أسئلة الوثائقي العشرة: الحقيقة والواقع والدعاية (3 من 3)
كيف نتعرَّفُ على الفيلم الوثائقي؟
تقول القاعدة أنه يمكننا التمييز بين والفيلم الروائي دونَ أن نُسائل أنفسنا لماذا. بل يمكننا معرفة التزييف، الذي قد نسخرُ منه، إلى جانب ملاحظة التوظيف المتعمّد للتزييف. على أَنَّ البلبلةَ والحيرة تظلان إستثناءً، رغم أن بعض الأفلام يتلاعب على ذلك لزرع الشك وزعزعة نظام الأشياء من حولنا أو ليبيعنا “خردوات رخيصة”.
الجوابُ على هذا السؤال البسيط، مُعقّدٌ لأنَّ كل ما يدخلُ ضمن نطاقِ عاداتنا (ومنه اللغة) وكل ما هو يقيني (ومنه المرئي) قد طوَّرَ منظومات مركبة ومعقدة للإدراك والتفريق والحُكم، نمارسها بلا وعي. لنبدأ بما يسمّى عملية صياغة السياق. غالباً ما نعرف أننا سنشاهد فيلماً وثائقياً، سواء في السينما أو في التلفزيون. فنحن قلّما نشاهد فيلماً لا نعرف عنه شيئاً، ومن النادر أن نتابع فيلما في التلفزيون نعثر عليه، مصادفة،أثناء البحث بالريموت كونترول، دون الرجوع إلى مجلة البرامج لمعرفة شيءٍ ما عنه وعمّا يدور موضوعه.
إذاً ما هو معيار التمييز الذي يعمل لدينا تلقائياً ؟ يبدو أن عنوان الفيلم والاسماء في ختام الفيلم والسيناريو والممثلين والأدوار التي يؤديها بعض الممثلين… أي كلّ ما لا نجده إلا في النادر في الفيلم الوثائقي. فعبارات الشكر وبعض الإحالات الخطيّة تؤكد أحياناً نوعية التمازج بين العالم الواقعي والعالم المُصوَّر المُؤفلَم. وبهذا يمكن للنص المكتوب الذي يقدمه الفيلم أن يشي باشياء، لكن تحصل في مجرى عملية صياغة السياق اشياء غير واضحة المعالم بالنسبة لنا تماما تتعلق من ناحية بما نعرفه عن الحياة والعالم وما نعرفه من ناحية أخرى عن السينما.
ويبقى السؤال الجوهري هنا: أيٌّ من العلامات نلتقطها في مجرى سياق الفيلم، تُمكِّننا من التمييز بين الفيلم الوثائقي (الواقعي) والفيلم الروائي (الخيالي) ؟ ويبدو من غير المعقول البحثُ عن خصائص إسلوبية مُطلقة (وحصرها بالتعليق أوالمقابلة، أو حتى بزاوية نظر الكاميرا كما في الفيلم الوثائقي.. إضافة الى ذلك فنحن لا نخلط (إلاّ في النادر) بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي.
لنتفحّص إستعداد المشاهد لإبداء الثقة المطلوبة منه. كأن نقولُ هذا فيلم روائي ضعيف < أي لا يبدو مقنعاً>، إن هذا القول لا يعني أنه بعيدٌ عن الواقع، بل أننا لا نصدقه، لأنه لا يدخلنا الى عالم حكايته. ولا يُقنعنا بأن العالم، الذي أضافه، يضيفُ شيئاً لواقعنا المُعاش. على العكس من ذلك عندما نقول أن فيلماً وثائقياً ما غير متماسك، فأننا لا نعني بذلك أنه فيلم روائي مموَّه، بل أنه يتضمن عدداً من أكليشيهات تصوّر أناساً وحالاتٍ بشكل مخطط مسبقا وأن شخصياته يُصدرون ردودَ أفعال آليّة محسوبة مسبقاً.
قد يُراودنا الشك عندما نشاهد فيلماً وثائقياً… شكٌّ لا ينسحب على كل شيءٍ، إنما يتعلّقُ بمظاهر وحالاتٍ محددة، ننتظر منها إيضاحاتٍ عن ( ماذا وكيف ) تترابط “خيوط” الصلة. فالشك مرتبطٌ فعليّاً بكيفية تلقّي الفيلم الوثائقي. السؤال: هل أن ما يُعرضُ أمامنا هو واقع حقيقي، أو أن ما يجري سرده هو واقع صادقٌ ؟ مع أن مثل هذه الأسئلة ليست ذات معنىً في حالة الفيلم الروائي، لأننا لا نحاكمه وفق هذا المعيار. فعندما نعقب عن فيلمٍ وثائقي < لا أُصدِّقُ هذا > فأننا نقصد بذلك سلوكاً خاطئاً أو كذبة أو حتى تزويراً. وهذا يعني أننا نشكك بمصداقية شخوصه وأحداثه، او حتى بمصداقية المخرج نفسه وبمصداقية ما يعرض أمامنا.
من هنا يمكن للمرء أن يستنتج بأن آفاق التوقع في الفيلم الوثائقي ترتفع بشدة إلى مصافِّ منطق علم ذي طبيعة تاريخية، يشكل فيها الشك حجر الزاوية. وإستناداً لهذا التوقع، تنشأ الحاجة إلى الإستخدام المتزايد للشهود والمقابلات وما يقوله الإختصاصيون والتعليق. ويتضح عبر ذلك الجانب التعليمي للفيلم الوثائقي، رغم أن غالبية المعاجم والقواميس تُهمل نوعيته الشاعرية. في حين أن الفيلم الروائي يستخدم معايير فهم السلوك الإنساني بصيغة دراماتيكية أو ملحمية كحجر زاوية للمصداقية. بينما يمكن للفيلم الوثائقي أن يتضمن مشاهدَ من فيلم روائي أو صوراً من الأرشيف كما يمكن للفيلم الروائي ان يتضمن ايضا مشاهد وثائقية وأخبار تلفزيونية ومشاهد تُصوَّر في شوارع…
يمكن أيضا للمشاهد أن يُضلَّل أو ينخدع، ينشرح أو يُصاب بالدهشة عندما لا يعرف أيَّ نمطٍ من الحكاية يُعرض عليه : تحديداً أكان إستعارة، أمثولة ام مفارقة. أكان توثيقاً أم من صنع الخيال، أي فيما إذا كان تشويهاً غير مفهومٍ وغير واضح لقواعد الإخراج والتمثيل. ويكمن الفارق بين التمثيل والتشويه، بين المزحة والتمثيل الرديء في أنه في الحالة الأولى يكون التشويه ملحوظاً ومُتضمناً أفكاراً غزيرة (كما هو الحال في الفكاهة والمرح الذي قد يرافقهما تعليقُ غني فكرياً ).. أما في الحالة الثانية فأن الأمر يتعلّقُ بطريقة غير فاضحةٍ لخداع المشاهد بتقديم موضوع (قصة) خيالية وإلباسها لَبوس الفيلم الوثائقي ( وهو ما يحصل غالباً في افلام الريبورتاجات) أي تقديم شيءٍ مُصنَّعٍ أو أُعيد بناؤه وإختلاقه على انه الواقع، أو ما تمَّ تصويره مجدداً على أنه صورة من الأرشيف، أو ما يتم تصنيعه رقمياً ( ديجيتال ) وتقديمه على أن تصويره جرى في مسرح الحدث ! وعليه فأن أساس الثقة المطلوبة في هذا المجال لا يعود ينسجم مع طريقة إنتاج الفيلم : وهذا ما يسمى بالتعريف الوظيفي للجانب المغلوط والمُخادع في الفيلم الوثائقي.
فلكل فيلم، وثائقياً كان أم روائياً/خيالياً، أَعرافٌ ( تقاليد) وإبتكارات متضمنة في مستويات بنائه المتنوعة، ويضم في ثناياه عدداً من الإحالات الخفيّة، التي تهمس للمشاهد كيفية الفهم في أي مستوىً.. فالفكاهة والسخرية أم تَعدُّد المعاني تنطوي على تضارب بين ما يُعرض ويقال مباشرة وبين ما يتوجب فهمه ورؤيته.
وفي الوقت نفسه تُتيحُ هذه الطريقة في التعامل، بكسرِها حواجز التقاليد المألوفة، إيضاحَ السبب في إختراق هذا الحاجز ولماذا يتم التلاعب فنيا في عملية زعزعة أركانه. وغالباً ما يسلط الضوء في الفيلم الوثائقي على تعدُّد معنى الحقيقي والمزيَّف ويختلق معنى مزدوجاً للصورة كما في إعادة بناء أمينة للواقع وتمثيل يستند إلى الوهم في آنٍ، البرهان المخادع للمونتاج والايمان الحقيقي للمشاهد. وبفضل ادراك المشاهد المختلف تنشأ مؤثرات هزلية وفكرية : فالمشاهد<يحقّقُ> فعلياً شيئاً ما. ويبدأ التضليل وإستغلال الثقة والتزوير بحيث لا يجد المشاهد قرينة، تمكِّنه من الإستمتاع بالإختلاف. فتحوُّل التغريب المُصنَّع إلى إغترابٍ سيءٍ، يبداُ عندما يريد الفيلم أنْ يكون ما ليس فيه، عندما يُخفي الطريقةَ المُراد بها مشاهدته ويتستَّر على التصوير والمونتاج.
في النهاية يتعلق ألأمر أصلا ب(جهاز/وسيط) يصور الحياة لكي يعيد انتاجها في الاشكال التي يتطور نفسه فيها،، سواء كان خَبَبُ حصان، او رقصة شرقية سواء كان سباق سيارات او إستقالةُ وزيرٍ، سواء كان إرضاعُ رضيع او تمثيل سارة بيرنار سواء كان موت زرافة او تأبيدُ إبتسامة لأنغريد بيرغمان..؟
هل توجد اسلوبية شديد الوضوح في الفيلم الوثائقي؟
يتأتى علينا ان نتخلى عن البحث في لغة السينما نفسها عن اساليب وأنماط ذات طبيعة وثائقية تضمن لنا ان المُؤفْلَم هو حقيقي؟ لان الفيلم الخيالي كما رأينا هو بحد ذاته كالفيلم الوثائقي ينطلق من أن ليس هناك أي صورة تستطيع في النهاية ان تنتمي الى مرجع موضوعها. لكن هذا لا يمنع على الاقل من جهة من فحص وجود اساليب أصيلة او مُهيمِنة في الفيلم الوثائقي او من أن انماط التعبير من جهة اخرى هي التي تستحوذ عموما على كل تجليات اللغة السينمائية ولا تقتصر أهميتها المتنوعة على الفيلم الوثائقي او الفيلم الروائي.
يميز علماء اللغة، حسب اميلي بينيفيست، بين فئتين واسعتين من التعبير الشفاهي: الحكاية التي هي محاكاة تُروى فيها احداث تتوالى بعينها، والخطاب الذي هو فعل انعكاس يتضمن علامة اللفظ. وبوسع المرء ان يساوي بين الحكاية (الخيال) والخطاب (الوثائقي) لكن مع ان الأمر لا يخلو من صحة إلا أنَّ فهمه لا يخلو من تعقيد، لأن الخيال يضع نفسه كليا في خدمة صيغة الملفوظ الخطابي. لنلقي نظرة على فيلمي ستانلي كوبريك “القتل” و”البرتقالة الآلية ” ففي الاول يتحدث البطل بشكل مفصل (من خارج الصورة) إلى المتفرج حول ملابسات واقعة جريمة القتل التي حصلت في شقته والتهديد الغامض الذي يتعرض له وفي الثاني يقدم الراوي (ضمير المخاطب أنا) خطاباً صريحا يتوجه به الى المشاهد عن طريقته وأصحابه في حصولهم على المتعة دون مراعاة الضرر الذي يسببونه للآخرين.
بوسع الفيلم الوثائقي ان يرجع في الحكاية إلى شهود العيان او إلى الابطال أنفَسَهم أو حتى إلى إعادة بناء مماثلة للحكاية. ويظهر للعيان من وراء التعليق على الشاشة أنَّ بوسع الكلمة أنْ تنطق من اجساد مُتحدثين وفاعلين كما في المسرح. لكن الابطال في الفيلم لا يجوز أنْ يكونوا ممثلين يَتْلون نصاً انما اشخاصا يجسدون انفسهم ويتحدثون بأسمائهم. و تُمكِّنُ وتُمكِّن القدرة الوحيدة الفيلم الوثائقي من أنْ يعرض تاريخاً لشهود عيان مَرئيَّا، على عكس المؤرخين، وأبطالا احياءً كما يحصل في تصوير المقابلات أو في شهادة ناس حقيقيين في مكان واقعي أصلي. كما انه يستطيع حتى انْ يصور الحكاية كما تحصل مباشرة استناداً الى أحداثها الكبيرة المحفوفة بالمخاطر.
لنقارن مثلا فيلم “موت يوغسلافيا” للمخرج انغوس مكويين أو فيلم “راقب السلاح” للمخرج مارسيل اوفولُس حول حصار ساراييفو. لكن الوثائقي يستطيع أيضاً انْ يُصور اناساً في حياتهم اليومية وفي مرافقهم الاجتماعية: سينما مباشرة. وبهذا يَفتح الوثائقي طريقاً ثالثاً بين محاكاة درامية يؤديها مُمثلون وبين خطاب يُقدمه تعليق. فالسينما الوثائقية تسمح من جهة بتسجيل الكلمات أثناء حديث قائليها في موقع الحدث وتسمح من جهة اخرى بتسجيل الحديث أي بتسجيل حكاية وخطاب للناس المعنيين انفسهم وذلك عبر كل وسائل المحاكاة السمعية البصرية من صوت وحساسية وتًكلُّف أو طلاقة أو قناعة أو تسوِّغ، أي بكل ذلك التعارض المُحتمل بين الكلمة التي تُقال والإيماءة التي تصاحبها.
تكتب كيته هامبورغر في دراستها “منطق الشعر” أنَّ ما هو خيالي مثل ما هو غير خيالي يَستعمل أقصى درجة من التبئير ( وصف من وجهة نظر شخص ثالث: ضمير الغائب) لكنها تَعتبر أنَّ صفة الخيال المميزة تكون تعبيراً لذاتية شخص اخر (تبئير داخلي). وفي الواقع يستطيع المؤرخ او الوثائقي بصعوبة، بعكس كاتب الرواية أو كاتب السيناريو، أنْ يَنفذ إلى داخل رأس ابطاله ويقرأ أفكارهم أو يجعلهم ينطقون بلسانه.
يتطابق الخيال مع خيالية السرد اكثر مما يتطابق مع الحكاية فهو يتأسس على صعيد اللافُظ (فعل التعبير الفردي عن طريق تشغيل اللسان) بدرجة اكبر مما يتأسس على صعيد المَلْفوظ نفسه (أي صعيد التعابير).
إنَّ القسم الاعظم من الحكايات التي تَحكي روايات لا تصنع وفق ملفوظية خيالية إنما وفق ملفوظية واقعية مما يجعلها رغم ذلك ليست بمنزلة كتبَ التاريخ. إنَّ واقع الخيال ينشأ في الواقع ليس من التساؤل حول وجود الخيال إنما من تَنقلِّه بين أنْ يكون موجوداً فعلا او لا يكون. ويرى الفيلسوف الفرنسي جان سيرل الفرق الحقيقي بين اللفظ المًتصور (الخيالي) واللفظ الجدي (الوثائقي).
ان كل خيال ليس فقط في الرواية التي تسرد في صيغة ضمير المتكلم (الشخص الأول) هو ليس محاكاة مؤكدة جادة أو برهاناً حقيقياً، إنما هو حسب هامبورغر قرينة خيالية مع الاخذ بنظر الاعتبار إنَّ اغلب الاشياء التي تُنْتَج من وجهة الخيال مَصدرَها عالمنا الواقعي العيني الملموس، وان التعبير الملفوظ الذي ينشأ عنها له نفس معنى المرجعية المُتَخَيَّلة كما في الحياة اليومية. لكنه يوجد في شكل استثنائي خاص وتكون مرجعية الشيء الوحيد دائما مرجعية الحياة التي نحياها والتي لأسباب مختلفة نعرف أنها من صنع الخيال كما نفهمها كحالة خاصة على نحو مُغاير.
تُكسَر اعراف المعنى والتخيِّل المألوف بشكل جَلي لأن الخيال يسمح بالتناقض أثناء ما يتحدث عن عالمنا لكنه يتحدث في حالة غير مباشرة ولعوب ويسعى لأنْ يُغري المتفرج ويريه إنَّ استحواذ عالمنا يتخذ اشكالاً متنوعة. فالنص الخيالي يعرض عالما لكن ليس كعالم منعزل يختلف عن عالمنا كما لو انه يُلغيه انما يزوده بمظهر العالم المُعتاد عبر تقنية خيال بحيث نَكون مُطالبين بأن نتركه يلعب بهذه الطريقة أو الأخرى دوره.
اما العالم الحقيقي فهو دائما نص قبلي للِنص الخيالي – يقودنا الخيال فيه إلى العودة إليه عبر طرق التفاتية. فالعلاقة بالخيال هي بالضرورة علاقة بممارسة الحرية لأنَّ مجال المُتخيَّل هو مَجال الحُرية: حُرية إبتكار إمكانات وبدائل لقواعد لعب وتمثيل مختلفة اخرى. لهذا فإنَّ الخيال هو أخ لحرية الفعل، سواء أكان المبدأ يتعلق بالأمل أو بالوهم المحفوف بالمخاطر: دون كيخوت و سانشو بانزا؟
لماذا المونتاج؟
في بداية اكتشاف السينما كان يتم تصوير كل المشاهد في ديكور واحد. ويتم تقسيم الفيلم حسب وحدات المسرح وطريقته في تقسيم الفصول والمناظر. وتقوم آلة التصوير بتسجيل هذه الفصول والمناظر المبنية وفقا لنظام شبه مسرحي، يدرس فيه المخرج ويرتب حركات وانتقالات دخول وخروج الممثلين. وكان طول المشهد يرتبط بطول مادة الفيلم الخام التي كانت تسعها علبة الفيلم. وكان التقطيع يحصل فقط، عند تغيير مكان التصوير، وعند ربط المشاهد المصورة، بينما كان موقع آلة التصوير يحدد ويماثل المكان، الذي كان المخرج يدير منه المسرحية. وقد حافظت آلة التصوير على تسجيل المنظر- المشهد من بعد ثابت لا يتغير مدة 15 سنة، وقاد تقسيم المشهد -المنظر- إلى عدة لقطات: لقطة قريبة أو لقطة كبيرة،عن طريق تغيير مكان آلة التصويرإلى ثورة في المرئيات السينمائية، وبدأ هذا التغيير أولا، لأسباب مادية عند بورتر، ومن ثم لأسباب درامية عند غرِفث.
وأصبحت وسيلة التعبير تتم عن طريق تتابع لقطات، مئات اللقطات، مما قاد في نفس الوقت إلى التفكير في أسلوب وكيفية وصل تلك اللقطات بشكل مترابط بحيث ينتج استمرارية سردية. وجاء تحرير موقع – مكان آلة التصوير أثناء تصوير اللقطة الواحدة، بداية، في عام 1925، أي بعد عشرة سنوات من بداية تغيير موقع آلة التصوير وجرى وقتها الحصول على صورة يتغير فيها موقع الكاميرا في اللقطة الواحدة المستمرة. واصبح بناء المشاهد من لقطات عديدة مع استخدام حركة آلة التصوير داخل اللقطة الواحدة قضية جمالية – درامية على درجة عالية من الأهمية في السرد السينمائي.
ان هذا التطور الذي احرزه المونتاج كأسلوب وكطريقة تعبير فيلمية سينمائية كمنهج لغة سينمائية كتقنية اعادة بناء لصور متحركة مَكن عندئذ سحر الصور المتحركة ليحولها تدريجياً الى سرد فيلمي مركب.
خضع اكتشاف المونتاج الى مقولتين حاسمتين:
1. لا توجد على الشاشة خشبة مسرح، الخشبة هي العالم نفسه، العالم في حركة حتى في الفيلم الروائي حتى في استديو يُعاد فيه بناء ديكورات مختلفة: قاطرات وسيارات وبيوت
2. كل لقطة هي ذاتيا جزء ونصير لمقطع او لمنظر مصورا. فالتفليم هو جعل الشيء مرئياً ويعني اكثر توجيه النظر الى ما هو مرئي في المشهد حتى في الفيلم الوثائقي وكما كان هتشكوك يسميه “قيادة الجمهور”.
ان السينما كفن تسعى بفضل المونتاج إلى تنفيذ التناوب بين هاتين المقولتين. فمن جهة ينفذ التناوب الراهن عبر تسجيل/ توثيق الصورة الفيلمية: حتى في الفيلم الروائي، ومن جهة اخرى ينفذ التناوب بين ما هو خيالي/ متصور بين تناوب علاقة المكان والزمان، عبر تدخل مخرج الفيلم الذاتي في تنفيذ اللقطة: حتى في الفيلم الوثائقي.
ان ثنائية واقعي/ خيالي تشكل بؤرة التعبير في تنفيذ أي فيلم فمن جهة يتم جعل المُتصور ماديا ومن جهة اخرى يُحوَّل العالم المادي الى صور. وهذا ما يجعل السينما تهز نظام تصوراتنا المرئية عبر جعل الصورة المادية تتداخل مع الصورة الافتراضية وتلتحم معها. ومن هنا يبدأ تطور المونتاج في خلق حركة كل تلك العلاقات المكانية/ الزمانية
.
ساعدت ممارسة السينماتوغرافيا على استعمال وصلات استمرارية فيلمية وجعلت اولا المقاطع المتقطعة وغير المستمرة في تشكيل سلسلة متتابعة تحولت الى سرد ماضي وحاضر ومستقبلي للحكاية الفيلمية. وكما كان يقول بازوليني فأن كل لقطة هي وصلة سمعية – بصرية، زمكانية وكل وصل (مونتاج) هو مجرد وصلة. ويصل المرء من كينماتوغراف الى سينماتوغراف عبر الربط المونتاجي: من المعاينة نصل الى اللقطة ومن الرسم المخطط نصل إلى السيكوينس (المقطع الفيلمي) ومن بكرة الفيلم الواحدة نصل إلى الفيلم الكامل ومن الحادثة نصل إلى الحكاية، ومن حركية-الفيلم الى زمانية-الفيلم. (حركية عنصر التغيّر عبر الزمن) ليصبح ماديا من جهة ما يتصور المرء، وبذلك يتحول العالم المادي من جهة اخرى الى صور. وكما يؤكد اندريه مالرو إن تجزئة المشاهد في لقطات، بغض النظر عن الكاميرا والمصور والمخرج، هي ما تجعل الفيلم يولد كفن من المشاهد نفسها التي تصور وفقا لطبيعة التعبير الفيلمي.
مع ظهور تقنيات جديدة، ساعدت بوقت مبكر أو متأخر على اكتشاف وسائل تعبير سردية، تطابقت في مجال مستويات عديدة ومختلفة في تسجيل الصورة والصوت أو تعارضت في مجال مستويات عديدة ومختلفة مع إمكانات التعبير المبتكرة المناسبة التي كانت تكتشف في سرد الأفلام
.
يوضح البحث في انتصار الفيلم هذه الحالة لكننا لن نتوقف عندها، بل سنركز بالدرجة الاولى على اكتشافات وإسهامات المونتاج الشكلية في التعبير الفيلمي: جاء دور الحذف والتركيب المونتاجي في بسط التوتر الدرامي فبدل تقديم احداث بعينها يتم ايقافها لصالح المونتاج المتوازي او المتناوب ليجعل من حدثين دراميين يلتقيان او يتقاربان كما هو الحال في مشاهد ما اصبح يسمى الانقاذ في اخر لحظة او في مشاهد المطاردة. وأخيرا وقبل كل شيء تتضح بنية تركيب خارج الحقل، خارج ميدان الاطار كخلفية قبل ان تنشا أي لقطة أخيرا وقبل كل شيء جعل صور اللقطات كخلفية لحقل الاشياء المرئية او كخلفية لصوت من حقل الاشياء اللا مرئية. وهي طريقةHors-champ بالفرنسيhors de cadre (خارج الاطار خارج اللقطة ومعنى المصطلح هو كل صوت تسمعه الاذن اكان حوارا او مؤثرا او موسيقا لا تجد العين مصدره في الصورة المرئية) لهذا جاء التعبير الشهير من اندريه بازان الاطار هو قناع هو حجاب والفيلم هو ليس اكثر من لعب مع الكادرات والاقنعة ولم يعد الفعل يستقل بنفسه ولم تعد معاينته وفق استمرارية حاضر مستقلة بذاتها
.
لم يعد الحدث حياً ولم يعد حضور زمنه الواقعي مستمراً، بل يصور بشكل متبادل ومستمر بين ما يشاهد في حقل الاشياء المرئية وبين ما لا يشاهد خارج حقل اشياء مرئية Hors-champ ليظهر بعدئذ على الشاشة او لا يظهر. لهذا تظهر الصور غير مكتملة قابلة لعلاقات استبدالية (من وجهة نظر مختارة بشكل معين) او يمكن حتى أنْ تُدحض من قبل وجهة نظر اخرى
.
رغم ان المونتاج هو الذي جعل من السينما لغة وفنا مستقلا لكن البعض يجدون ان هذه اللغة بسبب المونتاج هي لغة خداع وتلاعب في توليد الدلالات. لكن اليس بإمكان أي لغة طبيعية كلغة علامات ان تعبر من حالة الى حالة عن حقائق وأكاذيب اوعن معنى مُصَنَّع او صادق؟ وبغض النظر عن حقيقة كون المونتاج جعل من الفيلم لغة تعبير إلا ان بوسع المرء ان يجيب بأن المونتاج جعل منها لغة تلاعب، حتى وان كان هذا التلاعب ينشا من علامات ومعاني او ينشأ من مؤثرات مُفبركة لكي يضلل الجمهور مع ان الامر يختلف من حالة الى اخرى وذلك الى الدرجة التي تتمكن فيها اللغة من قول الحقيقة او الكذب، قول الملفق او الصادق، قول المعنى او الهراء بحيث لا يعني الامر بان المونتاج هو ايضا لعب مخادع. إن أي لغة فن من الفنون هي طريقة لفعل وكلام عن علاقتنا بالعالم بطريقة حسنة او رديئة. اما اولئك الذين لا يجدون في المونتاج إلا فنا للتلاعب فهم يفهمون المونتاج انه نتاج مُصنع وانه لعبة خداع يمكن ويجب تحاشيها
.
وإذا ما بدا انه من السهل اعتبار المونتاج كطريقة تزييف يبقى علينا ان نمتحن الى مدى وباي اسلوب يمكن للمونتاج ان يكون طريقة للتزييف. فحسب بول فاليري فان الفنان يحول ما هو واقعي الى ضرورة. وهو تقريبا ما يفسر مفهوم المونتاجٍ: تحويل ما هو مُجزأ الى كل مُجمّع. ويعني ذلك ظهور دلالات بشكل غير متوقع من تركيب عناصر منفردة لا تتضمن، منعزلة، هذه الدلالات.