أمين صالح يكتب: عين على السينما.. عين على النقد
الكاتب والناقد والمترجم والشاعر البحريني الكبير أمين صالح يكتب انطباعاته عن موقع “عين على السينما” بمناسبة مرور أكثر من عشر سنوات على تأسيس الموقع.
1
من يراقب المشهد الثقافي العربي، عن قرب أو عن بُعد، سوف يلاحظ، بلا عناء، تجاهل السينما كوسط ثقافي وفكري، إلا في حالات نادرة، غالباً ما تكون غير مؤثرة، واعتبارها وسطاً ترفيهياً بحتاً.
المثقف العربي، في غالبيته، يتقاسم مع المتفرج العربي، تلك النظرة الاستعلائية، الازدرائية، المهينة، إلى السينما بوصفها وسيلة للترفيه والتسلية وتبديد أوقات الفراغ، وبالتالي لا يشعر بحاجة إلى الاطلاع، أو حتى التعرّف بالمشاهدة، على التجارب العالمية في حقل السينما، وبقراءة ما يتصل بالسينما من نظريات وحوارات وتحليلات ووجهات نظر نقدية.
بالتالي لم يُسمح للسينما بأن تكون ضمن النسيج الثقافي، القائم على أشكال فنية متكرسة ومعترف بها، كالأدب والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي، فلا تجد السينما غير موضع ثانوي على هامش الاهتمام النقدي والإبداعي في الثقافة العربية.
2
في مناخ محبط ومثبط كهذا، يحكمه متلقٍ سلبي اعتاد على نمط محدّد من الأفلام تنتجها السينما التجارية السائدة، والمتحكمة في الذائقة والتوجّه وآلية المشاهدة، مع وجود مثقف متواطئ مع النظرة السلبية والقاصرة التي لا ترى في الفيلم غير المنحى الترفيهي، والذي لا يعتبر السينما وسطاً جاداً يتفاعل فيه الفكر والفلسفة والرؤى الجمالية، وتتداخل فيه الفنون على نحو خلاق وفعال..
في مناخ كهذا، يأتي الناقد أو الكاتب السينمائي، أو المترجم السينمائي، ليقدّم مادته، من تحليل وتعريف ونقد وترجمة، فلا يجد ذلك الاهتمام وتلك الجديّة في التعاطي مع مادته، سواء من قِبل محرّري الصفحات الفنية في المطبوعات والمواقع، أو من قِبل القراء الذين في غالبيتهم يهتمون بأخبار النجوم أكثر من التحليل النقدي (الذي يرون فيه شيئاً مضجراً وغير ضروري وزائداً عن الحاجة).
3
لا أحد ينكر أن مختلف المجلات والجرائد، منذ سنوات طويلة، اعتادت أن تخصص مساحة، غالباً ما تكون صغيرة ومحدودة، للكتابات في السينما. هذه الصفحات، يشرف عليها أحياناً ناقد سينمائي أو مهتم بالسينما، وفي معظم الأحيان، تكون تحت إشراف أحد المحررين الذين لديهم اهتمام عام بالسينما. وهذه الصفحات تكون عادةً حافلة بالأخبار السينمائية والعرض الانطباعي لفيلم ما (لا بد أن يكون ناجحاً جماهيرياً)، كما أنها تكون مكتظة بصور النجوم في أحجام تعادل مساحة المقالة.
ومن هذه الصفحات لا تخرج، كقارئ، بمعرفةٍ قيّمة أو فهمٍ لظاهرة معيّنة ومفهوم محدّد، أو بجدل يحرّك مخيلتك ويثير لديك الرغبة في الاكتشاف، أو بنقد يضيء لك ما خفي عليك، ويقدّم لك قراءة مغايرة وتأويلاً مختلفاً عن تأويلك، وينمّي وعيك ويوسّع أفق الإدراك لديك.
إنها صفحات عابرة لا تترك أثراً، بل في كثير من الأحيان تعزّز الإدراك الناقص بأن السينما ما هي إلا وسيلة للتسلية، وليست شكلاً فنياً يستحق الدراسة والتأمل والفهم كبقية الأشكال.
ما يؤكد هامشية ولا أهمية هذه الصفحات، بالنسبة لإدارة تحرير الجريدة أو المجلة، هو سرعة حجب أو إلغاء هذه الصفحات (ومن بعدها الصفحات الثقافية عموماً) كلما لجأت المطبوعة إلى التقشف واختزال صفحاتها لدواعي مالية، علماً بأن مثل هذا الإجراء التقشفي لا يمس الصفحات الرياضية.
4
وحدها المجلات الدورية أو الفصلية يمكن لها أن تنشر المقالات السينمائية الطويلة والجادة والرصينة، لكن أعدادها قليلة ولا تروي عطش الراغب في معرفة جوهر السينما ونظرياتها واتجاهاتها وأعلامها وعلاقاتها.. وهي معرفة تحتاج إلى مجلات متخصصة في السينما تعنى بشؤونها نقدياً ومعرفياً. مثل هذه المطبوعات، للأسف، نادرة جداً في البلاد العربية. هذه الندرة تعبّر بشكل واضح وصريح عن الاستهانة بقيمة ودور السينما كفعل ثقافي راق، وتعكس النظرة القاصرة، السائدة، التي لا ترى في الفيلم غير الفعل الترفيهي.
كنت شاباً، في أواخر الستينيات، من القرن الماضي، عندما صادفت بعض المجلات السينمائية المصرية، التي كان يحررها ويكتب فيها نقاد سينمائيون (صاروا من الأسماء البارزة في النقد السينمائي، ومارسوا تأثيراً كبيراً في الوسط السينمائي المصري). كانت كتابات جادة ورصينة ومنحازة إلى الحداثة السينمائية البارزة آنذاك. ومن خلال هذه الكتابات، التي كانت تعرّي بجرأة عيوب ونواقص السينما المصرية وتدعو إلى ضرورة توفر الوعي الفني والفكري، والحس الجمالي، تعرّفت شخصياً على اتجاهات ومفاهيم وأسماء مغايرة وثرية، وحرّضتني، كما الحال مع غيري من أبناء جيلي، إلى البحث والاطلاع والمشاهدة المتنوعة لأفلام عالمية لم تشهدها صالاتنا المزدحمة بالأفلام التجارية التقليدية. ليس هذا فحسب، بل دفعتني لخوض تجربة الدراسة السينمائية العملية في فرنسا، غير أن الظروف المادية حالت دون تحقيق ذلك الحلم (الذي يبدو أزلياً في الذهن).
لكن هذه التجربة الهامة والثرية، أعني المجلات المتخصصة، إضافة إلى نشرات أندية السينما في مصر، تعرضت إلى التوقف والانحسار. كذلك الحال مع المجلة السينمائية في سوريا. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن، لم نر سوى جهود قليلة في إنشاء مجلات سينمائية متخصصة، وهي بدورها تعرّضت للإجهاض قبل أن تثبت حضورها، وتفرض نفسها على الساحة الثقافية.
5
من خلال تجربتي في كتابة المقالة السينمائية في عدد من الصحف والمجلات، تجد نفسك مقيّداً بمساحة محدّدة، وبعدد كلمات معيّنة لا تستطيع أن تتعداها، وبالتالي لا بد من تكييف مقالاتك بحيث يُجاز نشرها. هذه مشكلة بسيطة يمكن التكيّف معها. لكن هناك شروطاً أخرى غير مُرضية، كضرورة أن تكون مقالاتك خفيفة، سهلة الفهم، مريحة للقارئ العادي، تستعرض أفلاماً رائجة جماهيرياً وليس أفلاماً غير تجارية، وبالغة التعقيد أو صعبة، حتى لا تكون مقالتك عسيرة الهضم.
6
عندما نأتي إلى المشهد النقدي العام، في منطقتنا العربية، نجد حالة من الانفصال أو الفجوة العميقة بين ما يُطرح من نقد للأفلام وصانعي تلك الأفلام، الذين عادةً لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يكترثون إلا إذا كان النقد إيجابياً و”بنّاءً”.
لدينا كتابات نقدية جادة وواعية ونافعة، تحاول جاهدةً أن تحرّك الواقع الراكد، لكن لدينا في المقابل سينما تقليدية بحاجة ملحّة إلى تثوير في لغتها وتقنياتها وموضوعاتها وعلاقتها بالجمهور.
لقد نشأت الحركات أو الموجات السينمائية العالمية نتيجة التلاقح الجدلي الطبيعي بين ما هو نظري/نقدي/ فكري، والتطبيق أو التحقيق العملي لتلك الرؤى. في الواقع السينمائي العربي لا نجد ذلك التفاعل الجدلي بين ما يطرحه النقد والانتاج السينمائي الذي، في مجمله، يستهين بالنقد ويزدريه ويعاديه.
تستطيع أن تمارس تأثيرك، أو على الأقل تحقّق التفاعل، عندما يصغي إليك الآخر. في سينمات العالم كان هناك حوار، تفاعل، علاقة جدلية، بين النقد والفعل الإبداعي، أدى إلى التنامي والتطوّر والتنوّع والتعدّد، في حين لا نجد مثل هذا الحوار في واقعنا السينمائي، إلا في حالات نادرة.
بالمقارنة مع النقد في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، نتذكر تلك الصراعات الفنية والفكرية بين المحافظين التقليديين والمنحازين إلى الحداثة، والتفاعل المؤثر – إيجابياً وسلبياً – بين النقاد والسينمائيين. لقد كان النقد آنذاك حاضراً بقوة، وعلى نحو فعال.
7
ذات مرّة، أثناء بحثي عن المواقع السينمائية في جوجل، وقع نظري على موقع “عين على السينما”، الذي يشرف عليه أمير العمري، الناقد المصري المعروف والبارز. مع تصفحي للمواد المنشورة، شعرت بأني وجدت ضالتي في بحثي عن موقع سينمائي متخصص، يهتم بنشر الموضوعات الجادة، ويتابع ما هو مستجد في الساحة السينمائية العالمية، ويقدم مواده عبر إخراج أنيق وجميل ومريح. لقد كان اكتشافاً مدهشاً بالنسبة لي، وسرعان ما رغبت في المساهمة فيه بترجماتي ومقالاتي، وقد وجدت كل الترحيب والتشجيع من الأستاذ أمير العمري.
في هذا الموقع وجدت ما لم أجده في الأماكن الأخرى التي ساهمتُ بالكتابة فيها، حيث حريتك في اختيار الموضوع والمساحة، والمرونة في تقبّل أرائك ونشر ما تشاء، واحترام ذكاء الفارئ، وقبل كل شيء، الوعي بقيمة وأهمية السينما.
“عين على السينما” موقع يحب السينما، ويتوجه إلى قارئ يحب السينما.
لهذا عندما نتصفح، إليكترونياً، مواد العدد، نجد تغطية بانورامية لمعظم ما يتصل بالسينما كمعرفة نظرية: أخبار وتحقيقات، متابعات لما ينشر عن الفعاليات السينمائية في الصحافة الأجنبية والعربية، نقد أفلام، تغطية للمهرجانات العالمية، دراسات، شهادات، مقابلات، ومواد أخرى مهمة ومفيدة.
المادة التي أشعر أنها ضرورية لكن لم توف حقها، في الموقع، هي المقابلات والحوارات مع السينمائيين العرب، خصوصاً المصريين، نظراُ لهيمنة السينما المصرية على السوق العربية. باستثناء اللقاءات مع السينمائيين المغاربة، لا نجد إلا القليل جداً من الحوارات. إن أهميتها وقيمتها تكمن في أنها توضح وتكشف، ومن خلالها يعبّر السينمائي عن رؤيته وفهمه، وقد يفسّر جوانب من عمله.
من الضروري أن تكون اللقاءات جادة، رصينة، واعية، كاشفة، عميقة، وليس على شاكلة المقابلات المستهلكة التي نجدها عادةً في المجلات والجرائد والتي يقوم بها صحفيون أو محررون كسالى، يطرحون أسئلة بليدة وتافهة فلا يحصلون إلا على إجابات بليدة وتافهة، لا تشبع ولا تغني، ولا يمكن الاستشهاد بها في أي دراسة عن التمثيل أو الإخراج.
8
أخيراً، هل لموقع “عين على السينما” تأثير على المشهد النقدي؟
يصعب الجزم بذلك، فالموقع لا يعبّر عن رأي جماعة ذات رؤى وأفكار وأهداف متجانسة إلى حدِ ما.. كما الحال مع مجلة مثل “كاييه دو سينما” (دفاتر السينما) الفرنسية، ذات التأثير الواسع في أجيال من النقاد.
ربما يمارس التأثير، بشكل فردي، نقاد يساهمون بالكتابة في الموقع، ولهم أسلوب وفكر متميزيْن. واعتقد أن الموقع يضم كتّاباً أكفاء، قادرين على تأدية دور مهم ومؤثر. والموقع قادر على تحريك وتفعيل الساحة النقدية مع استمرارية تواجده وحضوره