أوراق القاهرة السينمائي-3: ما الذي حدث لمرزاق علواش؟

أمير العمريالقاهرة

فيلم جديد من المخرج الجزائري الكبير مرزاق علواش، الذي كان فيلمه “عمر قتلاتو” (1976) تدشينا لتيار السينما الجزائرية الجديدة. ولكن علواش يبتعد هنا عن موضوعه للذي ظل يدور حوله بتنويعات مختلفة خلال العشرين عاما الأخيرة، موضوع التطرف الديني والإرهاب في ضوء ما شهدته الجزائر من أعمال عنف على يد التيار الإسلامي فيما عرف باسم “العشرية السوداء”.

أصابني فيلمه الجديد “العائلة” (يسميه هو على شريط الفيلم نفسه العايلة) الذي عرض ضمن مسابقة آفاق السينما العربية بمهرجان القاهرة السينمائي الـ44، بنوع من الإحباط، فلم أكن أتوقع أن يكون على كل هذا النحو من السذاجة والتبسيط كما لو كان مجرد تمثيلية تليفزيونية ذات سالة أخلاقية مباشرة (الجريمة لا تفيد، ولك يوم ياظالم!!)، فهو يناقش موضوعا يتعلق بالعائلة، ولا انفصال هنا بين موضوع الفيلم واسمه، بل هو يصور ما يحدث لعائلة محددة، عائلة وزير فاسد في الحكومة الجزائرية يقرر الفرار خارج البلاد بعد أن أجبر الحراك الوطني في الشارع الجزائري الذي انفجر عام 2019، النظام على اعتقال بعض رموز الفساد وتقديمهم للمحاكة، وبالتالي أصبح الوزير الذي نحن بصدده هنا، عرضة للاعتقال والمحاكمة.

إلى جانب الوزير الذي يبدو من أول لقطة في الفيلم كأرنب مذعور، هناك زوجته المزعجة المنفرة التي لا تكف لحظة واحدة عن الحديث كلما ظهرت في الفيلم، وتسيطر حالة الهستيريا الكلامية على الرجل والمرأة، فها يتراشقان بالكلمات، والفكرة هي أن ما جمعهما طوال تلك السنين كان فقط، الانتفاع والاستغلال المشترك والحصول على المزايا، لا العلاقة الزوجية.

زوجة الوزير تبيع اليخت الننلوك للعائلة

الزوجة تهرع إلى بيع الممتلكات التي حصلت عليها الأسرة بالغش والرشوة الفساد، من قصور وفيلات وسيارات فارهة وتحف الفنية، لكنها لا تتمكن. ولديها في الفيلا التي تقيم فيها، حرس خاص من ثلاثة أشخاص يرأسه “خالد”. وهي تعامل أفراد الحراسة بتكبر وعنجهية واستعلاء شديد مبالغ فيه كما تتمسك بكلبها الذي تطلق عليه برنس، تمسكا مرضيا، فهي تحبه أكثر من ابنتها الشابة التي تبدو لنا منغمسة في الحراك الشعبي الذي يقوده الطلاب، ومن الواضح أنها لم تحسم تماما ميولها الجنسية، فهي تميل الى خالد الذي ربما كان يحبها أو يريد أن ينالها (لا نعرف!)، لكنها ترتبط أيضا بعلاقة حب مثلية مع فتاة زميلة لها في الجامعة، ومرزاق علواش يشير إلى تلك العلاقة من خلال تلامس الأقدام من تحت المائدة، ثم بعد ذلك عندما يصور انهيار الابنة بعد ان وصلها خبر موت صديقتها -ربما اصابتها رصاصة – لا يكشف الفيلم السبب،. والحقيقة أن العلاقة لا مبرر لها داخل سياق الفيلم بل تبدو منفصلة تماما عن الفيلم وربما أضيفت الى السيناريو لإرضاء الطرف الفرنسي في الانتاج!

ويكتفي مرزاق في فيلمه بلقطات عابرة من الأرشيف في بداية الفيلم لمظاهرات الشباب دون أن يعود إليها قط،، ولكن الابنة ستظل طويلا تفتح الطريق أمام خالد الى أن تغلقه تماما في نهاية الأمر بما نفهم نحن وفهم هو، أنها لا تجد نفسها مع الرجال.. أما الابن (الوحيد) للأسرة فنعرف أنه تم ارساله إلى لندن للدراسة، وأن والده قد دبر له الأمر بحيث يحصل على قسط من المال الذي تم تهريبه للخارج، إلى فرنسا بالطبع.

علاقة مثلية خارج السياق

أما خالد فسوف يغير ولاءه من الاخلاص الشديد في خدمة الوزير وزوجته، إلى التآمر عليهما مع شاب كان الوزير قد تسبب في سجنه، يزوده بمسدس ويجعله يمثل دور السائق الذي سيقود السيارة عبر الحدود المغربية لتهريب الرجل وزوجته، وبالتالي يتيح للشاب الفرصة للانتقام بقتل الوزير، ولكنه سيفشل فشلا ذريعا وتكون النتيجة أن يُقتل هو برصاصة تنطلق في الاتجاه الخطأ!!

كل شيء في الفيلم مبالغ فيه: الشخصيات السطحية التي تتحرك على سطح الفيلم دون أن تعمق ودون حتى أن نفهم بالضبط طبيعة الفساد الذي تورط فيه هذا الرجل، والحبكة الهشة التي تقوم على افتراضات ساذجة تماما، مع غياب للدراما، وتصعيد الأحداث، فكل شيء يصبح متوقع الحدوث من الوهلة الأولى، كما يمتليء الفيلم بالحوارات العقيمة التي تنقل لنا الكثير من التفاصيل بطريقة مباشرة سخيفة، والكاريكاتورية الشديدة في رسم شخصية الوزير وزوجته وتكرار الفكرة باستمرار (مثل فكرة تمسك المرأة بكلبها وكيف أنها تظل تتخيل وجوده وعودته بعد أن يرسلوه بعيدا لكي تتاح لهما فرصة الهرب).. والهرب لا يتم عن طريق المطار بالرشوة كما يفعل معظم الفاسدين بل عن الطريق البري الوعر الى المغرب. لكن علواش يبدأ فيلمه ولا يعرف كيف ينهيه فهو ينتهي إلى لا شيء!

خالد والابنة المتمردة

يغيب عن الفيلم رصد ملامح مجتمع الفساد ولو من بعيد، وتجاهل الصلة بين الأحداث السياسية وما يحدث للعائلة اكتفاء ببعض ما نسمعه عبر شريط الصوت، وتصوير أشياء مضحكة مثل كيف يغيظ الوزير زوجته فيخبرها بأنه ضاجع كل سكرتيرات الوزارة، وتكون النتيجة أن تصر هي وتظل تلح وتكرر على ضرورة أن يعطيها قائمة بأسمائهن (منتهى السذاجة والفراغ في تصوير الشخصية)!

وإذا كانت الشخصيات على هذا النحو من السطحية، فالأداء التمثيلي لكل من حميدة آيت بن حاج، وعبد الرحمن إيكاراواني، أداء كاريكاتوري مبالغ فيه بغرض الاضحاك لن لا أحد يضحك بل ينتظر المتفرج أن يعرف المزيج عن هؤلاء الأشخاص وعن المجتمع الذي يرغبون الآن في مغادرته، دون أن يتحقق أي إشباع من تلك الحبكة الضعيفة.

ويخرج المتفرج وهو يضرب كفا بكف، كيف لمخرج كبير راسخ مثل مرزاق علواش، أن ينتهي إلى فيلم ركيك، ضعيف، مشتت، مبالغ كثيرا حتى في طوله الزمني، فكل هذه القصة كان يمكن أن تروى في أقل من نصف ساعة، وربما كان الفيلم سيصبح أفصل وأكثر تأثيرا، لكن الفن اختيار بالطبع، وهذا هو ما اختاره مرزاق علواش!  

القاتل الذي يفشل في القتل
Visited 1 times, 1 visit(s) today