أكيرا كوروساوا.. الساموراي الناجي
على العكس من سائر الأطفال أتى إلى الدنيا صامتًا لا يبكى فيما انعقدت يداه فوق بعضهما، هكذا ولد “أكيرا كوروساوا” فى الثالث والعشرين من مارس/ آذار من العام 1910 م فى العاصمة اليابانية طوكيو، لعائلة يعود نسبها إلى محاربي ساموراي قدامى من إقليم “هونشو” الذي يقع في شمال اليابان.
نشأ كوروساوا في تلك الأسرة المكونة من أب وأم وخمسة أبناء بخلاف أكيرا – ولدين وثلاثة بنات – وكان أخيه الأكبر “هيجو” صاحب التأثير الأكبر على أكيرا سواء في فترة طفولته أو لاحقاً في فترة شبابه، كان “هيجو” يكبره بأربعة أعوام، وكان متفوق دراسياً وموهوب بالفطرة، لكنه لم يكمل تعليمه لينفصل بعدها عن الأسرة ويحيا مستقلاً عنهم، كان هيجو بوابة أكيرا لعالم السينما، حيث كان يعمل كراوي للأفلام الصامتة في دور العرض السينمائية، تلك الوظيفة التي شاعت في بدايات القرن العشرين لكنها انزوت مع ظهور السينما الناطقة، كان “هيجو” ممن تأثروا بظهور الصوت على شريط السينما ونتيجة لذلك أصبح بلا عاطل بلا عمل>
وفي يوليو من العام 1933 مات “هيجو” منتحراً وهو في سن السابعة والعشرين، تلك الواقعة التي تركت أثراً مريراً في نفس أكيرا وكان لا يحب أن يشير إليها، كما ذكر في مذاكراته التي صدرت لاحقا تحت اسم “ما يشبه السيرة الذاتية”، بأنها “قصة لا أريد أن أحكيها”.
مخرج بالصدفة
فى السادسة والعشرين من عمره قرر كوروساوا الدخول في عالم السينما، عندما قرأ إعلاناً في الجريدة عن حاجة شركة “بي. سي. إل” للإنتاج السينمائي لمساعدي إخراج جدد للعمل في الشركة، تلك الشركة التي سيصبح اسمها فيما بعد “توهو” والتي ستنتج لاحقاً أغلب أعمال كوروساوا، وبعد العديد من الاختبارات التحريرية والشفهية، والتي نجح كوروساوا فى اجتيازها جميعًا تم تعينه كمساعد مخرج وهناك التقى أستاذه ومعلمه المخرج العظيم ” كاجيرو ياماموتو “.
كانت نصيحة ياماموتو الأولى لـ كوروساوا هي “إذا أردت أن تصبح مخرجًا، تعلم أولًا كتابة السيناريو”
وكانت تلك نقطة تفرد وانطلاق كوروساوا الذي برع في كتابة السيناريو بجانب الإخراج، كتب كوروساوا حوالى خمسة وسبعين سيناريو سينمائي بدأها بفيلم “المُهر” ل كاجيرو ياماموتو، وأيضاً كتب وشارك فى كتابة سيناريوهات كل الأفلام التي أخرجها والتي بلغت الثلاثين فيلماً سينمائياً.
وكما ذكر كوروساوا فى مذكراته “عرق الضفدع: ما يشبه السيرة الذاتية” أنه لاشئ فى العالم يمكن أن يكشف المبدع مثل ابداعاته نفسها، لذا فمن هذا المدخل فقط يمكن أن نقرأ صاحب الثلاثين شريطاً سينمائياً.
وبالنظر لمسيرة كوروساوا السينمائية الطويلة والتي تخطت الخمسين عاماً، يمكننا أن نقسم انتاجه الإبداعي لأكثر من مرحلة زمنية؛ شهد بعضها نجاحاً ساحقاً، بينما شهدت مراحل أخرى خفوتاً وتعثراً لمسيرة مخرج استثنائي.
مرحلة البدايات (1943-1950):
فى تلك الفترة أنجز كوروساوا حوالي العشرة أفلام بداية من فيلم ” سانشيرو سوجاتا ” في عام 1943، مروراً بأفلام مثل “يوم أحد رائع” و”لا أسف على شبابنا” وفيلم “الكلب المسعور” نهاية بفيلم ” الفضيحة”.
وتعتبر أفلام تلك الفترة متوسطة الجودة، وتحمل سمات أفلام البدايات، باستثناء الفيلم الرائع “الملاك المخمور” والذي كان بداية تعاونه الأبرز مع الممثل العظيم “توشيرو ميفوني” ذلك المشوار الماتع والذي امتد حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين، كما برز أيضاً في أفلام تلك الفترة الممثل “تاكاشي شيمورا” صاحب النصيب الأكبر في المشاركة في أعمال كوروساوا برصيد واحد وعشرين فيلماً سينمائياً.
وغلب على أفلام كوروساوا في تلك الفنرة الطابع الدعائي، تزامناً مع دخول اليابان الحرب العالمية الثانية، وكانت الأفلام تتغنى بالروح اليابانية والشجاعة ومن أبرز الأفلام التي عالجها كوروساوا بتلك الطريقة فيلم “الأحلى دائمًا”، الذي يعتبره كوروساوا من الأفلام المحببة لقلبه بالرغم من دعائيته الواضحة، وربما لأنه يحمل له الذكرى الأكثر جمالاً بالنسبة له؛ حيث تعرف من خلال تصويره الفيلم على زوجته “يوكو ياجوتشي”.
مرحلة الشهرة العالمية (1950-1965)
وفيها أنجز كوروساوا أعظم وأهم أفلامه التى بدأها برائعته “راشومون” ذلك الفيلم الذي كان بمثابة انطلاقة للسينما اليابانية نحو العالمية، ونال عنه كوروساوا أولى جوائزه العالمية وهي جائزة الأسد الذهبى من مهرجان فينسيا الدولى عام 1951.
وقد أحدث الفيلم ضجة كبيرة على مستوى العالم من حيث تناوله لفكرة الحقيقة وتأثير الذاتية عند سرد وقائع من الذاكرة، وامتد تأثير الفيلم لدرجة أنه تم افتباس مصطلح “تأثير راشومون” في علم النفس من اسم وأحداث الفيلم، كما اتجه كوروساوا في تلك الفترة للاقتباس من العديد من الأعمال الإبداعية العالمية؛ كاقتباسه لرواية “الأبله” لـ فيدور ديستويفسكي في فيلم يحمل نفس الاسم، وكذلك اقتباسه لمسرحية “ماكبث” لـ وليام شيكسبير في فيلمه “عرش الدماء”.
واستطاع كوروساوا خلال تلك الفترة تثبيت أقدامه في السينما العالمية من خلال العديد من الأفلام ذلئعة الصيت مثل “الساموراى السبعة” والذي اقتبسته السينما الأمريكية فيما بعد في فيلم “العظماء السبعة”، وفيلم “أيكيرو” المقتبس أيضاً عن رواية “موت إيفان إيليتش” لـ ليو تولوستوي وفيلم “يوجيمبو” والذي كان مثار جدل كبير ذلك عندما أعاد المخرج الإيطالي “سيرجيو ليون” انتاجه في فيلم من نوعية “السباغيتي ويسترن” تحت اسم “حفنة من الدولارات” بطولة النجم الأمريكي “كلينت إيستوود” دون الإشارة إلى صاحب النص الأصلي أكيرا كوروساوا، مما أُعتبر وقتها سرقة إبداعية ووصل الأمر لساحات المحاكم.
وبنهاية تلك الفترة بدا نجم كوروساوا في الخفوت، خصوصاً مع ظهور الموجة اليابانية الجديدة؛ والتي ظهرت في أعقاب الموجة الفرنسية الجديدة وتأثرت بها، وبرزت أسماء أخرى من المخرجين اليابانيين من أمثال كون إيشيكاوا، ناجيزا أوشيما، ماساكي كوباياشي، وشوهي إمامورا، كما شهدت تلك الفترة أيضاً القطيعة مع النجم “توشيرو ميفوني” عقب انتهاء آخر فيلم جمعهما معاً “الذقن الحمراء”, لتتهي بذلك مسيرة صاخبة ولامعة في حياة مخرج فذ وتبدأ بعدها أقسى فترته الحياتية.
الفترة الصعبة (1965-1985)
عانى كوروساوا فى تلك الفترة من مشاكل إنتاجية وذلك بعد احجام شركات الإنتاج عن تمويل أفلامه بحجة أنها لم تعد مطلوبة، مما حدا به لتأسيس شركة انتاج خاصة تحت اسم “الفرسان الأربعة” بالشراكة مع ثلاثة من زملائه هم: كيوسوكي كينوشيتا وماساكي كوباياتشي وكون إيشيكاوا، كان فيلمه التالي ” دودسكادن” والذي يعتبر أول أفلامه بالألوان الطبيعية، أول انتاجات الشركة، عانا الفيلم من الاخفاق وفشل في جذب الجمهور بالرغم من حصوله على رضا بعض الجمهور، بجانب ترشحه لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي، ذلك الفشل الذي أدى إلى حل الشركة ودخول كوروساوا في حالة من الاكتئاب الشديد قرر على أثرها الانتحار بقطع شرايين يده ولكن لحسن الحظ تم انقاذه، ليدخل بعدها بسنوات تجربة أخرى مهمة في حياته السينمائية.
فقد دعته شركة “موسفيلم” السوفيتية لانتاج فيلم سوفيتي يحكي قصة أحد الصياديين المحليين في الاتحاد السوفيتي، كان من المقرر أن يكون “نوشيرو ميفوني” بطلاً للفيلم، لكن المفاوضات معه لم تكلل بالنجاح، خاض كوروساوا تجربة الإخراج خارج حدود اليابان للمرة الأولى في ذلك الفيلم “دورسو أوزالا” ونجح في حصد جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عن هذا الفيلم، بعدها بخمس سنوات تقريباً عاد مرة أخرى لأفلام الساموراي التي كانت سبباً في شهرته، من خلال فيلم “كاجيموشا/ ظل المحارب” والذي عرض في العام 1980 واستطاع أن يقتنص جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي.
كان هذا الفيلم بمثابة بروفة إعداد لواحد من أهم أفلامه السينمائية، لكن مشروعه القادم عانى من مشاكل التمويل في البداية، حتى استطاع تلامذته من مخرجي “النيو هوليوود” من أمثال جورج لوكاس وستيفين سبيلبرج من اقناع المنتج الفرنسي الشهير ” سيرج سلبرمان” بتوفير التمويل اللازم للفيلم، والذى رصد له ميزانية ضخمة تقدر ب 11 مليون دولار كأضخم إنتاج يابانى فى حينه، ليقف بعدها كوروساوا وهو في سن الثالثة والسبعين، يعاني من فقد البصر لاحدى عينيه ويعطي شارة البدء لأحد أعظم الانتاجات السينمائية في التاريخ، فيلم “فوضى” والمقتبس عن مسرحية “الملك لير” لـ ويليام شيكسبير، ذلك العمل الملحمي والذي يعتبره البعض أحد أفضل أفلام كوروساوا، والذي أعاده مرة أخرى للواجهة ليثبت للعالم أجمع أنه يستطيع انجاز أفلام لا تقل عظمة عن أفلامه السابقة، واستطاع الفيلم أن يحصد جائزة أفضل فيلم أجنبي ضمن جوائز البافتا البريطانية.
المرحلة الأخيرة (1985-1993)
وتعتبر هي الفترة الأفقر من الناحية الفنية في مسيرة كوروساوا كمخرج، وفيها أنجز ثلاثة أفلام فقط و يعد فيلم “أحلام” أبرزها، في تلك الفترة أيضاً كرمته الأكاديمة الأمريكية بمنحه جائزة الأوسكار الشرفية عام 1990، ليقف كوروساوا على خشبة المسرح ليتسلم الجائزة من تلميذيه ستيفين سبيلبيرج وجورج لوكاس ويقول مقولته الشهيرة وبعد مسيرة حافلة: “أشعر بالقلق قليلاً، لأني أحس بأني لم أفهم السينما بعد”.
تكوين الحركة والكادر عند كوروساوا
إذا كانت الحركة من العناصر المهمة لأى مخرج فهى عند كوروساوا أساس تكوين الكادر السينمائى كوروساوا من خلال مشواره الطويل الذى امتد ل نصف قرن شهد فيها صعودًا وهبوطًا، اعتمد تقنيات سنيمائية محددة أهمها الحركة داخل الكادر سواء حركة الكاميرا أو حركة الممثلين أو حتى حركة العوامل المناخية المحيطة.
وإذا كنت من هواة السنيما ستدرك للوهلة الأولى أن كادر كوروساوا مختلف، كادر يلتصق بالذاكرة أما إن كنت من عشاق كوروساوا فإنه من المؤكد أنك تتذكر مثلُا مشهد اقتحام القلعة الثالثة فى فيلمه الملحمي “فوضى”.
ويمكننا تحليل أنواع الحركة وطريقة تكوين الكادر السنيمائي فى أفلام كوروساوا وتقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
حركة الكاميرا
تختلف كاميرا كوروساوا عن غيره من حيث مرجعية كوروساوا نفسه كمونتير سابق، لذا فهو من قام بعمل الاعداد والمونتاج لجميع أفلامه وعلى هذا الأساسيسخر كاميراته لالتقاط مشاهد ولقطات بطريقة معينة تساعده كمونتير، وتختلف حركة الكاميرا باختلاف المشهد عند كوروساوا؛ مثلا كقيامه باستخدام 3 كاميرات فى تصوير مشاهد الحركة فى أفلام مثل “الساموراى السبعة” و ” كاجيموشا ” على عكس المعتاد من مخرجين آخرين كما أنه كان ينوع فى استخدام الكاميرات الثابتة و المتحركة والعدسات ذات الزوايا الواسعة أو عدسات التليفوتو.
حركة الممثلين
تعتبر حركة الممثلين سواء أفراد أو مجموعات من أهم عناصر التكوين السنيمائي ل كوروساوا ، فهى تعكس الدوافع النفسية و التوتر الداخلى للممثلين، أو حتى استخدامها فى اظهار أهمية أو تأثير الممثل، كمثال فيلمه الشهير “جنة ونار 1963” نجد أن حركة الممثلين في المشاهد وطريقة ترتيب وقوفهم أمام الكاميرا، تعكس التوتر الذي يسود الفيلم الذي يدور حول حادثة اختطاف طفل صغير وطلب فدية، ذلك الجو الموتر نجح كوروساوا في نقله وتصديره للمشاهد عن طريقة حركة الممثلين وتكوين الكادر.
حركة العوامل المناخية المحيطة
العوامل الجوية عنصر مهم ومتواجد بشدة فى أعمال كوروساوا، استخدم كوروساوا العوامل الجوية كخلفية للمشهد، كالأمطار، والرياح وحتى الأعاصير، صوت وحركة الأمطار مثلًا استخدمها كوروساوا كخلفية فى أفلامه الأهم : راشومون، الساموراى السبعة، الذقن الحمراء، ويبقى مشهد النهاية فى فيلم “لحن فى أغسطس” عالقاً في الأذهان، عندما استخدم الإعصار الذى يضرب المدينة كخلفية للحدث الأهم؛ وهو مايجول بداخل الجدة التى نجت من أهوال إلقاء القنبلة الذرية على اليابان، وعاشت بذلك الكابوس المروّع.
نقطة أخيرة، فقد اعتاد كوروساوا بموهبته الفريدة في الرسم، أن يرسم مشاهد فيلمه كاملًا قبل البدء فى إخراجه، كان يحلم ويكتب ويرسم الفيلم، قبل أن يقف وسط طاقمه صائحًا: انتباه …كاميرا story board في شكل كان يعد ويقوم بتحضير كل كبيرة وصغيرة قبل بداية التصوير، فلا مجال لأي خطأ.
رحل كوروساوا عن دنيانا في السادس من سبتمبر عام 1998 تاركاً لنا ميراثاً فنياً لا ينسى، كوروساوا الذى كان يتعرق مثل ضفدع؛ خوفًا من مجرد الحكي عن نفسه، كما ذكر في مقدمة مذكراته:
“أعتقد أن تكتب عن نفسك، تمامًا هذا يعني أن تجلس بين أربعة جدران مغطاة بالمرايا وأن تحدق فيها، تريد أو لا تريد تجلس وترقب نفسك من زوايا مختلفة فتحس أنك مختلف بعض الشئ عن ذاتك”.
المصادر:
- كوروساوا، ” عرق الضفدع: مايشبه السيرة الذاتية ” ت: فجر يعقوب