أن تكون ناقداً سينمائياً: عين علي الناقد و”عين على السينما”
ننشر هنا هذه الشهادة الشاملة، على تجربة الكاتب د. ماهر عبد المحسن، ليس فقط على تجربته مع موقعنا “عين على السينما” بمناسبة مرور أكثر من 10 سنوات على صدوره، بل وعلى تجربة الكاتب في مجال النقد السينمائي بشكل عام، وهي شهادة دقيقة ومهمة، ننشرها في قسم “ذكريات وشهادات”….
بالرغم من أن رسالتي في الدكتوراه كانت حول جماليات الصورة في الفنون المرئية، وتضمنت فصلاً كاملاً حول فن السينما، وبالرغم من اهتماماتي الشخصية الباكرة بمشاهدة الأفلام والقراءة المنتظمة عن الأفلام والنجوم ومهرجانات السينما في الكتب والصحف والمجلات، بالإضافة إلى اللقاءات التليفزيونية التي كنت أحرص على متابعتها، والتي كانت تدور حول النقد وتحليل الأفلام، بالرغم من ذلك فإن ممارستي النقدية جاءت متأخرة جداً عندما نشرت أول مقال لي حول فيلم “حرب كرموز” في مجلة “عين على السينما” عام 2018. فكيف تحقق ذلك؟
لكي أجيب عن هذا التساؤل ينبغي أن أتحدث عن تجربتي النقدية التي، بالرغم من قصرها، تكشف عن علاقتي الثرية بمجلة “عين على السينما”، ومكانها المهم من هذه التجربة، خاصة أنها ترتبط بالشق الإبداعي الذي جاء تتويجاً لشق التكوين.
عين على الناقد (مرحلة التكوين):
تشكّل وعيّ النقدي من خلال الثقافة السينمائية التي حصّلتها من روافد ثلاثة: التليفزيون، السينما، الصحف، الكتب، الدراسة الأكاديمية.
التليفزيون
بالنسبة للتليفزيون، فقد كان الوسيلة المناسبة في سني الصغيرة خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات منالقرن الماضي، حيثلم يكن متاحاً لي الذهاب إلى السينما كثيراً، كما كان للتليفزيون أهمية ترفيهية وتثقيفية كبيرة، خاصة أنه كان المصدر المهيمن للثقافة المرئية بالرغم من قلة القنوات والمواد المعروضة فيها، حتى أن برنامجي “أوسكار” الذي كانت تقدمه سناء منصور و”نادي السينما” الذي كانت تقدمه درية شرف الدين كانا يتنافسان على إذاعة الأفلام ذات الأهمية الخاصة التي كان ينجح التليفزيون في شراء حق عرضها، كما حدث في الفيلمين الشهرين “ذهب مع الريح” و”الأب الروحي”.
وكانت أهمية برنامج “أوسكار” بالنسبة لي تكمن في تعريف المشاهد بالأفلام التي حصلت على جوائز، وأذكر أني قد سمعت لأول مرة عن تعبير “المؤثرات الخاصة” حين عرض أفلام ستيفن سبيلبرج “لقاءات قريبة من النوع الثالث” و”الفك المفترس” و E. T وكذا أفلام الخيال العلمي “آلة الزمن” عن رواية ويلز و” حول العالم في مائتي يوم” و “عشرون ألف فرسخ تحت الماء” عن روايتين لجول فيرن. كما ترك فيلم “إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك؟” لسيدني بولاك أثراً إنسانياً عميقاً في نفسي، بالرغم من حداثة سني، وكنت أربط دائماً بينه وبين مسلسل “الرجل والحصان” الذي قام ببطولته محمود مرسي عام ١٩٨٢، بالرغم من الاختلاف الجذري بين القصتين وبُعد المسافة الزمنية بين العملين.
وكانت أهمية “نادي السينما” تأتي من ذلك اللقاء الحواري الذي كان يعقب الفيلم مع أحد الضيوف من العاملين بالحقل السينمائي، كتّاباً ونقاداً ومخرجين. وأذكر ذلك اللقاء الهام بالمخرج الكبير “صلاح أبو سيف” بصدد عرض البرنامج لفيلم “الحبل” الذي أخرجه ألفريد هيتشكوك، وفيه تعرفت على معنى اللقطة الطويلة، وكيف أن هيتشكوك في هذا الفيلم أقدم على تجربة سينمائية تمثل تحدياً فريداً عندما قرر تصوير الفيلم بالكامل بلقطة واحدة طويلة، أي بدون تدخل المونتاج، وأن الصعوبة التي واجهته تمثلت في أن بكرة الفيلم، فى ذلك الوقت، كانت لا تتجاوز مدتها العشر دقائق، وبالرغم من ذلك نجح هيتشكوك في التغلب على هذه الصعوبة عن طريق تمرير الكاميرا من خلف الممثلين أو الجدران أو حتى أشياء الشقة التي كانت تدور فيها أحداث الفيلم مثل غطاء البيانو، بحيث ينتهز فرصة إظلام الشاشة ثم يقوم بتبديل بكرة الفيلم دون أن يشعر المشاهد بذلك.
وأذكر أيضاً لقاء الكاتب الكبير يوسف إدريس، بمناسبة عرض فيلم “٤٥١ فهرنهايت” للمخرج فرانسوا تروفو، الذي حذر فيه من خطورة القضاء على الأدب بحجة أننا في عصر العلم، لأن في ذلك قتل للخيال أهم ما يميز الإنسان، ولم أفهم المعني العميق لتحذير يوسف إدريس إلا بعد سنوات عديدة تالية!
وبفضل هذين البرنامجين تعرفت على نجوم السينما العالمية من أصحاب الشهرة الكبيرة، خاصة هؤلاء الذين جمعتهم البطولة في الفيلمين الشهيرين “العظماء السبعة” و”الهروب الكبير” مثل يول براينر، ستيف ماكوين، تشارلز برنسون و “مدافع نافارون” الذي جمع بين أنتوني كوين وجريجوري بيك وديفيد نيفين وإيرين باباس. كما تعرفت على أبرز نجوم السينما الفرنسية آلان ديلون وجان بول بلموندو. ولأول فهمت معنى “الأداء التمثيلي” عندما شاهدت مارلون براندو في “على الواجهة البحرية” و “الأب الروحي” وشاهدت داستين هوفمان في “كرامر ضد كرامر” وتوم هانكس في “فورست جامب” وأنتوني هوبكنز في “صمت الحملان”، وأذكر أني كنت أخلط بين أنتوني هوبكنز وأنتوني بيركنز بطل فيلم هيتشكوك الشهير “نفوس معقدة”، حيث كنت أظنهما نفس الممثل لكن في مراحل عمرية مختلفة!
وقد لعب التليفزيون عموماً، خارج هذين البرنامجين، دوراً مؤثراً في تعرفي على الاتجاهات السينمائية المصرية فبدأت اهتم بمعرفة أسماء المخرجين بنفس اهتمامي بمعرفة أسماء الممثلين وربما أكثر، ومن خلال ذلك استطعت في مرحلة مبكرة أن أميز بين لون سينمائي وآخر، وأن أتعرف على السمات الأسلوبية المميزة لكل مخرج على حدة، وكانت وسيلتي لذلك أن أربط اسم كل مخرج بلون سينمائي معين، فمثلاً صلاح أبو سيف هو مخرج الواقعية وكمال الشيخ مخرج الأفلام البوليسية والسياسية وفطين عبد الوهاب مخرج الأفلام الكوميدية ونيازي مصطفى مخرج أفلام الحركة. غير أن هذا التصنيف المبسط لم يكن شاملاً لكل المخرجين، فهناك قائمة طويلة كانت عصية على التصنيف، لأنها برعت في تقديم أكثر من لون سينمائي مثل عاطف سالم الذي قدم الكوميديا في “أم العروسة” و”الحفيد”، وقدم الأكشن في فيلم “جعلوني مجرماً” وقدم اللون الغنائي في فيلم “يوم من عمري”. و الشيء نفسه يمكن أن يُقال عن يوسف شاهين الذي أخرج “أنت حبيبي” و “باب الحديد” و “الناصر صلاح الدين”، وهنري بركات الذي ارتبط اسمه بروائع الأدب العربي فأخرج “في بيتنا رجل” لإحسان عبد القدوس و”الحرام” ليوسف إدريس” و”دعاء الكروان” لطه حسين.
وفي السياق نفسه، لفت نظري بعض المخرجين الذين لم يقدموا أعمالاً كثيرة، لكن اشتهرت أفلامهم ولم يتذكر الجمهور أسماءهم مثل طلبة رضوان مخرج فيلم” السفيرة عزيزة” وأنور الشناوي مخرج فيلم “السراب”، غير أن المخرج الذي توقفت عنده كثيراً وكنت مولعاً بمشاهدة أفلامه كان عز الدين ذو الفقار، الذي لُقّب ب”شاعر السينما المصرية” للطابع الرومانسي الذي كان يغلف أعماله على تنوعها مثل “شارع الحب” و “نهر الحب” و “رد قلبي” و” امرأة في الطريق” و” الشموع السوداء “. وإذا كانت هذه الأفلام تعكس اهتمام مخرجها بالصورة، فإن فيلمه البوليسي المميز “الرجل الثاني” كان يجسد حضوراً خاصاً للموسيقى التصويرية التي أبدعها أندريه رايدر بحيث صارت البطل الحقيقي للفيلم. ومن خلال موسيقى رايدر بدأت اهتم بموسيقى الأفلام وأحفظ أسماء مؤلفيها مثل على إسماعيل وفؤاد الظاهري وراجح داود من الأجيال القديمة، وياسر عبد الرحمن وهشام نزيه وخالد الكمار من الجيل الحالي.
ومن خلال فيلم “زوجتي والكلب” الذي أخرجه سعيد مرزوق، عرفت معنى الإضاءة في السينما وسمعت لأول مرة تعبير “الرسم بالنور” الذي أطلقه بعض النقاد لوصف أعمال مدير التصوير عبد العزيز فهمي، وبدأت أحرص على معرفة أسماء مديري التصوير مثل وحيد فريد وعبد الحليم نصر ورمسيس مرزوق وطارق التلمساني وسعيد شيمي.
وكان أمراً منطقياً أن أسعى للتعرف على كتّاب السيناريو والحوار في الأفلام، لأن السيناريو، كما فهمت وقتها، هو الذي يصمم اللغة البصرية للقصة، سواء أكانت عملاً أدبياً أو قصة مكتوبة خصيصاً للسينما، فتعرفت على بعض الأسماء ذات التاريخ مثل السيد بدير وعبد الحي أديب ويوسف جوهر، ثم علي وحيد حامد ومصطفى محرم وناصر عبد الرحمن وأحمد عبد الله فيما بعد. وعرفت أن الممثل يمكن أن يكتب القصة مثل فريد شوقي، وأن المخرج يمكن أن يكتب السيناريو مثل صلاح أبو سيف، وأن هناك ما يُعرف بسينما المؤلف التي تمثلت، عربياً، في يوسف شاهين، ثم في داوود عبد السيد ومحمد أمين بعد ذلك.
وكنت قد سمعت عن المونتاج كثيراً، قبل أن أقرأ عن مخترعه إيزنشتاين، وحاولت أن أفهم ماذا تعني مرحلة المونتاج، خاصة أن السينمائيين يعتبرونها المرحلة الأكثر أهمية في صناعة الفيلم، وتخيلت أن عملية القطع والتوليف أشبه بلعبة البازل، ولاحظت أن أكثر أسماء المونتيرين التي كنت أراها على تترات الأفلام هما سعيد الشيخ ورشيدة عبد السلام، دون تفسير واضح لذيوع هذين الاسمين حتى قرأت عنهما، وعلمت بريادة الأول والأصابع الحريرية للأخيرة!
وكان أمراً شيقاً بالنسبة لي أن أتعرف على أسرار العمل في أماكن التصوير أو وراء الكواليس، بالتعبير الشائع، كأن أعرف، مثلاً، أن مشهد الصفعة التي تلقاها عبد الحليم حافظ من عماد حمدي في فيلم “الخطايا” تم إعادته ما يقرب من العشر مرات حتى يصل المخر ) حسن الإمام) وعبد الحليم إلى قناعة تامة بالأداء، أو أن أحد المشاهد في فيلم “الرغبة” الذي كان بين نادية الجندي وإلهام شاهين احتوي على لقطتين تفصل بينهما ستة شهور. لكن كانت الأسرار الفنية الأكثر إثارة بالنسبة لي هي تلك المتعلقة بفكرة الاستعانة بدوبلير (بديل) يقوم بدور البطل في المشاهد الخطرة، وفى هذا السياق، وحتى الآن، يفاخر بعض الفنانين الذين احتوت أفلامهم على مشاهد خطرة بأنهم أدوها بأنفسهم، ودون الاستعانة بدوبلير، حتى ظهر جيل كامل من الفنانين يخلط بين الأداء التمثيلي والأداء الحركي الخالص، بحيث يهتم أكثر بلياقته البدنية وممارسته لبعض الرياضات العنيفة على اعتبار أن البطولة الفنية هي نوع من البطولة الحقيقية كما نرى في نجوم هذه الأيام، المتربعين على عرش النجومية، من أمثال أحمد السقا وأحمد عز وأمير كرارة ومحمد رمضان، حتى أن الأمر طال بعض المطربين الذين اعتدنا منهم الأدوار الكوميدية والرومانسية مثل تامر حسني!
ولم تعد أسرار الكواليس وقفاً على النجوم الذين يفشونها في لقاءاتهم الإعلامية، وإنما ظهر في السنوات الأخيرة ما يُعرف ب “الميكنج” Making الذي يقوم به مخرج آخر لتصوير عملية التصوير ذاتها، وهي مسألة مهمة من الناحية التوثيقية، لكنها، فى كثير من الأحيان، تفقد العمل سحره الخاص الذي يستمده من إخفاء أسرار اللعبة بنحو ما يفعل الساحر على المسرح.
السينما
علاقتي بالسينما بدأت متأخرة عن التليفزيون، لكنها جاءت متزامنة معه من خلال ولعي بأفيشات الأفلام. ففي تلك السن الصغيرة لم أكن أعرف شيئاً عن فن الدعاية، والدور التشويقي والتسويقي الذي تلعبه أفيشات الأفلام، لذا كانت علاقتي بها بريئة جداً، تخلو من النقد، وتعتمد كثيراً على الإيهام الذي تحدثه هذه الأفيشات في نفسي. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن المقاطع الدعائية التي كان يذيعها التليفزيون، ضمن الإعلانات، بين فقراته الأساسية من برامج ومسلسلات ونشرات إخبارية. وقد لعب الخيال الطفولي دوراً مؤثراً في التعاطي مع هذه الوسائل الدعائية للأفلام خاصة أنها كانت تعمد إلى عرض المشاهد ذات الإثارة من خلال توليفة متقنة تهدف إلى جذب الجمهور لمشاهدة الفيلم.
ونظراً إلى حداثة سني وصعوبة الذهاب إلى السينما، فكنت أتعامل مع الأفيشات والمقاطع الدعائية وكأنها أعمال مستقلة بذاتها، أي أني كنت أجد متعة خاصة في التوقف أمام الأفيشات في الشوارع والتطلع إلى تفاصيلها مطلقاً العنان لخيالي في محاولة ساذجة لخلق قصة وأحداث من تأليفي الخاص. وأذكر أن الأفيشات التي كنت أحرص على مشاهدتها بانتظام هي تلك التي كانت تُعرض في ميدان التحرير، وكنت أراها عن قرب من فوق الكوبري الدائري أثناء عبوري مع والدي لزيارة جدي في دار السلام، وتلك التي كانت توجد علي جدران سينما ريو الصيفية بباب اللوق أمام محطة مترو حلوان، وكذا تلك التي كانت تُعرض في نهاية جدران نفق المنيرة كنوع من الدعاية للأفلام التي كانت تُعرض في سينما الكيت كات بإمبابة أثناء مروري لتحصيل دروس اللغة الإنجليزية في الصف الأول الإعدادي. وكانت الأفيشات ترتبط، فى الغالب، بأفلام الكاراتيه الصينية التي كانت ذائعة في ذلك الوقت، وبأفلام عادل إمام الكوميدية، وكذا أفلام ناهد شريف وسهير رمزي الساخنة، وأذكر منها ” الأكتع ملك السيف” و” عيب يا لولو.. يا لولو عيب”. وبالرغم من أن هذه الأفلام لم تكن تحمل فكراً أو مضموناً قيمياً معيناً، إلا أن أفيشاتها الدعائية لم تكن تخلو من ذلك السحر الخاص الذي ينعش المخيلة ويحرك المشاعر الطفولية البريئة. وأعتقد أن هذا السحر هو الذي جعل عبارة من قبيل “طفل عمره عشر سنوات يكسر ويدمر” تتردد في ذاكرتي لسنوات طوال منذ قرأتها على أفيش فيلم “الطفل الخارق”!
وفي سياق الإعلانات الدعائية أذكر أني كنت انتظر وقت الإعلانات لمشاهدة مقاطع معينة لبعض الأفلام التي كان يقوم ببطولتها عادل إمام ونور الشريف وفريد شوقي مثل” الجحيم” و” الباطنية” و” الشيطان يعظ”، حتى المقاطع الدعائية هذه كانت تتمايز فيما بينها حتى أني كنت أشعر بالتشويق والترقب كلما قرأت عبارة “أفلام جرجس فوزي تقدم” أو “أفلام جمال التابعي تقدم”. غير أن المتعة الحقيقية كنت استشعرها عندما أشاهد الإعلانات الخاصة بالأفلام الهندية، لأنها كانت تحتوي على أغان واستعراضات ومشاهد أكشن، ولم يكن التليفزيون المصري قد بدأ في إذاعة هذه الأفلام بانتظام في الأعياد، كما حدث فيما بعد، والطريف أني تعرفت على نجوم السينما الهندية مثل أميتاب بتشان و دارمندرا وميتون شكربورتي من خلال إعلانات أفلامهم قبل أن أشاهد الأفلام نفسها، كما كنت انتظر برنامج “تاكسي السهرة” لمشاهدة النصف ساعة التي كان يذيعها من هذه الأفلام، ولشد ما كانت سعادتي حين شاهدت فيلم راج كابور “ميرانام جوكر” الذي عرضه نادي السينما على جزئين، وعرفت ريادته للسينما الهندية، كما تعرفت على راجندر كومار، وكلاسيكيات السينما الهندية التي سبق وأن عُرضت في مصر مثل “سوراج” و”سنجام” و “من أجل أبنائي”، ولم أكن قد تعرفت علي أفلام المخرج الكبير ساتياجيت راي ، و رؤاه الإخراجية ذات البعد الإنساني العميق. وأذكر أن انتشار السينما الهندية في مصر في التسعينيات من القرن الماضي كان قد أثار حفيظة النقاد خاصة بعد زيارة أميتاب بتشان لمصر كضيف في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي كان يرأسه في ذلك الوقت سعد الدين وهبة والضجة التي صاحبت زيارته، حتى أن الناقد أحمد صالح كتب مقالاً في جريدة الأخبار بعنوان “التليفزيون في وادي ووزارة الثقافة في وادى وأميتاب باتشان يكسب”.
وقد ظلت هذه الإشكالية مطروحة إلى يومنا هذا وإن بدرجة أخف، عن قيمة الأفلام الهندية فنياً ونقدياً خاصة أنها تحظي بجماهيرية عريضة في الوطن العربي وتحمل من عناصر النجاح التجاري ما يجعلها مصدراً فنياً جاذباً للجماهير. ولأني كنت عاشقاً لهذه الأفلام، فكنت أحاول أن أجد المبرر للدفاع عنها بإضفاء شيء من القيمة علي أحداثها واضحة السذاجة والسطحية كأن أقول أنها تحمل قيماً إنسانية عظيمة من قبيل الحب والصداقة والإخلاص والتضحية وأن الخير دائما ينتصر في النهاية. غير أني سمعت أحد النقاد، في برنامج تاكسي السهرة، يميز بين مدرستين للسينما: مدرسة بومباي وهي الأكثر شعبية، والتي نتعلق بأفلامها ونحفظ أسماء نجومها، ومدرسة مدراس، التي تقدم سينما راقية فنياً وفكرياً. وأذكر أني اشتركت في مركز “أبو الكلام آزاد” (المركز الثقافي الهندي) في التسعينيات لمشاهدة الأفلام الهندية بمدارسها المتنوعة، لكني لاحظت أن الجمهور كان يطالب دائماً بعرض الأفلام الشعبية التي يغلب عليها طابع التسلية.
وكان دخولي للسينما مرتبطاً أيضاً بالسينمات الشعبية التي كانت تعرض ثلاثة أفلام في بروجرام واحد، وكان أول فيلم شاهدته “أبي فوق الشجرة” في سينما “على بابا” ببولاق أبي العلا، وهي سينما اشتهرت بعرض الأفلام العربية والتركية التي كانت تعتمد على نجمات الإغراء مثل ناهد شريف وسهير رمزي وشمس البارودي، وهي نوعية لم ترق لي، لأني كنت أفضل أفلام الحركة، فاعتدت على دخول سينما “فؤاد” في الجهة المقابلة من نفس الشارع، خاصة في الأعياد، و شاهدت عدداً كبيراً من أفلام الكاراتيه، وسلاسل أفلام “جيمس بوند” التي قام ببطولتها روجر مور، و”سوبرمان” من بطولة كريستوفر ريف.
وفي سينما “حديقة النصر” الصيفية واصلت مشاهدة سلسلة “جيمس بوند” وأضفت إليها أفلام شاك نوريس، و الثنائي بد سبنر وتيرانس هيل، ولم يكن لدي الرغبة، فى هذه المرحلة، أن أشاهد أفلاماً ذات قيمة فنية أو فكرية كتلك التي كنت أشاهدها في التليفزيون، لأني دخلت السينما من باب التشويق والإثارة، وكان عناء ارتيادها يستوجب متعة مقابلة، وهي في عرف الشباب متعة حسية أكثر منها عقلية، وبهذا المعنى انتقلت إلى سينمات شارعي عماد الدين وطلعت حرب للتحول إلى مشاهدة الأفلام العربية في عروضها الأولى بغية البحث عن التشويق والإثارة أيضاً. ثم نشأت لدي هواية جديدة هي اكتشاف السينمات، بمعنى أني كنت أحرص على ارتياد كل دار عرض لم يسبق لي ارتيادها من قبل، خاصة في غير شارعي عماد الدين وطلعت حرب، مثل ريفولي في شارع ٢٦ يوليو، وأوبرا في ميدان الأوبرا، ورومانس ورمسيس في ميدان رمسيس، وسفنكس في ميدان سفنكس، وشبرا بالاس في شبرا، وأذكر أن هذه الأخيرة كانت متخصصة في عرض الأفلام الهندية، وكنت أذهب إليها من محطة مصر عبر شارع شبرا وداخلي شعور لذيذ وكأني، مثل غاندي، ذاهب إلى الهند سيراً على الأقدام!
ولأن السينما بالنسبة لي كانت تمثل متعة خاصة، وبالرغم من كونها فناً جماهيرياً، إلا أنها كانت، حتى سن كبيرة، بمثابة العادة السرية التي كنت أمارسها بمفردي، فكنت، فى بعض الأحيان، أذهب إليها بسعادة الأطفال دون رفيق، وكنت أعود بالسعادة ذاتها لأسترجع الأحداث التي شاهدتها على الشاشة في الطريق، فأري وجوه الناس والمحال التجارية وقد اكتست بمسحة جديدة غير التي كانت عليها قبل دخولي الفيلم، وهي مسألة لها معادل علمي في نظريات السينما والفن عموماً. والحقيقة أن هناك أسباباً أخرى كانت تدفعني لهذا المسلك، وهي أن قرار دخول السينما لديّ كان يخضع لأسباب تخصني على المستوى الشخصي، ولا تحظي بنفس الاهتمام من قبل الآخرين من المحيطين بي، كأن أذهب لمشاهدة فيلم “الاستقلال” لوول سميث، لأني قرأت عن المشهد الاستهلالي للفيلم الذي يصور نهاية العالم على يدي كائنات فضائية، أو لأن الذي أنقذ العالم شاب يهودي! .. أو أشاهد الجزء الثاني من سلسلة أنديانا جونز “المعبد الملعون” لأن الجزء الأول ” غزاة الكنز المفقود” كان قد مُنع من العرض في مصر، أو أشاهد فيلم “إبراهيم الأبيض” لأنى سمعت أن أحمد السقا أدي مشهد الاحتراق الكامل بالنيران دون الاستعانة بدوبلير. وهي دوافع، كما يبدو، غير فنية أو جمالية، ولا تخلو من سذاجة، غير أنها سذاجة من نوع خاص، لأنها تجمع بين سذاجة المشاهد العادي المحب لفن السينما، وفضول المشاهد المثقف الذي يملك الرؤية النقدية لكنه يحتفظ، في الوقت ذاته، بدهشة الطفولة وسحرها الخيالي الذي لا يقاوم، بحيث لا يتعالى على أي عمل ويعتبره أقل من أن يكون موضوعاً للمشاهدة أو للتناول النقدي.
وقد كانت هذه هي فلسفتي النقدية التي حرصت على الالتزام بها في مرحلة الإنتاج أو الكتابة النقدية، خاصة بعد أن قرأت في ميدان النقد الثقافي، وأدركت أن الفنون والآداب عموماً، هي في التحليل الأخير منتجات ثقافية تخضع لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة تتجاوز الأبعاد الفنية والجمالية للأعمال المنتمية لهذه الفنون.
الكتب والدوريات:-
لأن دراستي الجامعية لم تكن متعلقة بالسينما أو الفنون، وكانت في القانون ثم الفلسفة، فقد جاء اهتمامي بالثقافة السينمائية عن طريق الكتب التي كنت أقرأها من باب الهواية لا التخصص. وفي هذا السياق، اقتنيت معظم الكتب السينمائية التي أصدرتها هيئة الكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة وأكاديمية الفنون وسلسلة الفن السابع التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة السورية، بالإضافة إلي كتب مهرجان القراءة للجميع.
وقد لعبت هذه الكتب دوراً مهماً في تثقيفي سينمائياً وتعويض النقص الذي شعرت به نتيجة لعدم التخصص، فكانت هذه المصادر بمثابة الدراسة الحرة لفن السينما. وكثيراً ما كنت أشعر بالسعادة العارمة كلما وقع في يدي كتاب يتحدث في أمور السينما من قريب أو بعيد. غير أن هناك بعض الكتب التي كانت تمثل إضافة حقيقية بالنسبة لي، أو كشفاً جديداً في ناحية من نواحي العمل السينمائي، فقرأت كتب النقد الأمريكي، والفرنسي، والروسي، وعرفت الفرق بين نظرية سيرجي ايزنشتاين في المونتاج ونظرية أندريه بازان في اللقطة الطويلة. وبالرغم من انبهاري بفكرة المونتاج إلا أني، علي مستوي التذوق، أجد متعة أكبر في الأفلام التي تعتمد علي اللقطات الطويلة بنحو أكثر كما حدث معي في فيلم ” خرج ولم يعد” لمحمد خان و” الشتا اللي فات ” لإبراهيم البطوط، لأن التقطيع ينطوي علي قدر من الصنعة، في حين أن اللقطات الطويلة تمنح العدسة حرية أكبر في التحديق طويلاً في تفاصيل الحياة الصغيرة، التي من شأنها أن ترسم صورة جديدة وكاشفة لخبايا الوجود.
وأذكر أني تعلمت كثيراً من كتاب “دينامية الفيلم” لجوزيف وهاري فيلدمان، وعرفت كثيراً عن أسرار صناعة الفيلم من كتاب “لغة السينما” لمؤلفه علي أبو شادي، وهما كتابان يعدان بمثابة المدخل الجيد لفهم المصطلحات الفنية والمراحل التي يمر بها الفيلم منذ أن يكون فكرة مجردة حتى يستوي عملا ً فنياً متكاملاً ومستقلاً. ومن خلال كتاب ” لغة الصورة” لروي آدمز تعرفت على الوجه السينمائي لأديب الرواية الجديدة آلان روب جرييه، خاصة في فيلمه المميز ” العام الماضى في مارينباد” كما تعرفت لأول مرة علي سينما المخرج الفرنسي جان لوك جودار، وكيف أنه، مثل جرييه ونتالي ساروت في الأدب، قدم ما يمكن تسميته ب “الفيلم المضاد” علي غرار “الرواية المضادة” التي أطلقها سارتر علي أعمال ساروت، حيث لا قصة ولا حبكة ولا ملامح محددة لشخصيات العمل!
ولعل الفائدة الأخرى الهامة التي حصلتها من قراءة الكتب هي تعرفي علي عدد من كلاسيكيات السينما العالمية التي كانت بمثابة النماذج الخصبة التي تعكس التجسيد الحي للأفكار السينمائية النظرية مثل ” المدرعة بوتمكين” و”المواطن كين” و”سارق الدراجة” و”سائق التاكسي”، وكانت سبباً في مشاهدتي لهذه الأفلام، فيما بعد، على الإنترنت.
وفي محاولة واعية لمعرفة تاريخ السينما العالمية ومدارسها المختلفة قرأت عن الواقعية الجديدة في إيطاليا والتعبيرية في ألمانيا والموجه الجديدة في فرنسا وأفلام النوار في أمريكا. ومثل الكثيرين من عشاق السينما أعجبتني الواقعية الإيطالية، خاصة عند فيتوريو دي سيكا و روبرت روسيلليني كما صوراها في فيلمي “سارق الدراجة” و”روما مدينة مفتوحة”.
وبالرغم من أني قرأت كتباً عديدة مترجمة في السيناريو إلا أني لم أفهم معني السيناريو إلا من خلال كتاب “السيناريو” لسد فيلد، الذي درسته في واحدة من الورش التدريبية التي كانت تقيمها هيئة قصور الثقافة، وكتيب “كيف تكتب السيناريو” ل”صلاح أبو سيف”، الذي اشتريته من فوق سور مستشفى الجلاء بوسط البلد. وفوق هذا وذاك كانت السيناريوهات التي نشرتها هيئة قصور الثقافة، ربما لأول مرة، كأعمال أدبية مستقلة، مثل “البوسطجي” و” زوجة رجل مهم” و”عرق البلح”.
وبنفس المعني تعرفت علي المدارس الإخراجية من خلال السلسلة التي نشرتها أكاديمية الفنون حول المخرجين العالميين مثل سكورسيزي و فرانز كوبولا وجيمس كاميرون وستيفن سبيلبرج، غير أن كتاب مدكور ثابت “كسر الإيهام النسبي” وكتاب “إعادة اكتشاف فيلم مصري مختلف” لمجموعة من النقاد حول واحد من أعمال ثابت التجريبية كان لهما أثراً مهماً في فهمي لمسألة الإبداع في العملية الإخراجية للأفلام، فقد قرأت الكتابين وشاهدت الاسطوانة المدمجة لفيلم “حكاية الأصل والصورة” التي كانت تُباع مرفقة بالكتاب، وأدركت كيف استطاع ثابت أن ينقل فكرة بريخت عن المسرح الملحمي من مجال المسرح إلي مجال السينما، بحيث كانت تقوم أسلوبيته علي تضمين المشاهد من عناصر الواقع ما يذكّر المتفرج بأنه إزاء عمل فني، أي ما يمنعه من الاستغراق التام في العمل، وأن يظل واعياً بكونه هدفاً لرسالة ثورية تدفع إلي التغيير، بدلاً من كونه طرفاً سلبياً في عملية سحرية أشبه بالتنويم المغناطيسي الذى يصيب الوعي بالخدر.
وفي سياق النقد السينمائي، قرأت الكثير من الكتب والمقالات، وقد لاحظت أن معظم الكتب العربية، التي وقعت في يدي، في مجال النقد كانت عبارة عن تجميع لمقالات سابقة كتبها أصحابها في الصحف والمجلات حول الأفلام التي شاهدوها في تاريخ عرضها، ومما أذكره “كلاسيكيات السينما المصرية” لمؤلفه “علي أبو شادي”، و”أضواء علي الماضي” لرفيق الصبان، و”سينما المشاعر الجميلة” لرؤوف توفيق، والأعمال الكاملة لسامي السلاموني، التي اعتبرتها كنزاً ثميناً لأنها تضم تجربة السلاموني النقدية كلها، وهي تجربة خصبة وثرية، بالإضافة إلى كونها تضم حشداً كبيراً من الأفلام القديمة والحديثة التي تناولها بالنقد، ومما استوقفني في السلاموني مقولته أنه لا يجيد حرفة سوي مشاهدة الأفلام والكتابة عنها، ما يعني الانعتاق للعمل النقدي. والحقيقة أني كنت أحسده، وأحسد كل الذين حرفتهم “مشاهدة الأفلام والكتابة عنها”، فمشاهدة الأفلام متعة والكتابة عنها متعة أكبر.
وتلك الحقيقة كانت دافعي الأول للقراءة في كتب السينما بعامة والنقد السينمائي بنحو خاص. فالسؤال الذي كنت أبحث له عن إجابة هو: كيف أشاهد الأفلام وكيف أكتب عنها؟ ولكي أصل إلي هدفي كنت أحرص علي مشاهدة الأفلام بنفسي ثم القراءة عنها من قبل آخرين (النقاد)، وأحياناً كنت أقرأ عن الفيلم أولاً ثم أشاهده بعد ذلك، ففي الحالة الأولي كنت أحاول أن أفهم ما شاهدته، وفي الحالة الأخيرة كنت أحاول أن أفهم ما قرأته.
ونظراً لعدم وجود دوريات سينمائية متخصصة، فكنت أقرأ الصفحات السينمائية التي كانت موجودة في بعض المجلات الأدبية والثقافية مثل إبداع القاهرية، والدوحة القطرية، ودبي الإماراتية، وهي إصدارات شهرية كانت تحرص على تقديم الجديد، لكني ارتبطت أكثر بصحيفة القاهرة الأسبوعية التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، وكانت تفرد أكثر من صفحة للنقد السينمائي، وأذكر أني كنت أتابع بانتظام مقالات أ. ماجدة خير الله، وأ. رفيق الصبان، وأ. محمود قاسم، ود. وليد سيف، وكانت خير الله تجيد الكتابة عن الأداء التمثيلي للفنانين فمثلا كانت تري أن أحمد السقا مثل القمر، جسم معتم لكنه يعكس الإضاءة على الممثلين الذين يعملون معه فيتألقون أكثر منه كما حدث مع مصطفي شعبان في فيلم “مافيا”، ومع عمرو واكد في فيلم “إبراهيم الأبيض”، ومع خالد النبوي في فيلم “الديلر”، ومصداقية هذه الملاحظة تنبع من أن كل هؤلاء قدموا أفضل أدوارهم مع السقا بالرغم من علامات الاستفهام الكثيرة التي تحيط دائماً بأداء هذا الأخير.
وتميز الصبان بأنه كان يكتب للسينما والمسرح، كما كان قاسم يكتب في السينما وفي الأب، وهي مسألة لم تكن محل نقد من جانبي بقدر ما كانت محل إعجاب، لأن التخصص الدقيق في مجال الفنون، خاصة الجماهيرية منها، لا يأتي، غالباً، في صالح هذه الفنون، فالناقد الذي يمارس أكثر من لون من الكتابة يكون أكثر قدرة علي التعبير عن أفكاره ومن ثم علي توصيل رسالته إلي الجماهير، خاصة إذا نجح في الاستفادة من مخزونه المعرفي الذي حصله من هذه المجالات علي اختلافها وتنوعها.
وكان سيف، في رأي، يتمتع بميزتين، أولاهما أنه كان يحاول أن يتجاوز الرؤية الأدبية التي كانت تهيمن على النقد السينمائي في مصر بأن يبتعد في نقده من قصة الفيلم ويقترب أكثر من اللغة البصرية التي تعبر عن هذه القصة، وهو مطلب كان يردده معظم النقاد، لكنهم كانوا بعيدين عن تحقيقه في ممارساتهم النقدية الفعلية. والشيء الثاني كان تصديه للكتابة عن أفلام وصفت بكونها رديئة لتدني مستواها الفني بالرغم من نجاحها الجماهيري الكبير مثل فيلم “عبده موتة”، الذي كتب عنه رغبةً في الوقوف علي أسباب هذا النجاح.
وكنت أري دائماً أن الكتابة النقدية في شكلها الصحفي، بالرغم من انتشارها الواسع، لا تفي بحق الفيلم، لأنها، بحكم طبيعتها، تأتي قصيرة ومجتزأة ولا تستطيع الإحاطة بالعمل ككل، لأن السينما عمل جماعي ذو عناصر متعددة، يحتاج كل منها إلي كتابة، بل دراسة مستقلة ومتخصصة.
ومن هذا المنطلق كنت ضد فكرة “الناقد العليم” الذي ينبغي أن يتناول الفيلم من كل جوانبه، السيناريو والحوار والإخراج والتمثيل والموسيقي والديكور والمونتاج والتصوير والإضاءة، بالإضافة إلي الرؤية والمضمون من حيث كونه سياسياً أو اجتماعياً أو نفسياً أو تاريخياً أو فلسفياً.
وهذه النظرة الشمولية، غير الواقعية، هي التي جعلت معظم النقاد يقعون في الحرج خشية أن يُتهموا بنقص المعرفة، فيضطرون إلى استخدام عبارات فضفاضة لا تميز العمل موضوع النقد فقط، ولكن يمكن أن تنسحب إلي أعمال أخري شبيهة ولو من بعيد، من قبيل “الموسيقى كانت مناسبة للجو النفسي للشخصيات” أو ” تميز الفيلم بضخامة الإنتاج” أو “السيناريو كان يعاني من الترهل” أو “الأداء التمثيلي كان موفقا” أو “الديكور كان مبهرا” أو “الإضاءة جاءت في خدمة الأحداث”…إلخ. وهي عبارات معيارية تنطوي على حكم قيمي يفتقر إلي أساس التقييم.
واعترف أن كتاباتي النقدية، في مرحلة الكتابة، لم تسلم من هذا العيب، لكني كنت أحاول بقدر ما أستطيع التقليل من هذه العبارات مع إيجاد المسوغ الفني والجمالي للأحكام التي تتضمنها. كما أني أعفيت نفسي من التمسك بلقب “الناقد السينمائي” لأني أكتب عن السينما من منظور تخصصي في الفلسفة وعلم الجمال، وهو مجال نظري يسع كل ما هو فن وإبداع، والسينما، بالرغم من مكانتها الخاصة في نفسي، تأتي ضمن اهتماماتي الأخرى الكثيرة حول الفلسفة والأدب والمسرح والفنون التشكيلية. وبهذا المعني أكتب عن السينما من منظور يُعني بالمضمون الفكري للأفلام أكثر من أي شيء أخر يخص الفيلم.
ومثل هذه الكتابة تستمد مشروعيتها من الطبيعة الخصبة لفن السينما الذي يمكنه أن يستوعب مجالات عديدة لا تنتمي للسينما بالمعني الدقيق مثل علوم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ والأدب والنقد الثقافي. وهي مجالات من شأنها أن تلقي بأضواء جديدة على الأفلام بجانب النقد السينمائي الخالص. وهي مسألة تنقلنا إلي المرحلة الأكاديمية وعلاقتها بالسينما في حياتي.
الدراسة الأكاديمية:-
عندما أنهيت رسالتي في الماجستير، بعد خمس سنوات من البحث، وكان عنوانها “مفهوم الوعي الجمالي في الهرمنيوطيقا الفلسفية عند جادامر” كتبت في الخاتمة أنني أسعي إلي تحويل الفلسفة التي تعتمد علي “المفهوم” إلي فلسفة تعتمد علي ” الصورة” ولم أكن أقصد وقتها الصورة السينمائية، لكني كنت أقصد الصورة الذهنية، أي أن أجعل من النص الفلسفي نصاً أدبياً يحتوي علي الحكي (السرد) ويستعين بالاستعارة والمجاز للتعبير عن مضمونة، وكان دافعي لهذا التفكير هو صعوبة النص الفلسفي وبعده عن القارئ العادي، وهي الفكرة التي طورتها فيما بعد، في كتابات عديدة، فيما يُعرف ب ” فلسفة الحياة اليومية”.
وبالرغم من ذلك، فإن عشقي للسينما جعلني أفكر في أن يكون موضوع رسالتي في الدكتوراه حول السينما، ولأن تخصصي الدقيق كان علم الجمال، فقد فكرت أن يكون الموضوع متعلقاً بجماليات السينما، وظلت مشكلتي أن العنوان فضفاض، والدكتوراه تحتاج إلي تحديد أكثر. وفي ظل غياب الدوريات المتخصصة، ومع انتشار الكتابات الصحفية بسلبياتها التي أشرنا إليها، اتجه اهتمامي إلي الكتب المترجمة للبحث عن كتابات منهجية تتناول السينما كعلم. ومن هذا المنطلق كونت مكتبة سينمائية زاخرة بنظريات السينما ومناهجها، باللغتين العربية والإنجليزية، وعكفت علي القراءة طويلا من أجل إعداد خطة الرسالة.
ومن أهم ما قرأت “علم جمال ونفس السينما”(بجزئيه) لجان ميتري، و”علم جمال السينما” لهنري آجيل، و”الصورة – الحركة” لجيل دولوز، ومؤلفات كريستيان ميتز الثلاثة حول سيميوطيقا السينما “لغة الفيلم” و “الدلالة الخيالية” و “اللغة والسينما”، غير أن الكتاب الذي فتح لي آفاقاً واسعة لموضوع الرسالة كان “نظريات الفيلم الكبرى” لدادلي أندرو، لأنه تناول أهم نظريات الفيلم، ثم اختتم الكتاب بتساؤل حول مدي إمكانية الجمع بين السيميوطيقا ( علم العلامات) والفينومينولوجيا (علم وصف ظواهر الشعور) في مقاربة السينما كمنهجين متكاملين بالرغم من كونهما يبدوان متعارضين؟. وقد التقطت هذا التساؤل، وكأنى عثرت علي كنز، وجعلت منه إشكالية للرسالة، وصغت خطة الدراسة علي هذا الأساس بحيث كان العنوان “جماليات السينما بين السيميوطيقا والفينومينولوجيا” إلا أن المشرف طلب مني تعديلاً في العنوان، بدا بسيطاً بالنسبة له لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لي، هو أن استبدل بكلمة “السينما” كلمة “الصورة” ليصير العنوان “جماليات الصورة في السيميوطيقا والفينومينولوجيا”، وكان مبرره أن قسم الفلسفة سبق وأن رفض خطة من قبل عن السينما، لأنها لا تنتمي إلي الفلسفة أو الأدب وأن الموافقة سوف تكون مرهونة بالاستعانة بمشرف مشارك من معهد السينما بأكاديمية الفنون، وأنه من الأفضل أن يكون الإشراف من داخل القسم. وبالرغم من أن الموضوع كان صادماً لي في البداية إلا أني، بعد تفكير، اعتبرته ميزة، لأنه يُعد فرصة ذهبية لدراسة الفنون البصرية كلها، لا فن السينما فحسب، بنحو منهجي متعمق ما من شأنه أن يؤهلني للكتابة النقدية في أكثر من مجال فني، وهو ما تحقق فيما بعد.
فقد قسمت الرسالة إلي قسمين، أحدهما للصورة الساكنة وتناولت فيه فنون التصوير والرسم الزيتي والعمارة، والثاني تعلق بالصورة المتحركة وتناولت فيه فنون التلفزيون والمسرح والسينما، وكان تحدياً كبيراً أن أتناول في كل مرة فن من الفنون من وجهتي نظر مختلفتين، واحدة سيميوطيقية والأخري فينومينولوجية، ما جعل لجنة المناقشة تصف الرسالة بأنها بمثابة ثلاث رسائل مجتمعة. وكان منهجي أن أبحث عما هو فينومينولوجي في السيميوطيقا، وعما هو سيميوطيقي في الفينومينولوجيا، وقد توصلت من خلال البحث إلي طريق ثالث يمكن تسميته الفينومينولوجيا السيميوطيقية أو السيميوطيقا الفينومينولوجية، وقد اكتشفت أن النهج الأول قد اتبعه منظّر إنجليزي في مجال التليفزيون اسمه لانيجان، وأن النهج الأخير اتبعته منظّرة أمريكية معاصرة في مجال السينما اسمها سوبشاك.
وطالبت في الرسالة بتعميم المنهج بحيث يتناول كل الفنون، كما لاحظت أن الفكرة العامة لهذا اللون من التحليل تشبه كثيراً ما أسماه د. زكي نجيب محمود ” القراءة الثانية”، وهو طريقة في مقاربة النصوص الأدبية يقوم الناقد بمقتضاها بقراءة العمل مرتين، الأولي (تشبه القراءة الفينومينولوجيا) وفيها يتعاطى الناقد مع العمل بشكل كلي ويترك نفسه للتفاعل الذاتي الوجداني معه، والقراءة الثانية (تشبه القراءة السيميوطيقية)، وفيها يتوقف الناقد عند تفاصيل العمل ويحاول فك رموزها عقلياً للكشف عن الدلالة، وظللت محتفظاً بهذا المنهج المتكامل في معظم كتاباتي فيما بعد، ليس هذا فحسب بل إني استلهمت من روح هذه الفكرة منهجاً تحليلياً أسميته “القراءة المزدوجة” وفيه أطرح أي موضوع أو عمل إبداعي من زاويتين، بحيث أضع نفسي، كناقد، مرة في زاوية أو اتجاه ومرة في زاوية أخرى أو اتجاه معاكس، بحيث أري العمل في ضوءين مختلفين، ومما كتبت في هذا السياق مقالي “قراءتان لفيلم حرب كرموز.. من عين المتفرج ومن عين الناقد” ومقالي “فكرة الاستعمار بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه العلماني” ومقالي “أدب التطهير العرقي.. من زاوية الضحية ومن زاوية الجلاد”.
عين على السينما (مرحلة الإنتاج):
بعد حصولي علي الدكتوراه عام ٢٠١٤ طبعت الرسالة في كتاب صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام ٢٠١٥ يحمل العنوان نفسه “جماليات الصورة في السيميوطيقا والفينومينولوجيا” وكنت قد طبعت رسالة الماجستير في كتاب صدر عن دار التنوير اللبنانية عام ٢٠٠٩، ومنذ مناقشتي الماجستير عام ٢٠٠٥ وأنا متأثر بفيلسوف التأويل، الألماني المعاصر، هانز جيورج جادامر، فكتبت عدداً كبيراً من المقالات والدراسات الفلسفية التي كانت تدور معظمها حول قضايا القراءة والتأويل، وقد جمعت بعضها في كتاب نشرته علي نفقتي الخاصة عام ٢٠١٩، تحت عنوان “أطياف جادامرية.. تأملات في الفكر الغربي المعاصر” ، وباقي الدراسات قيد الطبع.
غير أن السمة المميزة لهذه الفترة أني نشرت مقالات عديدة في فنون مختلفة مثل الشعر والقصة والمسرح والتلفزيون والفن التشكيلي عدا السينما، التي ظلت حلماً يراودني طيلة هذه السنوات. وبالرغم من أني نشرت مقالاتي في صحف ومجلات عدة، ورقية وإلكترونية، مثل الخيال ومسرحنا وميريت المصرية، والجديد والعرب اللندنيتين، وأنحاء السعودية، والمثقف الأسترالية والمجلة الثقافية الجزائرية، غير أني لم أقدم علي الكتابة للسينما إلا في مرحلة متأخرة عندما أرسلت مقالي “جماليات الدراما البوليسية.. تجربة يوسف الشريف في أربعة أعمال” إلي مجلة الجديد الشهرية فإذا بي أجدها منشورة بعد أسبوعين في صحيفة العرب الأسبوعية في صفحة كاملة، وتكرر الشيء نفسه عندما أرسلت مقالي “ظاهرة اعتزال الفنانات بين الفن والدين” إلي “الجديد” فوجدته منشورا في “الجديد” ثم في “العرب” ما أسعدني بشدة وشجعني علي الكتابة في السينما، فكتبت عن فيلم “حرب كرموز” وفيلم “جريمة في الإيموبيليا” وقت عرضهما، وأرسلت الأول للجديد والأخير للعرب، إلا أن كلاهما لم يُنشر.
وعندما رجعت إلي الصفحات السينمائية في الإصدارين، لاحظت أن الأستاذ أمير العمري يكتب فيهما بانتظام، فاتصلت بأحد أصدقائي من الكتاب الصحفيين الذين لهم صلة بالإصدارين وقلت له أن مقالاتي السينمائية لم تُنشر بينما هناك ناقد محتكر للنشر فيهما اسمه أمير العمري، فضحك صديقي وقال لي أن الأستاذ أمير هو المسؤول عن هذه الصفحات السينمائية، وهو الذي يحدد ما يُنشر وما لا ينُشر، فطلبت منه تليفونه، لكنه نصحني بأن يكلمه هو، عني، أولاً عندما تسنح الفرصة لأن الأستاذ أمير مشغول هذه الأيام.
وبالرغم من أني، بشهادة المحيطين، إنسان صبور ولا أحب الإلحاح وأدع الأمور حتى يحين وقتها، إلا أن الفضول جعلني أبحث علي الإنترنت عن الأستاذ أمير العمري، لأكتشف أني أمام قامة سينمائية كبيرة في مجال النقد والصحافة الفنية، وأنه تقلد أكثر من منصب. فقد شغل منصب رئيس جمعية نقاد السينما المصريين في الفترة ما بين عامي 2003 و2011، ورئيس تحرير مجلة السينما الجديدة عامي 2002 و2003، وكان مديراً لمهرجان الاسماعيلية السينمائي للأفلام الوثائقية والقصيرة في دورته لعام 2001، كما أنه عضو بلجان التحكيم في عدد من المهرجانات السينمائية المحلية والدولية. وفوق هذا وذاك له إنتاج نقدي يقارب الثلاثين كتاب، وقبل أن أتساءل عن سبب جهلي بهذه الشخصية الهامة في مجال السينما الذي أغرمت به، اكتشفت أيضاً أني احتفظ له في مكتبتي بأكثر من كتاب، غير أنه لم يتح لي قراءتهم كما كان يحدث معي كثيراً عندما كنت أشتري كتباً ذات أهمية خاصة وأؤجل قراءتها لحين توفر الوقت المناسب، غير أني، غالباً، أنساها فتضيع في زحمة الكتب التي احتفظ بها بغير ترتيب أو تنظيم.
لكن ما أسعدني حقيقة هو اكتشافي لمجلة “عين على السينما” الإلكترونية، وإن جاء متأخراً، ومعرفتي أن الأستاذ أمير هو رئيس تحريرها، وقتها فكرت أن أكتب له مباشرة علي إيميل المجلة دون انتظار رد صديقي الذي وعدني أن يصلني به، فأرسلت مقالي “قراءتان لفيلم حرب كرموز”، وتوقعت أن أنتظر كثيراً حتي أعرف مصير المقال، لكني فوجئت، بعد أيام قليلة برسالة رقيقة من الأستاذ أمير علي إيميلي الخاص، يشكرني علي المقال، الذي وصفه بكونه مقالاً عظيماً، ويبلغني بأنه تم نشره بالفعل، وأنه يأمل في أن يستمر التعاون بيننا. وهو رأي اعتبره، دون مبالغة، شهادة ميلاد جديدة لي كناقد سينمائي، خاصة عندما رجعت إلى المجلة ورأيت اسمي تحت صورة أميره كرارة بطل الفيلم، وهي لحظة فارقة حلمت بها كثيراً، أن أجد اسمي بجوار صور النجوم وأفيشات الأفلام، لأن، كما ذكرت، عالم السينما ساحر والكتابة عنه فرصة ذهبية للمشاركة في معجزات هذا السحر.
ومنذ ذلك التاريخ، توالت مقالاتي النقدية التي كنت أرسلها بمعدلات شبه منتظمة على مدار السنوات الثلاث الماضية، ما أكسبني ثقة أكبر في مضمار الكتابة النقدية السينمائية، وصار لدي رصيد معقول أعمل علي جمعه في كتاب سيصدر قريبا إن شاء الله.
وفي هذا السياق، لا يمكنني أن أنسي تلك الروح الجميلة التي كان يتعامل بها أستاذ أمير، والمواقف الطريفة التي لا تخلو من الجدية، ما يضفي على العلاقة طابعاً إنسانياً من نوع خاص. فأنا لم ألتق بالأستاذ أمير علي الحقيقة، لكني تواصلت معه علي صفحات التواصل الاجتماعي، أحياناً علي الخاص وأحياناً علي العام، بالإضافة إلي أني صرت من قرائه المتابعين لكتاباته بانتظام، واستفدت كثيراً، ولم أزل ، من مقالاته النقدية وآرائه الجريئة حول قضايا الفن والثقافة. وكان أهم ما يميز أستاذ أمير أنه يحرص على التواصل مع الكاتب والتحدث إليه بكل صراحة ووضوح، فيشرح أسباب عدم النشر، ويطلب التعديل، إذا ارتأى ذلك، في حالة قبول النشر، كما أنه يحرص على تذكير الكاتب بشروط النشر التي ينبغي مراعاتها.
فأذكر أنه نشر لي كل مقالاتي التي أرسلتها إلى “عين على السينما” عدا مقالتي حول فيلم “الفيل الازرق٢”، وكتب لي علي الخاص، خلافاً لمعظم رؤساء التحرير الذين يرفضون النشر دون إبداء الأسباب، وقال إن من شروط النشر في المجلة عدم نشر أكثر من مقال حول نفس العمل وأن هذا الفيلم تحديدا نُشر عنه مقالان، وطالبني بالرجوع إلي أرشيف المجلة قبل إرسال المقالات، فرددت أني رجعت بالفعل لكني لم أكن أعرف هذا الشرط. وقمت بنشر المقال في صحيفة أنحاء السعودية ونقلته إلى صفحتي علي الفيس بوك، لكن الطريف أن الأستاذ أمير اختلط عليه الأمر، فعلق علي المقال قائلاً، فيما أذكر، “هو احنا مش نشرنا لك المقال بتنشره تاني ليه” وقبل أن أذكّره بأن المقال لم ينشر في “عين علي السينما” تدارك هو الأمر ومسح التعليق.
وفي واقعة أخرى نشرت مقالا حول فيلم “صندوق الدنيا” في صحيفة “القاهرة”، وكانت قد نشرت لي من قبل مقالي حول فيلم “جريمة في الإيموبيليا” الذي سبق وأن أرسلته للعرب ولم تنشره، وعندما قرأه الأستاذ أمير علي صفحتي علق بروح دعابة لطيفة قائلا “هو انت اتخليت عننا ولا إيه؟.. طيييب”. وكتبت له أني لم أكن لأتخلى عن “عين على السينما” لكن تربطني علاقة طيبة بصحيفة القاهرة ورئيس تحريرها، كما هو الحال بالنسبة لعين علي السينما ورئيس تحريرها.
وبمناسبة الحديث عن صحيفة “القاهرة”، أذكر أن كان للأستاذ أمير رأي سلبي فيها، كتبه علي صفحته بالفيس بوك، بكل صراحة ووضوح، وكان فحواه، علي ما أذكر، أن الصحيفة تستغل شباب الكتاب عن طريق إغرائهم بالمال ولا تقدم ثقافة حقيقية، وأعتقد أنه كان يتحدث عن فترة ماضية من عمر الصحيفة، والحقيقة أني كنت قارئا جيد للصحيفة لسنوات عديدة وقد استفدت من كتّابها كثيراً في السينما وغير السينما كما سبق وأن ذكرت في هذا المقال، لأني كنت أتعاطى معها بمعزل عن سياقها التاريخي الذي أجهله، وهنا ثار في ذهني تساؤل عن مدي مصداقية المصادر الثقافية والفنية التي تسهم في تشكيل وعي المتلقي بالرغم من الظروف السياسية والاجتماعية المتحيزة التي تحيط بهذه المصادر، بل تطرق تساؤلي إلي أمور أخري فردية ، لكنها شائعة ولا تقل إشكالية في السياق الأخلاقي للعملية الإبداعية، كأن يقدم المبدع رسالة أخلاقية في العمل بينما يضرب هو عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية علي مستوي الممارسة الذاتية!
وكان رأيّي أن الثقافة عموماً والفنون بنحو خاص، لأنها تشبه الكائن الحي، فهي تملك القدرة على مخاطبة الناس في كل زمان ومكان بفضل لغتها وأدواتها التعبيرية الخاصة. ولهذا السبب، يبدأ العمل متحيزاً أي خادماً لأغراض سياسية أو اجتماعية أو ذاتية لدى المبدع في ظل ظروف النشأة، لكنه يتحول بعد ذلك، بفضل لغته، إلى كيان موضوعي يمكنه أن يخاطب الأجيال الجديدة التي لم تعاصر الأعمال في بداياتها المؤدلجة، وأن يكتسب مصداقيته من اتساقه الذاتي وجمالياته الخاصة. فالأغاني التي تمجد النظام والأفلام ذات الدعاية السياسية، شئنا أم أبينا، تلعب دوراً مؤثراً في تشكيل الوعي والوجدان لدي الأجيال الجديدة، وربما كان هذا هو السبب في ظهور مجالات معرفية معاصرة تعني بالنقد الثقافي، ومهمتها تحليل الخطاب، أيا كان، للكشف عن الرسائل المضمرة داخل الأعمال الأدبية والفنية.
وكنت أود أن أنقل للأستاذ أمير هذا الرأي على صفحته رداً على منشوره حول صحيفة القاهرة، لكني آثرت أن أكتبه في مقال مستقل نشرته في صحيفة المثقف الإلكترونية تحت عنوان “الثقافة بوصفها كائنا حيا”، ثم أعدت نشره في مدونتي الخاصة “فيلسوف الحياة اليومية” بعد أن عدلت العنوان ليكون “الثقافة بين مثلية ميشيل فوكو ورومانسية عبد الحليم حافظ”.
أما بالنسبة للأموال التي ذكر الأستاذ أمير أن الصحيفة تغري بها شباب الكتّاب، فقد نشرت فيها خمس مقالات ولم أتقاض عنها أي مقابل، لأن الصحيفة تدفع مقابلاً ضئيلاً، ولأني كنت أبحث عن المجد الأدبي لا الثراء المادي، وفي كل الأحوال، تظل سعادتي بأني أصنع شيئاً أحبه هي المقابل الأغلى، الذي يستحق عناء الكتابة.
وفي سياق آخر، عندما أرسلت مقالي حول فيلم “قائمة شندلر” كتب لي الأستاذ أمير علي الخاص ما الذي يمكن أن يضيفه مقال جديد عن فيلم كتب عنه وقرأ العالم كله منذ زمن بعيد؟ واعترف بأنه لم يقرأ المقال بعد، لكنه يطرح تساؤلاته من واقع أن معظم النقاد في الفترة الأخيرة بات يكتب عن الأفلام القديمة حتى صارت “عين علي السينما” وكأنها أرشيف للأفلام!
وكتبت له وقتها أن الكتابة عن الأفلام القديمة أمر مشروع، إذا ما كان الكاتب لديه رؤية جديدة للعمل تتناسب والتغيرات التي حدثت في المجتمع وفي ذائقة المتلقي، وأن المسافة بين زمن عرض الفيلم وزمن مشاهدته والكتابة عنه، كلما كانت طويلة كانت قادرة على منح الناقد الفرصة لقراءة العمل بنحو مختلف. وبهذا المعني لن تكون “عين على السينما” مجرد أرشيف، بأي حال من الأحوال، بقدر ما ستكون مجالاً خصباً لإعادة التأويل والفهم المعاصر للأعمال التي مضت عليها أزمنة طويلة.
وأذكر أن المقال مضي علي إرساله مدة طويلة علي غير المعتاد ولم يُنشر، فظننت أنه لم يعجب رئيس التحرير فكتبت له أن يخبرني صراحة إذا لم يكن ينوي نشر المقال حتي أنشره في مكان آخر، ولم يجب علي رسالتي في حينها، لكني وجدت المقال منشوراً في اليوم التالي وبجانبه مقال آخر للأستاذ أمير حول الفيلم نفسه، وكان مقالاً مهماً ومتعمقاً أراد أن يبرز فيه البعد الدعائي الصهيوني للفيلم، ومن خلال تحليل الدعاية التي صاحبت إنتاج الفيلم وتشريح الخطاب المضلل الذي عمل علي تضخيم أسطورة المحرقة من أجل كسب تعاطف العالم مع قضية الوجود اليهودي غير المشروع، بينما دار مقالي حول الأبعاد الجمالية والفكرية للفيلم في سياق سينما ستيفن سبيلبرج التي تعكس اهتماماً واضحاً ببحث الإنسان عن الأمان في ظل عالم ملئ بالوحوش الكاسرة، علي الحقيقة أو المجاز، التي لا ترحم.
وحسناً فعل رئيس التحرير، عندما نشر مقالين متجاورين حول فيلم واحد، لأن في ذلك إثراء للعمل من ناحية، ومنح المتلقي الفرصة كي يفهم العمل من أكثر من زاوية من ناحية أخرى. وهي مسألة من شأنها أن تجعل رئيس التحرير يعيد النظر في الشرط المتعلق بعدم نشر أكثر من مقال نقدي عن عمل واحد، فليس هناك ما يمنع من نشر العديد من المقالات، مهما كان عددها كبيراً، حول العمل نفسه، بل ليس هناك ما يمنع من نشر أكثر من مقال حول عمل واحد للناقد نفسه، إذا كانت هناك إضافة جديدة أو مراجعة لأفكار قديمة، خاصة أن الصحيفة إلكترونية ويمكنها أن تستوعب عدداً كبيراً من المقالات مهما كانت غزارتها أو تنوعها.
وأعترف بأن رئيس التحرير كان مرناً جداً، وسريع الاستجابة، فقد قرأت العديد من المقالات المهمة التي تناولت أفلاماً قديمة في الفترة الأخيرة علي موقع “عين علي السينما”، وكلها أفلام كانت تستحق فعلاً إعادة القراءة، كما أن المبدأ نفسه مكنني من نشر العديد من المقالات التي كتبتها أثناء فترة العزل المنزلي حين إصابتي بالكورونا، وكانت تدور كلها حول أفلام مضي عليها زمن، لكنها كانت تحمل من القيمة ما يجعلها متجاوزة للزمن، أو مؤهلة لإعادة القراءة، مثل “شاوشانك”، “جزيرة شاتر”، “حياة باي”، “كشف المستور”.
وكما كان رئيس التحرير مرناً في السماح بنشر مقالات حول الأعمال القديمة، فقد كان مرناً أيضاً عندما سمح لي بنشر مقالي حول فيلم “خان تيولا” بالرغم من وجود مقال آخر، للأستاذ عبد المنعم أديب، كان منشوراً حول الفيلم نفسه قبل إرسال مقالي، وأذكر أني كنت قد كتبت لأستاذ أمير أني أعرف أن هناك مقالا سبق نشره علي الموقع حول نفس الفيلم، وأني أرغب في نشر مقالي لأني أتناول الفيلم من زاوية مختلفة، وقد استجاب مشكوراً لطلبي وتم نشر المقال سريعاً.
والحقيقة أن قضية ماذا يكتب الناقد وكيف ينشر؟ لا تخص “عين على السينما” وحدها، لكنها تخص الحالة النقدية في مصر والعالم العربي عموماً.
فالكاتب الحر، الذي لا يرتبط بتعاقد مع صحيفة أو مجلة، مثلي يكون، وللمفارقة، أقل حرية في الاختيار والنشر. والسبب في ذلك أن الصحيفة لن تنشر لكاتب من خارجها إلا ما هو جديد مهما بلغت عبقرية كتاباته، والجديد هنا لا يتعلق بالرؤية بقدر ما يتعلق بالموضوع، فأن تكتب عن فيلم جديد برؤية قديمة خير من أن تكتب عن فيلم قديم برؤية جديدة!
والمسألة في الحقيقة تحدث حتى مع الكتّاب المحترفين الذين يكتبون بانتظام، بمقابل، ولهم مساحة مخصصة في الصحيفة أو المجلة، فالعمل السينمائي، بصفة خاصة، يمثل حدثاً في ذاته، خاصة إذا كان لكبار النجوم أو المخرجين، الذين هم في الغالب معدودون على أصابع اليد الواحدة. وهو حدث يوازي في أهميته الأحداث السياسية والرياضية التي ينتظرها الناس طويلاً. وبهذا المعنى غلبت على الكتابات الروح الصحفية، بحيث تهتم في معظم الأحيان بأمور خارج نطاق العمل في ذاته لتنصب على ظروف الإنتاج والتمثيل وما دار وراء الكواليس، وتعليقات النجوم وملابس النجمات، كما تتحول الكتابات التي تتناول العمل إلى مقالات انطباعية تمجد العمل أو تهاجمه. يحدث ذلك لأن الكتابة النقدية تتحول إلى سوق، أو موسم، لعرض البضائع النقدية، وفي ظل هذا المناخ يتسابق النقاد للفوز بسبق النشر عن الفيلم المنتظر، وهذا السبق لا يتحقق إلا للكتاب الذين يتخذون من النقد مهنة، لأن لديهم ميزة مشاهدة الأفلام قبل عرضها العام من خلال العروض الخاصة أو المهرجانات.
والحقيقة أن الحركة النقدية إذا اعتمدت فقط، على هذا اللون من الكتابة فإنها ستفقد منجزاً نقدياً مهماً جداً يكتبه الهواة، بالمعني المهني، الذين لا يدخلون السباق الموسمي، ولا يمتهنون العمل الصحفي الذي يتأسس علي الخبر ونموذجه “الرجل الذي عض الكلب!” وإنما يميلون أكثر للكتابة الحرة التي تقوم على التأمل الهادئ العميق، ودافعهم هو حب السينما ولذة الكتابة، كما أن اختياراتهم تقوم علي المزاج الشخصي والتفضيل الذاتي للأفلام، ما يجعل من النقد إبداعاً ثانياً أو موازياً للعمل السينمائي.
إن ارتباط الحركة النقدية بسوق عكاظ السينمائي، موسم النجوم، جعل النقاد يعزفون عن تناول الكثير من أفلام الشباب ونجوم الصف الثاني، الذين لا يجدون لهم مكاناً في السوق الموسمية الكبيرة، ما من شأنه أن يسقط أفلاماً كثيرة جيدة من ذاكرة السينما.
والحقيقة أن عدم ارتباط “عين على السينما” بمواسم سينمائية محددة أو بلون معين من الكتابة جعلها تفتح الباب واسعاً أمام الهواة والمحترفين، الشباب والكبار، الصحفيين والأكاديميين، بحيث صارت متنفساً كبيراً لكل محبي السينما الذين لديهم الرؤية والقدرة على التعبير عن رؤاهم. وبهذا المعني استطعتُ أن أكتب عن أفلام مغمورة مثل فيلم “١٢٢” و”حملة فرعون” وعن نجوم الصف الثاني مثل نضال الشافعي الذي كتبت عنه ثلاث مقالات حول أفلامه “ضغط عالي” ، “خان تيولا” ، ” زنزانة ٧”.
وفي السياق نفسه، أتاحت “عين على السينما” الفرصة للكتابة عن المسلسلات بجانب الكتابة للسينما وعياً من القائمين عليها بأهمية الدراما التليفزيونية، عربياً وعالمياً، خاصة في ظل انتشار منصات العرض التليفزيوني، التي يمكن مشاهدتها على الموبايل، في أي وقت وأي مكان، ومن المنطلق نفسه نشرت مقالي حول مسلسل “كوفيد ٢٥”. كما رحبت بالكتابة الذاتية كما تبدت في بعض مقالات أ. محمود عبد الشكور، والكتابة الفلسفية كما في مقالات أ. محمد الغريب، والكتابة الأكاديمية كما نجدها عند د. نور الدين أفاية، بالإضافة إلى ترجمات أ. رشا كمال ذات الأهمية النظرية وكتابات أ. محمد كمال الشابة الواعدة.
وقد عبّرت المجلة عن توجهها المنفتح على كل ألوان الكتابة من خلال تصميم الموقع نفسه الذي يحتوي على صفحات لنقد الأفلام، العربية والأجنبية، وللآراء الحرة، والدراسات، والشهادات والذكريات، والكتب السينمائية، وإن كنت اقترح تخصيص صفحة مستقلة للترجمات، بحيث لا تكون تابعة لصفحة الدراسات، التي تتضمن مقالات عربية ومترجمة في الوقت نفسه.
وأخيراً، يمكنني أن أقول إني لم أكتب هذا المقال رغبة في الحديث عن نفسي، ولا مجاملة للأستاذ أمير العمري رئيس تحرير “عين علي السينما”، وإنما كتبته بكل صدق كشهادة تاريخية أوضّح من خلالها كيف يمكن لمجلة سينمائية أن تصنع ناقداً؟ فقد نشرت أولي مقالاتي النقدية فيها بعد أن بلغت الخمسين!