أندريه بازان: بين التعبيرية والواقعية في السينما
بقلم: كاثرين بليكني
ترجمة: رشا كمال
كان لدى المنظر والناقد السينمائي أندريه بازان آراء قوية حول المونتاج والواقعية. وشرح نظريته في مقال يحمل عنوان تطور اللغة السينمائية، وفيه يرى أنه رغم ضرورة استخدام المونتاج في حالات كثيرة لإنتاج الفيلم، إلا أنه أحيانا ما يُبالغ في استخدامه.
ومن بداية المقال يضع حدا للتمييز بين المخرج الذين يضع ثقته في الصورة، والآخر الذي يثق في الواقع كما يرى إن أي أداة ابداعية قد تساند الواقع مثل استخدام الصوت، التكوين في العمق، المونتاج غير المرئي، تساهم بدورها في وضع قواعد محددة للشكل الذي يجب أن يكون عليه الفيلم. ورغم اعترافه بأن فن المونتاج هو الذي وهب الحياة للفيلم، إلا أنه كان قلقاً من أي شيء قد يُدعم خلق وتكوين معنى لا ينبع من الصور ذاتها وإنما من خلال تجاورها مدركاً أن أي تلاعب في الصورة عن طريق المونتاج الدلالي الذي تطور على يد المخرج الروسي سيرغي أيزنشتاين، او استخدام الاضاءة والديكورات الدرامية التي ميزت السينما التعبيرية، يقف حائلا أمام إطلاق عنان الإمكانيات الحقيقية لواقعية الفيلم.
ويرى ايضاً أن مرحلة دخول الصوت وكونه عنصر أساسي من الواقع قد عزز الفيلم، بعيدا عن تدميره كشكل فني.
ويفرق بازان بين حركتين مختلفتين في السينما الصامتة، يكمن الجوهر السينمائي في إحداهما في فن المونتاج والتكوينات الشكلية للصورة، وبالتالي لم تكن بحاجة لمساندة من عنصر الصوت. بينما الاخرى تخضع الصورة فيها للتقييم بما تكشفه عن الواقع وليس بما تضيفه إليه، وفيها يعتبر الصوت عنصر مساعد في الكشف عن مقومات الواقعية المفقودة في الحركة سالفة الذكر، بل ويعزز الصوت من قيمة الفيلم كفن بدلا من التنافس معه.
وأفضل الأمثلة على الحركة الأولى هو فيلم The Cabinet of Dr. Caligari – عيادة د. كاليجاري للمخرج روبرت فاين.
وفيه تظهر الحبكة والجو العام بشكل كامل من خلال الوسائل البصرية، والاستعانة بديكورات تجريدية، وماكياج درامي مفرط. وتتكشف خيوط الحبكة بأسلوب مدهش وفي بيئة مفتعلة، حتى حركة الممثلين تحاكي الزوايا الحادة لأشكال الديكورات.
وهنا بازان محق في قوله ان هذه الافلام تعتبر شكل فني خالص مستقل بذاته، فالحكاية يتم نقلها من خلال التفاعل المعقد بين الصورة، والاضاءة، والتكوين، والحركة. ولو كانت تقنية الصوت متاحة آنذاك وغمرت الصورة على نحو مفاجئ، لانطفأت الشاعرية المرئية بالاحتلال القاسي للواقعية. والواقع هنا ليس له مكان في عالم الهلاوس والأوهام، لأن الجمال يكمن في انفصالها التام عن العالم الواقعي المتماسك خارج حدود الشاشة.
ويجادل بازان ضد أي وسيلة تتلاعب بإدراك المشاهدين للمشهد، وامكانية بقاءه غامضا وقابليته للتأويلات المختلفة.
ويميل بشدة ضد تقنيات المونتاج المستخدمة في افلام ايزنشتاين مثل مقطع سلالم الأوديسا الشهير من فيلم (Battleship Potyomkin- المدرعة بوتمكين)، وتوظيفه للمونتاج لخلق إيحاء بأن السلالم لا نهاية لها، مع القطع المتبادل للقطات عربة طفل تهبط مسرعة على السلالم، ولقطات مقربة لوجوه مذعورة، وأشخاص ميتين. محطماً بذلك واقعية المكان الحقيقي، ولجوئه لاستخدام رموز، واستعارات، وتجاور اللقطات للحصول على استجابة معينة من المشاهد. وينجح المشهد في توصيل الرسالة والتلاعب بالمتفرج بشكل واضح.
وامتدح بشدة في كتابته أسلوب المخرج اريك فون ستروهايم، واصفاً فلسفته الإخراجية بأنها مثل أن تلقي نظرة متمعنة ومستمرة على العالم، وفي النهاية سينعكس العالم أمامك كالمرآة بكل قسوته وقبحه.
ويعبر عن تقديره للحركة الواقعية الإيطالية الجديدة على أنها نوع من الانسانية اولا، وأسلوب سينمائي ثانيا، وهذا واضح في مقاله النقدي عن فيلم (Umberto D- أومبرتو دي) للمخرج فيتوريو دي سيكا، وفيه يصف كيفية تقسيم مشهد استيقاظ الخادمة في الصباح إلى أجزاء صغيرة ومصورة بدون قطع مما أدى الى تحويل الحياة نفسها إلى مشهد سينمائي وشعر مرئي. يبدو أنه كان مأخوذاً بفكرة تصوير فيلم كامل عن رجل لا يحدث له شيئا لمدة تسعين دقيقة.
وبازان واضح جدا في أفكاره ومعتقداته، ولكنه احياناً يناقض نفسه بالامثلة التي يستشهد بها.
نراه ينتقي المخرج اف دبليو مورناو من بين جميع مخرجي التعبيرية الألمانية واصفا إياه بالمخرج الوحيد الذي اهتم بواقعية الفضاء الدرامي، وتجنب تقنيات المونتاج المفتعلة من أجل تصميم مواقع فريدة وحركة اصيلة.
ويبدو أنه تجنب تماما فيلم ( Faust- فاوست) الذي يعتمد تماماً على التلاعب بالمونتاج، والمكان من أجل خلق تأثيرات درامية. ونرى في المشاهد الأولى من الفيلم الجسد الهائل للشيطان، فاردا جناحيه مهددا طمأنينة مدينة هانئة، مرسلاً عليهم سحب من المرض والطاعون، ويتقاطع هذا دراميا مع صور المعاناة والدمار التي تكتسح شوارع المدينة.
هذا المشهد ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بواقعية المكان، بل اكتسب حدته من فن المونتاج الايحائي.
ويستشهد بازان بفيلم (Citizen Kane- المواطن كين) للمخرج أورسون ويلز كمثال توضيحي عن استبدال تقنيات المونتاج بأسلوب العمق في الإطار. استطاع ويلز من خلال استخدام التركيز العميق أن يعرض مشهد كامل في لقطة واحدة، مانحا الحرية للمشاهد أن يرى الصورة كاملة، وتفسير المشهد بشكل مستقل بعيدا عن المونتاج المقحم.
هناك بالطبع العديد من العناصر الواقعية في فيلم المواطن كين، ولكن المخرج لجأ لإغراق الفيلم بشدة في الرمزية والمونتاج المجازي ليحكي القصة، بل واستخدم ايضا التقنية التي تعد واقعية وهي التركيز العميق لخلق تأثيرات رمزية مثل وضع شخصية كين في مكان بعيد في الغرفة لتتضاءل أهميته ويبدو صغير.
هل من الممكن حقا أن يوجد فيلم يستحق ان يكون مثالاً لأفكار بازان؟
هو نفسه يعترض، ويؤكد على انه يكاد يكون من المستحيل إخراج فيلم بدون استخدام مونتاج على الإطلاق، أو استخدام عنصر ضغط الزمن، والتغيير في حركة الكاميرا فهي أمور لا مفر منها. وتوازي في التعقيد استحالة إخراج فيلم بدون اقحام رسالة من اي نوع فيه على المشاهد.
الفيلم – كيفما يتم تصويره سيظل دائما عمل فني. ولا يمكن التغاضي عن كونه وسيلة للتعبير عن مشاعر وآراء صانعه. يمكن أن يكون قابل للتماهي، او لا، او أن ينقل رسالته بشكل واضح، أو من خلال الاستعارة، ولكن تظل الرسالة موجودة في طياته. وتظل عملية صنع فيلم تعبث بفكرة الواقعية، طالما تم التقاطه وتصويره بأسلوب وبشكل مصطنع.
حتى فيلم أومبرتو دي الذي أشاد به بازان واعتبره واحد من افضل الافلام شجاعة وثورية في العامين الأخيرين، لتحطيمه أسس القواعد الدرامية. هو أيضا عرضة أن يكون وسيلة للتلاعب، رغم تخليه عن تقنيات وأدوات المونتاج الخادعة، إلا أنه يستخدم الصور للتلاعب بعواطف المشاهدين. والكلب الصغير في الفيلم خير مثال على ذلك. والفيلم يستحق الإشادة لعدم استغلال التعاطف مع شخصية أومبرتو دي نفسه. ولكن صورة الكلب الصغير البائس الذي يستحق الاحتضان، وهو جالس على الرصيف بقبعة بين أسنانه يتسول للحصول على المال، بالكاد تستحق الاشادة من بازان.
المثال الأسمى للفيلم الواقعي من وجهة نظر بازان، أن يكون بدون مونتاج واضح، وبدون حبكة، وبدون عناصر ايحائية أو مصطنعة، وبدون أي رسائل موجهة للجمهور لمساعدته على تفسير العمل.