أوراق سان سباستيان (4): النازي والطبيب النفسي واليهود

من الأفلام المنتظرة في مهرجان سان سباستيان، أو التي كنت شخصيا أتطلع لمشاهدتها، الفيلم الأمريكي الجديد للمخرج جيمس فاندربيلت: “نورمبرج” Nuremberg الذي كتب له مخرجه السيناريو عن كتاب “النازي والطبيب النفسي” للكاتب الأمريكي جاك إلحاي Jack El Hai الذي لا نعرف ما إذا كان يهوديا أم من بلد عربي، والأرجح أنه ينتمي لأسرة يهودية مهاجرة. لكن ليس هذا مهما سوى في سياق أن الكتاب- والفيلم، لا يرى من النازية سوى ما وقع لليهودـ ولليهود وحدهم، تماما مثلما كانت معظم الأفلام الأمريكية التي ظهرت عن الحرب العالمية الثانية.

الفيلم يتوقف الجرائم ضد الإنسانية- التي نسبت لعدد من القيادين كبار القيادات في نظام هتلر، كما تبدت في المحاكمات التي جرت ما بعد الحرب (1945- 1946) في مدينة نورمبرج الألمانية، وعلى رأسهم بالطبع، هيرمان جورينج، ماريشال الرايخ ونائب هتلر حتى ما قبل السقوط، وقائد سلاح الطيران الألماني خلال الحرب، ومسؤولية الجميع عما عرف باسم “الهولوكوست”.

ظهرت أفلام كثيرة من قبل، روائية وتسجيلية عن موضوع المحاكمات التي اختيرت لها مدينة نورمبرج لأهميتها الرمزية، كونها كانت المدينة التي شهدت الاحتفالات الكبرى والعرض العسكري الكبير عام 1934 الذي سجلته في عمل فني رفيع هو فيلم “انتصار الإرادة”- المخرجة الألمانية الشهيرة ليني ريفنشتال. وخلال هذا الاحتفال أعُلن ما عرف بالقوانين العنصرية التي نزعت الجنسية الألمانية عن اليهود وغيرهم من الأجناس الأخرى، التي اعتبرت أدنى، وحظر قيام أي علاقات جنسية بين اليهود والألمان.  

هذه المعلومات وغيرها، يتم سردها في فيلم “نورمبرج” الجديد بطريقة تعليمية مدرسية، بل إن المشكلة الرئيسية في هذا الفيلم الذي يتمحور بشكل خاص حول شخصية هيرمان غورينج، هي أن الحوار الذي يدور بين شخصياته الرئيسية (القاضي جاكسون، والطبيب النفسي الأمريكي كيلي، وجورينج)، يبدو كما لو كان منقولا بشكل حرفي من الكتب التي تتناول موضوع النازية والهولوكوست من وجهة النظر الأمريكية والغربية السائدة، من دون أي محاولة للاجتهاد لتحقيق نوع من التوازن الدرامي داخل الفيلم نفسه، بدلا من أن يبدو مرة أخرى، كقطعة من الدعاية الأمريكية الفجة.

ولاشك أن مشكلة هذا النوع من الأفلام التي تتناول شخصيات تاريخية بارزة ومعروفة، هي أن الاجتهادات الدرامية تصبح مدعاة للتشكيك إذا هي خالفت الحقائق التاريخية الثابتة، وهو أيضا من ضمن ما يقع فيه هذا الفيلم.

يقوم مايكل شانون بدور القاضي روبرت جاكسون الذي كلف بالقيام بدور المدعي العام الذي يقدم أدلة الاتهام ضد 22 من الشخصيات العليا في القيادة النازية. ولكن مساعدته تقول له إن الولايات المتحدة لا تملك حق محاكمة النازيين، فهذا أمر لا سابقة له، كما أن ألمانيا لم تهاجم قط الولايات المتحدة حتى يحق للأخيرة محاسبة قادتها، والأهم أنه لا يوجد أصلا قانون دولي يمكن محاكمة النازيين بموجبه إلا لو كانت المحاكمة ألمانية، وهو مستحيل طبعا بعد تذويب النظام القضائي في ألمانيا، ولكن جاكسون يتوصل إلى حل، هو تشكيل محاكمة “دولية” يقودها قضاة من الدول الأربع التي انتصرت على ألمانيا في الحرب: أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا.

إننا نرى في البداية كيف يستسلم جورينج للقوات الأمريكية لكن الفيلم لا يذكر لنا السبب، فقد كان يعتقد أنه يمكن أن يتفاوض مع الأمريكيين على تولي السلطة بعد هتلر وإقامة سلام مع المعسكر الغربي، لكنه يُعتقل ويُسجن مع باقي القيادات وعلى رأسها رودولف هيس الذي يقدم في الفيلم كشخصية هامشية كاريكاتورية غير مقنعة بل ويتم دمغه بالكذب أي ادعاء فقدان الذاكرة، مع الإشارة (بالصور) الى قصة ذهابه بطائرة قادها بنفسه، من ألمانيا الى اسكتلندا، وكان هدفه التوصل إلى معاهدة تحالف مع بريطانيا.

الشخصية الرئيسية إذن هي شخصية القاضي جاكسون الذي بدا وكأن فكرة دخول التاريخ تغويه أكثر من فكرة تحقيق العدالة. والشخصية الثانية هي شخصية دوجلاس كيلي الطبيب النفسي الذي كان مطلوبا منه إجراء مقابلات مع المعتقلين لمعرفة مدى صلاحيتهم للمحاكمة، ولكن الهدف الخفي كان الاطلاع على ما يفكرون فيه وكيف يرون أنفسهم والأدوار التي قاموا بها، وبعد فترة وجيزة تصبح العلاقة الشخصية التي تنشأ بين جورينج وكيلي هي محور الفيلم.  

كلا الرجلين يؤمنان بالذكاء، وبالقدرة على التلاعب بالآخر، ويبدو جورينج مهتما بشكل خاص بالخدع التي يمارسها كيلي، والتي تصل إلى حد ممارسة نوع من الألعاب التي توهم من يشاهدها أنها ألعاب سحرية. ويضع الفيلم بشكل فج على لسان جورينج الذي يقوم بدوره من دون أي إقناع “راسل كراو”، نبوءة تشير إلى أنه سيتمكن من الفرار من الإعدام، قبل وقت طويل من المحاكمات ومن معرفة ما ستسفر عنه.

ويتم تصوير إنسانية كيلي من خلال مشاهد تردده على منزل زوجة جورينج وابنته ونقل الرسائل بين جورينج وزوجته بل واللعب كع ابنته وتسليتها بألعابه السحرية!

جورينج في الحقيقة تخلص تماما خلال فترة سجنه من إدمان المورفين، كما نقص أكثر من 36 كليوجراما من وزنه، ومع ذلك يصر صناع الفيلم على جعله يحتقط بجسده الضخم حتى النهاية، لمجرد أن الفكرة تروق للمخرج الذي يرى أنها تصبغ نوعا من الهيبة والشكل المخيف على جورينج خصوصا عندما يصوره من زوايا منخفضة.

 ورغم أن المعروف تاريخيا أن جورينج أدلى بيانا طويلا  لم يتضمن أي اعتذار عن انتمائه للاشتراكية الوطنية (النازية) ويصر على أنه كان يخدم وطنه، يصور لنا الفيلم  عدم السماح لجورينج بإلقاء بيان بل فقط بالإجابة عن أسئلة جاكسون في ختام المحاكمة، في مشهد يكاد يكون مباراة في التنس فيما بينهما، بحيث ينتصر منطق جاكسون في النهاية بعد ان ينقذه القاضي البريطاني الذي يجعل جورينج عاجزا عن الإجابة بل ويصمت بما يوحي إقرارا منه باشتراكه في جريمة الهولوكوست تحديدا أو إبادة اليهود في معسكرات الاعتقال النازية التي يتوقف الفيلم أمامها طويلا في الجزء الأخير من المحاكمة. هنا يلجأ المخرج إلى استخدام بعض الوثائق المصورة التسجيلية التي سبق أن شاهدناها مرارا في السينما التسجيلية، معسكرات الاعتقال ما بعد التحرير، أكوام من الجثث، الجرافات تجرفها، ومشاهد للسجناء وكيف أصبحوا على درجة كبيرة من الهزال، وأكوام جثث قرب المحارق.. ومرة آخرى يتم التأكيد على وجود غرف الغاز في معسكر بيلزك بيرجن، ومعسكر داخاو وهو ما كذبته الوثائق التاريخية الألمانية نفسها، ولا ترد في الفيلم أي صورة من معسكر أوشفتز لأن السوفيت لم ينشروا أي صور لتحرير المعسكر أصلا، حتى يومنا هذا!

الفيلم يحاول تصوير العلاقة بين جورينج والطبيب النفسي الأمريكي دوجلاس كيلي (الذي يقوم بدوره رامي مالك) كعلاقة بين ندين، أوربما أيضا وجهين لعملة واحدة، فكلاهما يسعى للشهرة ودخول التاريخ، الأول يستخدم ذكاءه لتطويع الطبيب واكتساب ثقته، والثاني يستخدم تلك الصداقة في نشر كتاب يتضمن مذكراته وحواراته مع جورينج، يأمل أن يحقق له الشهرة والمال.

ورغم ذلك يتيح الفيلم المجال أمام الطبيب الأمريكي في النهاية لكي يلقي علينا خطبة طويلة تحذر من إعادة ظهور أمثال جورينج والظاهرة النازية، بل ويؤكد أن أمثال النازيين الذين ينشرون الكراهية موجودون في الولايات المتحدة ويجب أخذ الحذر منهم ومنعهم من الوصل لمراكز القرار.. إلى آخر مثل هذه التعبيرات التي تستدر تعاطف الجمهور الذي يصفق لأنه يدرك ما بلغته السياسة الأمريكية في عهد دونالد ترامب، ولكن ليبرالية صناع الفيلم لا تتجاوز الإشارة إلى الذين ينشرون العنصرية والكراهية مع تداخل أي ذكر للإبادة الجماعية (لأنها تشير إلى ما يحدث اليوم غزة أمام مرأى من العالم)، فالفيلم بهذا الشكل، يصبح محاولة جديدة لتبييض وجه إسرائيل- على نحو غير مباشر- بالتركيز على الأساس الذي قامت عليه أي الهولوكوست، وبعد أكثر من ثمانين عاما من نهاية الحرب العالمية الثانية يجب أن يتوقف العالم باستمرار أمام ذلك الحدث الذي يقال لنا عن لا شيئا آخر يمكن أن يقارن به.

شخصيا لم اقتنع بأداء راسل كرو في دور كورينج، رغم أنه حاول أن يجمع بين الذكاء والسخرية والمرح والخبث، بالإضافة بالطبع إلى النرجسية التي كان جورينج معروفا بها، فالطريقة التي استخدمها في نطق عبارات الحوار جعلت من الصعب متابعة ما ينطق به، علاوة على أنها لا تشبه النطق الألماني للغة الإنجليزية.

أما رامي مالك، فهو يبدو أصغر كثيرا من الدور الذي قام به، رغم اجتهاده في محاولة الموازنة بين الطموح الشخصي (الشرير) والولاء للمهنة الذي يجعله يعترض على ما يطلب منه من قبل جاكسون، أي ضرورة التجسس على ما يفكر فيه ونقل ما يقوله له جورينج، وهو ما يرضخ له في نهاية الأمر.

لا أظن أن “نورمبرج” يقدم شيئا أبعد مما سبق أن عرفه الجمهور وحفظه عن ظهر قلب، من خلال الكثير من الأفلام التسجيلية، بل إن تلك الأفلام ربما تكون أكثر شمولية من فيلمنا هذا الذي يتجاهل إلى حد كبير، باقي الشخصيات النازية من المعتقلين ويكتفي بتقديمهم في صورة كاريكاتورية، ويهمل تماما حتى مجرد الإشارة الى اثنين من أهم تلك الشخصيات وهما أدولف يودل (رئيس العمليات) وفيلهلم كايتل (قائد الجيش). ربما لأن كلاهما كانا يقومان بعملهما الاحترافي العسكري ولم يكن أي منهما عضوا في الحزب النازي أصلا!

وتدور افتراضات عديدة حول الطريقة التي تمكن بها جورينج من الحصول على كبسولة السيانيد السامة التي استخدمها في الانتحار قبيل تنفيذ حكم الإعدام شنقا الأمر الذي اعتبر ضربة كبرى للأمريكيين بعد أنحرمهم من تصوير الرجل الثاني في الرايخ وهو يترنح تحت حبل المشنقة. وقيل إن ضابطا أمريكيا شابا هو الذي جاءه به من صندوق محتوياته الشخصية الذي وضع في مخزن داخل المبنى، وكانت الكبسولة دخل علبة مرهم جلدي. إلا أن الفيلم يصور الأمر على أنه عمل من أعمال السحر التي تضاهي ما كان يقوم به الطبيب النفسي الأمريكي أمامه. وبالتالي فالفيلم كله يمكن اعتباره عملا استعراضيا للتباهي والمبارزة بين العقول.