيدلر التي يحاول تدميرها “الجشع أمر جيد.. الجشع أمر سليم. الجشع يقتحم ويمسك بزمام الأمور. لقد كان الجشع هو الذي دفع الإنسانية إلى الأمام، وسوف ينقذ، ليس فقط شركة تيدلر، بل الشركة الأخرى الكبيرة التي تعاني من سوء الإدارة.. أي الولايات المتحدة الأميركية”.
اقتضت طبيعة الفيلم أن يدور التصوير في معظمه داخل مكاتب الشركات، إلا أن ستون استخدم الكاميرا المتحركة داخل هذه الأماكن بكثرة لكي يمنح الانطباع بوجود نوع من المبارزة أو الرغبة في استعراض السيطرة، ويصف هو شخصياته بأنها مثل أسماك القرش الجائعة، ويصف حركة الكاميرا بأنها تقوم بـ”تغذية الجوع”.
أسلوب ستون
تبدو ديكورات قاعة غوردون جيكو التي يدلف إليها البطل الشاب في المرة الأولى ليحظى بخمس دقائق فقط مع الرجل بعد أن اضطرّ للانتظار لساعتين، مبهرة بنوافذها العملاقة التي تظهر منها ناطحات السحاب في أرقى مناطق جزيرة مانهاتن، ويتعمد ستون أن يقطع المقابلة بين الرجلين بمكالمة هاتفية تجعل جيكو يستدير بكرسيه الذي يتحرك على محوره الأفقي بحيث يدير ظهره لصاحبنا، بينما يتحدث ويصدر الأوامر والتعليمات بثقة استعراضية.
ويبدو منزل جيكو مليئا بمظاهر الترف ومن بينها اللوحات الفنية التي يتفاخر باقتنائها، ثم نراه في مشهد آخر على شاطئ المحيط وهو يصف لبد جمال الطبيعة عبر التليفون الخاص المحمول الذي سبق ظهور التليفونات المحمولة التي نعرفها اليوم. وكأن الفيلم يقول لنا إن هؤلاء البشر يترجمون ما يحصلون عليه من أموال طائلة إلى متع مادية مباشرة مثل امتلاك السيارات الفارهة والطائرات الخاصة والمنازل الفاخرة والتمتع بالاسترخاء عند أرقى الشواطئ، إلخ.طبيعة الفيلم اقتضت أن يدور التصوير في معظمه داخل مكاتب الشركات، إلا أن ستون استخدم الكاميرا المتحركة داخل هذه الأماكن بكثرة لكي يمنح الانطباع بوجود نوع من المبارزة أو الرغبة في استعراض السيطرة
أسند ستون دور بد سبنسر إلى شارلي شين لأنه رأى فيه كما يقول “جانبا شيطانيا.. ونزعة قوية متمردة ممزوجة بنبل داخلي”. ولكن شين لم يكن قد تجاوز بعد الثانية والعشرين من عمره، وكان يبدو بالتالي أصغر كثيرا من وسطاء البورصة المخادعين الحقيقيين، لذلك فقد تغلّب ستون على ذلك بأن صنع له ملابس مناسبة، وغيّر من طريقة تصفيف شعره، ودفعه إلى تناول الطعام لكي يزيد من وزنه، إلى أن أصبح مناسبا للدور. وقضى شارلي ستة أسابيع في دراسة الشخصية والإعداد لها فزار الكثير من الشركات المالية، والتقى ببعض رجال الأعمال ومنهم ديفيد براون الذي حكم عليه في قضية تلاعب تجاري.
وقام ستون بتصوير المشاهد الخارجية في المواقع الحقيقية، لتوفير الجو الطبيعي الذي يساعد الممثلين على أداء أدوارهم بإقناع، موظفا مئات من الكومبارس للوقوف بين الممثلين والجمهور من المارة الفضوليين.
وشارك في الفيلم مئات الممثلين الثانويين الذين كانوا يحضرون كل يوم إلى موقع التصوير، يستقلون مصاعد حقيقية إلى مكاتب حقيقية، ويعملون 14 ساعة متواصلة أمام الكاميرا في أدوار الوسطاء التجاريين ورجال الأعمال والمندوبين والسكرتيرات والمديرين.
وصورت المشاهد التي تدور في مكاتب جيكو وشركة شتاينهايم -حيث يعمل بد- ببرج تجاري خالٍ في برودواي. وتم تحويل مكتب جيكو، وهو قاعة ضخمة في إحدى الشركات السابقة، إلى جناح يليق بأرستقراطي من رجال وول ستريت، بعد إعادة تصميم ديكوره الداخلي وتزيينه بلوحات لبيكاسو وميرو ونيفلسون. وزودت مكاتب شركة شتاينهايم بشبكة محكمة من أجهزة الفيديو والكمبيوتر والتليفون.