“أطفال فرنسا”: واقعية حوض المطبخ في افتتاح مهرجان كان
فيلم “مرفوع الرأس” للمخرجة الفرنسية إيمانويل بيركو الذي افتتح أمس مهرجان كان الدولي في دورته الـ68، هو الفيلم الأول الذي يفتتح به المهرجان لمخرجة (امرأة) منذ فيلم “رجل عاشق” الأميركي لديان كوري عام 1987، وهو ما يثير الدهشة بسبب وجود عدد كبير من المخرجات في العالم وفي فرنسا بوجه خاص، كانت أفلامهن تستحق العرض في افتتاح المهرجان الكبير، ولو خارج المسابقة كما هو الحال بالنسبة إلى فيلم “مرفوع الرأس” الذي تشارك مخرجته -وهي أيضا ممثلة- في بطولة فيلم آخر داخل مسابقة كان هو “مليكي” للمخرجة مياوين. على غرار الأفلام التي يصنعها الأخوان داردين في بلجيكا، تقدم بيركو فيلمها هذا الذي يسير بلا شك على خطى مدرسة الواقعية الجديدة، التي أطلق عليها في زمانها “واقعية حوض المطبخ” إشارة إلى صدقها في تقديم ما يحدث في “قاع المجتمع”. وفي مقابل ذلك لا يستغرق الفيلم كثيرا في تقديم وصف مسهب للحياة داخل الإصلاحيات أو السجون التي يودع فيها “الأحداث”، بقدر ما يولي الاهتمام بأسلوب وطريقة عمل المؤسسات الفرنسية التي تقع على عاتقها رعاية الأطفال المشاغبين الخارجين عن الخط، أي الذين يميلون إلى العنف والخروج على نمط السياق الاجتماعي المقبول، وما يواجهه العاملون داخل هذه المؤسسات من مشاق ومصاعب قد تصل إلى حدّ الاعتداء الجسدي والتهديد بالقتل. تعدد المستويات بطل الفيلم أي الشخصية المحورية التي تتداعى من حولها الأحداث وتبرز الشخصيات المختلفة، من فلورنس القاضية المتخصصة بالنظر في قضايا الأحداث من صغار السن، والتي تقوم بدورها هنا كاترين دينيف بخبرتها الطويلة الممتدة في السينما الفرنسية، إلى يان المشرف النفسي على إعادة تأهيل الأطفال المشاغبين وجعلهم ينسجمون مع المجتمع. وهو الذي كان في الماضي من أولئك الأطفال، وقضى فترة في السجن لارتكابه عددا من المخالفات الجنائية، ويقوم بدوره ببراعة ملفتة الممثل بينوا ماجيميل، ثمّ السيدة المشرفة على تعليم الأطفال داخل الإصلاحية التي يقع بطل الفيلم الصغير في غرام ابنتها المراهقة تيس، وتكون هذه العلاقة سببا في تغييره بشكل درامي ليصبح أكثر إحساسا بالمسؤولية. بطلنا الصغير مالوري الذي يقوم بدوره رود بارادو (يقف للمرة الأولى أمام الكاميرا)، ولد عنيف، يميل إلى التكبر والعناد، يرفض الانصياع للكبار ولعالمهم، يشعر بالبغض تجاه المجتمع، لا يثق في أقرانه من “أطفال فرنسا” أي من تلك التركيبة الإثنية المتعددة التي توجد في قاع المجتمع الفرنسي حاليا، من أبناء المهمشين من المهاجرين العرب والأفارقة. وهو يعيش مع أمه سيفرين التي نراها في المشهد الأول من الفيلم وقد بلغ بها اليأس مبلغه، تريد أن تتخلى عن ابنها للدولة لكي ترعاه بدلا منها، وهي التي عجزت تماما عن “ترويضه”، كما تكشف شخصية الأم (تقوم بها الممثلة ساره فورسيتييه) عن ضعف ظاهري تجاه ابنها، وعن علاقة خاصة في ما بينهما، بحيث يبدو الصبي أيضا شديد الارتباط بها، وهو الذي توفي والده عندما كان في الرابعة من عمره. ويتابع الفيلم تمرد مالوري منذ أن كان في السادسة من عمره، وعلاقته المضطربة بالمحيط الاجتماعي، وهوسه بالسيارات التي يقوم بسرقتها وقيادتها بشكل مجنون، سيؤدي في ما بعد إلى وقوع حادث مروع في الطريق، بينما كان يقوم بتهريب شقيقه الصغير توني من إصلاحية أودع فيها أيضا بسبب إهمال أمه في رعايته، لكن الحادثة تمرّ على خير.
تفشل كل محاولات “الكبار” الذين يتولون مسؤولية إعادة تأهيل الصبي المراهق مالوري، مع منحه فرصة تلو أخرى لإثبات قدرته على تفريغ طاقته بشكل صحيح والتخلي عن العنف، مع اضطرار القاضية التي تتولى قضيته، في مرحلة ما بعد تعدد ما يرتبكه من جرائم، إلى الحكم عليه بالسجن، ثم الإفراج عنه بحيث يوضع داخل إصلاحية لبعض الوقت.ولا يبدأ مالوري في التغير سوى بعد أن يقع في حب تيس التي تجعلها المخرجة تشبهه في ملامح وجهه الخارجية بتصفيفة شعرها مثل الأولاد، بل وتجعلها أيضا تميل لممارسة رياضة عنيفة مثل الجيدو، لكن دون أن تصل إلى تبني العنف مسلكا، وبالتالي تصبح النموذج الوحــيد الــذي يمكنه الثقة به. وتتطور علاقتهما إلى علاقة جسدية لتحمل منه ويكون الطفل الذي يرفض مالوري مجيئه بإصرار في البداية، ثم يتراجع بعد أن يكتشف مقدار تعلقه بالفتاة وحبه لها، بعد أن يكون قد بلغ السابعة عشرة، ونراه في اللقطة الأخيرة وهو يحمل الطفل بحب وحنان ويسير به في ممرات المحكمة، في طريقه إلى الطريق العام والكاميرا تتابعه في لقطة- مشهد من تلك اللقطات التي اشتهرت بها السينما الإيطالية. أسلوب الإخراج تتعامل المخرجة بصرامة شديدة مع تفاصيل فيلمها لإسباغ الواقعية على موضوعه، فنحن نقضي نحو 25 دقيقة في البداية، داخل غرفة القاضية فلورنس ومساعدتها، وهي تستقبل والدة مالوري ثم مالوري ومحاميه في حضور المشرف على التأهيل النفسي، وما يدور من مناقشات وجدال لا يؤدي إلى شيء. وفي مقابل ذلك يكشف لنا الفيلم بدقة عن الموضوع، ويقدم كل الشخصيات الرئيسية التي سيدور من حولها، بما في ذلك شخصية الأم التي تبدو كما لو كانت تعاني من إدمان المخدرات، ونراها في ما بعد وهي تغالي في إبداء مفاتنها، تثور وتغضب وتفقد رشدها كثيرا، ثم تستفيق وتبكي وتتمسك بولدها، بل ويشير الفيلم على استحياء إلى ما قد يكون بينهما من علاقة “جسدية” أيضا دون أن يفصح بذلك. تنجح بيركو في تجسيد الكثير من المشاهد المليئة بالحركة وتنفذها بدقة وإقناع، سواء مشهد انقلاب السيارة وتحطمها على الطريق، أو مشهد بطلنا الصغير وهو يرقص داخل قاعة تختنق بزحام الفتيان والفتيات على موسيقى صاخبة وسط ألوان داكنة يسودها الأحمر القاني، تعبيرا عن الرغبة في تفريغ طاقة الكبت. وفي مشاهد أخرى داخل الإصلاحية تعبر المخرجة ببراعة وبأسلوب شديد الصدق والواقعية عن التركيبة المتعددة الأعراق لمجتمع الطبقات السفلى في فرنسا اليوم، حيث تحتدم حدة الصراع العنصري بين البيض والسود، الفرنسيين من ناحية والعرب الأفارقة من ناحية أخرى، وتصور كيف تصبح مهمة المسؤولين الحكوميين ومؤسسات الدولة التي ترعى النشء، شاقة وقاسية ومرهقة للأعصاب. ومع ذلك نرى بشكل أقرب للواقعية التسجيلية ما يدور داخل هذه المؤسسات ونطلع على ما يحكمها من قواعد وقوانين قد لا يكون البعض منها مناسبا للعصر، لكن ما يعوض نقص التشريعات وعجزها أحيانا، فهم القائمين عليها مثلما نرى من خلال شخصية القاضية التي تمثلها كاترين دينيف، في البداية ببرودها الذي يجعلها قادرة على التحكم في مشاعرها بهدوء، ثم تدريجيا تبدأ مشاعرها الشخصية كامرأة تغلبها أمام تداعيات القصة. اليوم الخميس ستبدأ عروض المهرجان وفي مقدمتها عروض المسابقة الرسمية، وسيفتتح “أسبوع النقاد” وتظاهرة “نصف شهر المخرجين” الشهيرة، وتبدأ عروض “نظرة ما” وغيرها من العروض. وجدير بالذكر أيضا أن نحو 900 فيلم من أفلام العالم ستعرض في السوق الدولية المفتوحة التي تقام على هامش المهرجان لبيع وشراء وتبادل الأفلام.