أوراق مهرجان القاهرة السينمائي: “بنات عبد الرحمن”
أخيرا جاء إلينا فيلم سينمائي احترافي مكتمل من الأردن، كوميديا اجتماعية، لا تأخذنا داخل متاهات التجريب والاستسهال الكاميرا التي تنقلب وتتشقلب وتدور وتجعل الأرض تدور بنا دون أن نفهم السبب. والمقصود هو فيلم “بنات عبد الرحمن” للمخرج زيد أبو حمدان، وهو عمل ليس مدفوعا بهوس التمرد على التقليدي قبل المرور بتجربة الفيلم التقليدي المحكم، حتى يصبح ممكنا التمرد عليه، والقفز من فوقه، وتكسير قواعده.
ما يجعل هذا الفيلم يجد صدى لدى المشاهدين، ليس فقط جرأته الكبيرة في معالجة موضوع كبير من خلال قصة معاصرة، تتناول العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة في مجتمع مغلق، يمتلئ بالقيود والأغلال التي تكبل المرأة، تريد أن تبقي عليها أسيرة في كهف الرجل. أما عناصر التميز التي جعلت الفيلم يلقى كل هذا النجاح والتجاوب الجماهيري الكبير معه في جميع عروضه التي شهدتها الدورة الـ 43 من مهرجان القاهرة السينمائي، فهي تتمثل في ثلاثة عناصر هي: السيناريو الجيد المكتوب بدقة ومهارة وتوازن، والإخراج الذي يهتم بالتفاصيل الصغيرة بقدر ما يتعامل بمهارة كبيرة، مع المواقف الكبيرة والمشاهد الرئيسية، والأداء التمثيلي البديع، الذي يرجع إلى ذلك الانسجام والكيمياء التي تولف بين الشخصيات الرئيسية في الفيلم، وخصوصا أن كل شخصية منحت مساحة جيدة للتعبير عن نفسها، عن طبيعتها وعن علاقتها بغيرها من الشخصيات، بل وعن موقفها في الحياة.
المدخل إلى الفيلم مكتوب ببراعة ومنفذ بدقة وبطريقة مثيرة: امرأة تعيش مع والدها المسن عبد الرحمن، ترعاه. لقد فضلت عدم الزواج وضحت بنفسها حتى ترعى والدها وتخدمه بعد وفاة زوجته من سنوات بعيدة. المرأة- الفتاة العانس التي تجاوزت الأربعين، تعمل في حياكة ملابس ساء الحي، تتسلل الى غرفتها، ترتدي فستان زفاف احدى زبائنها، تقف أمام المرآة تتطلع الى جسدها ووجهها وهي في ثوب العروس. فجأة يفتح باب الغرفة. على الباب يقف الأب. تشعر هي بالخزي والخجل وتأخذ في الاعتذار والتبرير، لكن الأب لا يبدو عليه سوى نظرات تفوح بالشفقة والحزن. ومنذ هذه اللحظة سيختفي الأب من الفيلم. ولن يعرف أحد الى ما قبل النهاية أين ذهب وماذا حدث له.
الفتاة- أو المرأة التي رأيناها هي “زينب”. ولكنها واحدة من أربع شقيقات فإذا كانت هي المحجبة فهناك “آمال” المنقبة، و”ختام” السافرة، و”سماح” المتبرجة. والأوصاف كلها ليست من عندي بالطبع، بل هي الأوصاف الشعبية الشائعة التي تطلق عل النساء، من قبل الرجال ومن قبل النساء!
اختفى الرجل- الأب- البطريرك، “عبد الرحمن”، فانهار العالم الذي ظل قائما لسنوات عند كل واحدة من النساء الأربع. وإذا كانت كل منهن قد اختارت طريقها في الحياة، وانفصلت عن باقي شقيقاتها، فجميعهن، يجتمعن على شيء واحد فقط هو: المعاناة بسبب الاستسلام، أو الخضوع للرجل. وما غياب الأب عن البيت سوى مقدمة لتلاشي القشرة السميكة المفتعلة الزائفة التي كانت كل واحدة من النساء الأربع، تحيط نفسها بها.
بعد ذلك يكشف لنا الفيلم في مواقف طريفة، التناقضات القائمة والحادة بين النساء الأربع، ولكنه يكشف أيضا، أن المشكلة التي تجمع بينهن هي الرجل.. سواء الزوج الثري الذي تزوجته “سماح” وتسعى بشتى الطرق لإرضائه واستعادة ولعه الجنسي بها، فتجري عمليات تجميل وتريد اجراء المزيد منها، تراقبه وتقتفي أثره لكونها تشك في أنه يخونها مع زوجة صديق للعائلة، أو زوج” آمال” العنيف الغليظ الفظ، الذي سنعرف فيما بعد أنه يضربها ويهينها باستمرار والآن يريد تزويج ابنتها المراهقة (وهي في الخامسة عشرة من عمرها) رغما عنها.
الأب رجل ينتمي إلى الماضي. صحيح أنه تقليدي. لكنه أيضا محب للثقافة والكتب. وهو لم يهجر مهنته الأصلية في بيع الكتب. لكن المكتبة التي توجد أسفل الدار، لم تعد تبيع. وأصبحت الزبونة الوحيدة التي تشتري الكتب هي ابنته المخلصة التابعة “زينب”. وزينب تفعل هذا لكي ترضي الأب في وحدته وحزنه. لكن زينب سيأتي عليها وقت وتنفجر معبرة عن احتجاجها على العائلة والحي والناس والعالم الذي ظلمها وتجاهلها ولم يلحظ قط، آلامها ومعاناتها.
نحن أمام ميلودراما مشبعة بالحس الكوميدي حينا، وبالحس التراجيدي حينا آخر. والمخرج يعرف كيف ينتقل بين الخط الكوميدي والخط المأساوي، بحنكة ومهارة، لا يدين ولا ينتقد، بل يبدو محبا لكل شخصياته على السواء، أما قضية الفيلم فهي تتركز في فكرة الخضوع، والإنكار، إنكار الذات، والاستكانة والقبول بما لا يمكن قبوله، إما تحت ضغط المفهوم السائد للدين والأخلاق والقيم العتيقة في حالة “آمال”، أو تحت ضغط الواقع والناس وكلام الناس وما يمكن أن ينتج من فضيحة (في حالة زينب)، أو تحت وهم إمكانية تحقيق الصعود الطبقي والتسلق فوق أكتاف الجميع عن طريق الخضوع لزوج ثري يهملها فتقيم علاقة مع غيره لكنها تظل تتلصص عليه وتشك في أنه يخونها مع غيرها الى أن تكتشف أنه مثلي.. وهذه هي حالة سماح التي تفشل في العثور على السعادة من خلال الإغراق في الملذات الحسية والرغبة المسعورة في مقاومة الزمن باجراء عمليات التجميل. أما “ختام” فهي تفضل الهروب من الواقع بأسره.
هل تمكنت أي منهن من حل مشكلتها مع المجتمع والناس والقيم العتيقة الراسخة؟ الفيلم يصور بروز التمرد على الحاضر كوسيلة لا غنى عنها لمقاومة القيود الاجتماعية التي صنعها الرجل، وأصبحت هي المقياس الوحيد المفروض علىكل من الرجل والمرأة. ولعل شخصية العم، أي شقيق الحاج عبد الرحمن، خير دليل، فهو يقاطع العائلة تماما منذ فرار ختام مع عشيقها خارج البلاد من دون زواج.
ليس المهم ما الذي حدث للأب، بل الأهم حسب السياق البارع الذي يسير فيه الفيلم، هو كيف يمكن أن تجمع “المحنة”- أي محنة غياب الأب- النساء الأربع، فهن يجتمعن في بيت العائلة القديم، وخصوصا بعد أن عادت “ختام” الصغرى، من الامارات حيث كانت تقيم مع حبيبها الذي هربت معه وارتبطت به من دون زواج، وتنفجر بينهن التناقضات التي كانت كامنة، إلى أن يعثرن على خيط مشترك يربط بينهن جميعا، بعد أن تفتح كل منهن عينيها على حقيقة المأزق الذي تعيشه.
لم يكن من الممكن بالطبع أن يأتي الفيلم على كل هذه الدرجة من الحيوية والجاذبية سوى بفضل الأداء الرفيع لمجموعة الممثلات: صبا مبارك في دور آمال، المتزمتة دينيا، التي ترتدي النقاب، ثم تصدمها رغبة زوجها القاضي الغليظ في تزويج ابنتها المراهقة الصغيرة.. ثم تكتشف تدريجيا أن الدنيا لا يجب أن نعيشها كما فرضها علينا الآخرون بل كما نحب نحن. وهناك أيضا الأداء الرفيع للممثلة فرح بسيسو في دور زينب، التي لا تكاد تتكلم في معظم مشاهد الفيلم سوى بضعة أسطر، ثم تنفجر في الثلث الأخير، في مونولوج طويل تتحدى به الجميع وتلقي بسخطها على أهل الحي، في سيطرة مدهشة على الأداء والانفعالات. صحيح أن هناك قدرا من المبالغة في الأداء. إلا أن الموقف نفسه يستولي على المشاعر. ولا شك أن أفضل من تقمصت دورها بكل براعة وجرأة وحيوية واتقان رغم بعض المغالاة، هي حنان حلو في دور “سماح” بكل نفورها وتأففها من كل شيء، وتعاليها على شقيقاتها، وميلها الواضح إلى تدمير الذات، ثم تحولها عندما يقتضي الأمر، إلى امرأة تشعر بغيرها، وتتضامن مع شقيقاتها.
ربما تكون الحلقة الأضعف في هي الممثلة مريم باشا في دور ختام، ولعل السبب يعود الى عدم مناسبتها للدور، فهي تبدو شخصية هادئة، يوحي شكلها الخارجي بقدر من اللامبالاة ولكن من دون أي نزوع للتمرد والثورة، فهي لا تصلح أن تكوم الفتاة العصرية المتمردة التي تهجر أهلها من أجل حبيبها، خصوصا وأن الفروق بين الشخصيات النسائية الأربع تتحدد أيضا من ناحية الشكل، والملابس، والماكياج..
هناك كثير من المشاهد المتقنة البديعة في الفيلم مثل مشهد الارتباك الذي يحدث في الشارع بسبب العصبية الشديدة وتوتر شخصية سماح النافرة من كل شيء، وهو نفور يعكس أيضا انتماءها الطبقي وتعاليها على غيرها.. ومشهد المواجهة التي تحدث ليلا خارج البيت بين النسوة الأربع وأهل الحارة.. ومشهد استسلام آمال للتدخين مع سماح بعد أن كتنت تبدي ضيقا شديدا منه، وغير ذلك.
“بنات عبد الرحمن” فيلم تقليدي يطمح إلى تقديم موضوعه من خلال أكثر الأشكال بساطة وجاذبية، ولا شك أنه نجح في ذلك.