ألفريد هيتشكوك بين دعم تروفو وتردد بازان

في آخِر ظهور تلفزيوني للمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، قبل وفاته بستة أشهر، في برنامج من تقديم برنارد بيفوت، أعلن عن إصدار النسخة النهائية من كتابه عن المخرج الفريد هيتشكوك. ففي عام 1962، توجه تروفو إلى نيويورك بهدف الترويج لفيلمه “جول وجيم”، وعندما جلس مع عدد من أهم نقّاد الولايات المتحدة، قام بذكر اسم هيتشكوك. وعندها، لاحظ أن أعمال المُخرج الإنجليزي، رغم شهرته الواسعة، لا يتم أخذها على محمل الجد هناك. فالبريطانيون يقللون من شأنه لأنه نجح في أمريكا، والأمريكيون يقللون من الفن الذي يقدمه. فقرر تروفو أن يُعالج هذا الأمر بنفسه، وقام بكتابة رسالة إلى هتشكوك يعرض عليه إصدار كتاب يشمل عددا كبيرا من المقابلات يتناقشان من خلالها حول أفلام “سيّد التشويق”، في محاولة لتغطية مسيرته المهنية كاملة.   وقد أنهى تروفو رسالته بكلمات عاطفية قوية، قائلاً: لو حدث فجأة وتخلّت السينما عن الموسيقى التصويرية، وعاد العمل في الأفلام الصامتة مجدداً، سنجد حينها عددا كبيرا من المخرجين وقد أصبحوا عاطلين عن العمل. لكن، ومن بين الناجين، سنجد بكل تأكيد الفريد هيتشكوك، وحينها فقط سيدرك الجميع أخيراً انه أعظم مُخرج في العالم.   تلقى تروفو ردا من هيتشكوك جاء فيه: عزيزي ترويفو، رسالتك جعلت الدموع تطفر من عيني. كم أنا ممتتن لاستلام هكذا تكريم منك. كانت هذه مقدمة للكتابات الكثيفة لتروفو عن أعمال هيتشكوك في مجلة “كراسات السينما” التي أنشأها الناقد الفرنسي السينمائي الشهير أندريه بازان.  وقام تروفو بتقديم كتاب “سينما القسوة” لبازان وهو كتاب يتناول عددا من المقالات النقدية التحليلية المتعلقة بستة سينمائيين تجمعهم نقاط مشتركة هي أن كلاً منهم يمتلك أسلوباً متميزاً ووجهة نظر انقلابية، مارسوا من خلالها تأثيرهم على السينما العالمية. وبينما لا يُعتبر بازان من المتشددين في انحيازهم لهيتشكوك، إلا أن تروفو تعمّد عرض المقالات التي تناولت أفلامه مُرتبة حسب وقت صدورها، مُظهراً “نوعاً من المقاومة التي تنهار بصورة تدريجية، لكن دون أن يفقد شيئاً من تشدده”. بينما يجزم تروفو بأن الوفاة المبكرة لبازان حرمته من مشاهدة أفلام مثل فيرتيجو وسايكو ومارني، والتي كان من شأنها أن تحوّل موقفه من هيتشكوك بصورة أكثر إيجابية.   

 أندريه بازان  يطرح بازان سؤالاً كبيراً في بداية تناوله لهذا الأمر: هل يجب الاعتقاد بأهميّة هيتشكوك؟ والذي يصل فيه إلى نتيجة واحدة حول أداء هيتشكوك الإخراجي، فهو يعتبره نجح ببراعة بتقديم أعمال كثيفة، متميزة، وحافلة بغموض حقيقي وبشاعرية مؤثرة، لكن الجانب التقني لم يكن على نفس هذه السوية. ثم يسرد كيف تكاثرت الانتقالات المعقدة في أفلامه، وكيف ازدادت بهلوانيةً من فيلم إلى آخر. فيردّ عليه المعجبون بهيتشكوك بأنه يريد أن ينفي الفكاهة، النابعة، بقصد، وتحديداً، من الفظاظة في الأسلوب المستخدم من قبل رجل على درجة عالية من المهارة. وهو الأمر الذي يعترف به. رغم أنه يرى في حبّ هيتشكوك للظهور لبرهة قصيرة في أفلامه صرخة للمتعة الحقيقية ليس فيها أي خداع، وأنها أكثر من تعويذة لمخرج، بل انها لمسة سخرية تؤثر في كامل العمل.   يجب القول أن بازان اعتبر هيتشكوك رائداً لنهضة السينما الإنجليزيّة في عصره واعتبر انتقاله لهوليوود، بلا شك، الخسارة الأكثر فداحة للسينما في بلاده، والتي شهدت نهضتها تراجعاً بعد رحيله. إلا أنه وجد ان اعماله في هوليوود في الفترة الممتدة بين عامي 1941 – 1950 لم تقدّم شيئاً أساسياً إلى الإخراج السينمائي، رغم تحوّله للإحتفاء بالبراعة التقنية الكبيرة وراء أعماله. وهذا ما كان يختلف عليه طيلة الوقت مع أصدقائه الذين يعتبرون هيتشكوك واحداً من أعمدة الطليعة السينمائية المعاصرة، وهو يجد أنّ هذا لقب لا خلاف عليه، إلا أن هيتشكوك قد خدعهم على حد قوله، واستطاع اخراج أعمال سطحية دون مبرر. بل إنه يصف ما كسبته هوليوود بقدوم “السمين ذو المظهر الفظ” قد خسره هيتشكوك نفسه، من خلال وضعه ضمن إطار معين من قبل المنتجين، مع سيناريوهات تتفق وأسلوبه. أما عند ظهور فيلم “النافذة الخلفية”، فقد أشاد به بازان كثيراً واصفاً إياه بالعمل الأكثر أستاذيّة لهيتشكوك: “لقد تحوّل إلى إمبراطور الأعمال البوليسية النفسية والإثارة الذهنية والترقب” وهو اللقب الذي لم ينازعه عليه أحد.  لقد كان بازان ناقداً قاسياً، وكانت كتاباته تسبب له العداوة الشخصيّة مع صانعي أفلام الذين لم يحتملوا النقد. فكان يأخذ النقد كجانب لابد منه لقراءة الأعمال التي خرجت من طوع مُخرجها، متجاهلاً “نوايا” صانع الفيلم لإنها لا معنى لها إلا في بعض الإيضاحات البسيطة التي يمكن فهمها من خلال لقاءاته، لكنها لا تُغني عن النقد، وقد تكون في أحيان مكملة له.   أمّا في نهاية ما وصل إليه الجدال الدائم حول هيتشكوك، بدا أن بازان قد بدأ بأخذ صورة أكثر إشراقاً عن الرجل، ظهر ذلك في تعليقه على كتاب “هيتشكوك ضد هيتشكوك” النقدي، حيث أوضح أنه لا يحب الرسالة التي يروّج لها المتحمسون لهيتشكوك بأن أعماله تمتد إلى أبعد من أفلام بوليسية وأن لها رسائل عميقة أُخرى كون هيتشكوك نفسه ينفي هذه السمة عن أعماله، لكنه يعتبره بارعاً في إظهاره إنسجاماً بين الدراما والكوميديا، وأن هذه هي “طريقته” في صنع الأفلام. كما أن اضطراره للتخلي عن الدعابة الناضجة، واتجاهه للدعابة التجارية، من أجل إرضاء الانتاج الأمريكي، لم يمثل بالنسبة إليه مشكلة كبيرة.   لدى وصوله من انجلترا، شاهد هيتشكوك مجموعة من التقنيين ينتظمون في صف عند مدخل ستوديوهات شركة وارنر أمام جهاز إدخال البطاقات، فتساءل بقلق عما إذا كانت السينما لا تزال فرعاً من الفنون الجميلة. وهذا عزز إيمان بازان بأن أعماله الإنجليزية اكثر “هيتشكوكيّة” من أعماله في امريكا. كان ذلك حتى قرأ كتاب “هيتشكوك” بقلم إيريك رومر وكلود شاربول، الذي كان نقطة تحول كبيرة وأخيرة في نقد بازان لهيتشكوك، فقد جعلاه يرى “ما علي أن أُعجب به، وكانا على حق”. 

Visited 69 times, 1 visit(s) today