“أمروم” فيلم فاتح أكين في مهرجان كان: وعي طفل مع نهاية النازية

أمير العمري- كان
من أجمل وأعذب الأفلام التي شاهدتها في دورة مهرجان كان الـ78، فيلم “أمروم” Amrum للمخرج الألماني (من أصل تركي) فاتح أكين (51 سنة) صاحب الأفلام التي أثارت الكثير من الاهتمام والجدل من قبل مثل “مطبخ الروح” (2009)، و”قطع الرؤوس” (2014)، و”في الاختفاء” (2017).
وأنا أستخدم كلمة “أجمل” لأن “الجمال” هنا، في هذا الفيلم، قيمة في حد ذاته، بعيدا عن أي مضمون أو معنى أو محاولة للتفلسف، فهو ليس فيلم “رؤية” فلسفية معقدة، فمخرجه الذي كتب له السيناريو بالاشتراك مع ربيبه ومعلمه وأستاذه، المخرج والممثل الألماني المخضرم، هارك بوم (86 سنة)، أراد أن يروي قصة تستند على ذكريات صديقه الكبير، يسترجع من خلالها سنوات طفولته الأولى في جزيرة “أمروم” الألمانية الصغيرة الواقعة في بحر الشمال بالقرب من الساحل، والتي يقطنها قليل من السكان، الذين يعيشون على الصيد وزراعة البطاطس. ولكن القصة تدور في فترة تاريخية ذات أهمية استثنائية.
نحن في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، قبيل استسلام ألمانيا رسميا.. أي قبل السقوط النهائي لـ”الرايخ الثالث” الذي تعهد هتلر بأنه سيعيش ألف عام. والشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية طفل في الثانية عشرة من عمره يدعى “نانينغ”، يقوم بدوره ببراعة كبيرة الممثل الجديد “جاسبار أولي بيلبريك” في أداء مدهش كثيرا، سيكون له شأن كبير في المستقبل.

نانينغ يعيش مع أمه “هيللي” وخالته “إينا” وأشقائه الصغار الثلاثة. أمه حامل في طفل رابع وتنتظر أن تصع مولودها في أي لحظة. ومنزل الأسرة هو الوحيد في البلدة الذي يرفع علم النازية، فالأسرة متزمتة في ولائها للفوهرر، بل إن والد نانينغ عضو في الحزب النازي وضابط ذهب إلى الجبهة الشرقية ثم وقع في أسر القوات السوفيتية. أما نانينغ فهو عضو في شبيبة هتلر.. يرتدي ملابس الشبيبة التي تشبه ملابس “الكشافة” لكنه لا يبدو وقد ورث أي شيء يتعلق بالنازية في سلوكه مع أقرانه وخصوصا صديق المقرب “هيرمان” هو سلوك طبيعي تماما، وهو يقرضه رواية “موبي ديك، ثم يتناقش الاثنان حول مغزاها.
هل يمكن القول إن نانينغ يدرك الوضع الذي وجد نشا فيه، وهل هو مسؤول عما أصبحت عليه أسرته من ولاء للجانب الخاسر في التاريخ، بل للجانب الشرير أيضا؟ هل يمكن أن يرث الطفل بالضرورة هذا الشر؟، أم أن من الممكن أن تتفتح عيناه على حقائق جديدة لم يكن يعرفها فيختار طريقا آخر في الحياة؟
هذا هو السؤال الأخلاقي الذي يتوقف عنده الفيلم من خلال شخصية نانينغ وكيف يتعامل مع جيرانه وأقرانه، مع عائلته، ومع شخصيات عديدة في البلدة، كيف يتفاعل مع الأحداث التي تقع وربما لا تشعر بها البلدة والجزيرة المعزولة كما يشعر العالم، لكن الأنباء بدأت تتسرب ولو على استحياء.
نانينغ يعمل بجد واجتهاد وحماس في مزرعة البطاطس لصاحبتها السيدة “تيسا” (تقوم بدورها الممثلة الألمانية ديان كروجر)، ولكن تيسا تختلف تماما عن والدته، فهي لا تخفي عدائها لهتلر الذي جعل الحياة أصعب عما كانت كثيرا في الجزيرة.
يأتي إلى البلدة ذات يوم عربة تجرها الخيول على متنها مجموعة من الألمان الفارين من القطاع الشرقي هربا في الوقوع في قبضة الروس.. وهو ما تفهم منه تيسا أن الحرب أوشكت نهايتها. وعندما يسأل هنينغ والدته عما إذا كان هذا صحيحا وان والده يمكن بالتالي أن يعود قريبا، تنهره ثم تأخذ في استجوابه في قسوة شديدة مما يدفع شقيقتها “إينا” إلى نهرها، ولكن دون جدوى، فهي تنج أخيرا في انتزاع ما يوحي بأن تيسا هي التي زرعت هذه الفكرة في رأسه، فتقوم بالإبلاغ عنها لمسؤول الحزب. فهي لا تريد أن ترى الحقيقة، حقيقة النهاية التي لم يبق عليها الكثير.
عندما تأتي الأنباء عبر بيان يبثه الراديو عن “وفاة” هتلر (لا عن انتحاره) تصاب والدة هالنينغ بصدمة عصبية ونفسية شديدة، ثم تنهار قبيل أن تطاردها على الفور آلام الوضع، وبعد أن تضع مولودها، تعزف تماما عن الطعام والشراب، وتعزل نفسها داخل غرفتها التي تسدل عليها الستائر، لا تريد أن ترى الضوء، فالعالم بعد رحيل هتلر لم يعد يستحق العيش. لكنها لن تقتل أبناءها كما فعلت ماجدا جوبلز..

عندما يحاول هانينغ الذي يحب أمه كثيرا، أن يقنعها بضرورة أن تأكل شيئا، تصر أنها لن تأكل سوى الخبز الأبيض بالزبد والعسل. ولكن هذه الأشياء أصبحت عملة نادرة الآن. بل لقد سبق أن رأينا كيف واجهت الأم محنة بالغة عندما حاولت شراء قطعة لحم من دكان القصاب، فهو ليرفض قبول العملة الألمانية التي فقدت قيمتها الآن، بل يريد “دولارات” السيد الأمريكي القادم. وعندما تضطر الى سرقة قطعة لخم والفرار بها، تحدث فضيحة، ويطاردها الرجل في الشارع الى أن يستعيد قطعة اللحم. وهو مشهد يكثف حالة الخراب الاقتصادي في حياة سكان تلك الجزيرة.
سيبذل هانينغ كل جهده لكي يعثر لها على الخبر والزبد والعسل، ولو أدى الأمر إلى أن يعمل لدى صياد يساعده في اصطياد فقمة كبيرة أو صيد الأرانب البرية حتى يحصل على قروش قليلة، ولكنه سيجد صعوبة للعودة للعمل في مزرعة تيسا التي تطرده وتتهمه بالوشاية، ويعاني هو من الأولاد في البلدة الذين ينكلون به ويسخرون منه ويعتبرونه من الغرباء القادمين من خارج أمروم، فهم أصلا من هامبورج لكنهم لجأوا الى الجزيرة طلبا للأمان.

سيستمر الفيلم مع هانينغ الذي يفتش في أوراق وصور والده والعائلة ليعيد اكتشاف الحقيقة عن أسرته، ولابد أن أسئلة كثيرة ستدور في ذهن هذا الصبي الصغير: كيف ولماذا كان الاختيار، اختيار الاندماج في هذا النظام الذي ثبت الآن أنه نظام هش، ضعيف، لم يتسبب سوى في الدمار والخراب وجلب العار لمن آمنا به.
الفيلم عبارة عن بانوراما بصرية رائعة، تنسج خيوطها في هدوء وتأمل، وكاميرا رصينة، ثابتة، تحيط بالطبيعة الجميلة على الشاطيء، تتعامل بنعومة كبيرة مع الشخصيات، وكل ما نراه يأتينا من عين نانينغ الصغير، ومن رؤيته التيث تخلو من الإنحيازات. فهذا طفل “طبيعي” ليس من الممكن أن نحكم عليه بأنه لابد أن يرث خطايا عائلته أو يحما أوزارها.
لا أظن أن هدف الفيلم هو تبرئة جيل الأبناء من خطايا النازية، بل هو فقط يريد أن يصور كيف يمكن للمرء حتى وهو في بدايات حياته وقبل أن ينضح لكي يدرك طبيعة ما يدور من حوله، أن يجد نفسه في قلب صراع لم يختره، ولا شأن له به، صراع لا يفهمه، فهو مثلا لا يفهم لماذا تتخذ منه تيسا هذا الموقف القاسي، وسوف يخبرها في النهاية أنه لم يكن قد وشى بها بل هو فقط سأل امه عما عن كان والده سيعود حيث أن الحرب توشك أن تضع أوزارها.
هناك شخصيات أخرى كثيرة تثري الفيلم، مثل البقال وهو جد نانينغ، الذي بدوره يرفض أن يمنحه بعض السكر إلا إذا ردد وراءه النشيد النازي.. والسكر بالطبع شحيح جدا، وهو مطلوب لكي يمكن أن يصبح غذاء بديلا للنحل حتى تتمكن حارسة النحل من توليد بعض العسل، بعد أن جفت القمينة تماما.
كلها تفاصيل مصورة، في نعومة وبساطة حب، تعكس القلب النقي لهانينغ، وكيف تقوى عزيمته ساعة بعد أخرى وهو يصر على أن يأتي لأمه بالأشياء الثلاثة الذين طلبتهم أو تحلم بهم.. ذلك الحلم المستحيل. الذي سيصبح ممكنا فقط بفضل الجهد والعقل، أي التفكير في كيفية تحويل السكر الى عسل، واللجوء إلى الصيدلي للحصول على كمية ضئيلة من الدقيق الذي يستخدمه كدواء بديل، لكي يصنع له الخباز منه رغيفا صغيرا للغاية. وهكذا.
فاتح أكين، يصنع من جزيرة “أمروم” عالما خاصا جدا، هو عالم هانينغ، في انفصاله عن ألمانيا المدمرة في الجهة الأخرى، واتصاله في الوقت نفسه، بما سيأتي وبما سينتج ويتم الكشف عنه. إنه فيلم عن تطور شخصية طفل يولد مع هزيمة ألمانيا، كنموذج لجيل لم يختر هتلر ولم يقف ضده، لم يحبه ولم يعاديه، لأنه باختصار لم يعرفه أصلا!
كان مما أدهشني أن يستبعد تييري فريمو المدير الفني لمهرجان كان، هذا الفيلم ويبرمجه خارج المسابقة الرسمية، فالمؤكد أن مستواه الفني أفضل من كثير من أفلام المسابقة التي شغلت النقاد طوال 12 يوما، سواء بداع، أو من دون داع.. في أكثر الأحوال!