“أبو صدام”.. طرح نسوي لهزائم الذكورة
اختارت نادين خان في ثاني تجربة روائية لها بعد “هرج ومرج” (2012) تيمة “أفلام الطريق” وهي تيمة شعبية تجارية معروفة حظيت بنجاح كبير منذ فيلم سبيلبرج “duel ” 1971، ورأينا على مدار سنوات طويلة العديد من النماذج والتنويعات على هذه التيمة المشحونة بالإثارة والتوتر والمطاردات الساخنة، بالإضافة إلى تقاطعها مع حبكات فرعية تفرضها أحداث الرحلة الممتدة على طول الشريط.
اختارت نادين خان أن يكون فيلمها من هذه النوعية واضعة عينيها صوب شباك التذاكر لتحقيق النجاح التجاري والانتشار، وهذا لا يؤخذ عليها خاصة باعتبارها في بداية الطريق واسم محمد خان، وإن كان قد وفر لها مدخلاً قوياً لكنه لن يكفل لها الاستمرار في ظل واقع سينمائي مأزوم. البداية التجارية تهمة تغتفر لمخرج في بداية مشواره طالما أن هناك إطارا فنيا مقبولا وأدوات يستطيع بها هذا المخرج أن يشكل رؤيته، ولنا أن نتذكر المخرج العبقري عاطف الطيب كيف علق على تجربة فيلمه الأول “الغيرة القاتلة” الذي اعتبره مجرد بداية تعارف على السوق السينمائي ليفاجئنا بعده بقطعة فنية بديعة أسمها “سواق الاتوبيس” ومع استغلال تيمة تجارية مكررة ضنينة الخيال، ذات أفكار عصية التطوير، تيمة لا تستطيع الخروج من فخ النمطية والتكرار إلا بشروط.
السؤال هو: هل قدم فيلم “أبو صدام” أي جديد أو مغاير؟
نحن أمام فيلم يحمل نزعة نسوية واضحة، وموقفا حادا من المجتمع الذكوري الذي طالما أراد قهر المرأة وتدجينها داخل حظائر الطاعة والعيب والقوامة وهي مسلمات يفرضها الرجل الشرقي على المرأة في مجتمع طالما اعتبر هذه المرأة عورة وربما عارا وحملا زائدا.
لكن الفيلم الذي، كتبت قصته وأخرجته نادين خان، لا يُعري عورات هذا المجتمع الذكوري من خلال التوقف أمام عذابات الانثى المكبلة خلف قضبان القهر وسيادة الرجل والمساقة بشكيمة القوامة والطاعة، ولكن من خلال كشف هشاشة وخواء وضعف من يمسك باللجام والسوط، وهنا يكمن ذكاء الفيلم الذى اختار زاوية مغايرة للتعبير عن الهم النسوي، من خلال هدم النزعة الذكورية من داخلها ونزع اللثام عن وجهها الحقيقي بما يحمله من ملامح ضعف وهشاشة ونرجسية.
أبو صدام” محمد ممدوح ” سائق سيارة للنقل الثقيل ” تريلا ” يطلق على نفسه ملك الطريق.. رجل ضخم الجسد ومتضخم الذات، وهي سمة سائدة عند سائقي سيارات النقل الثقيل الذي يجلسون عاليا ويتمتعون بسيادة الطريق ويشعرون بضآلة من يمرون بجوارهم.
يقود أبو صدام سيارته في رحلة من مدينة الدلنجات إلى مدينة العلمين النائية ويرافقه في تلك الرحلة حسن “أحمد داش” كمساعد أو “تباع” بلغة أهل “الكار”، حسن، وهو صبي مراهق تتأجج فيه المشاعر الحسية ويتملكه هوس ملاحقة الفتيات ومشاهدة صورهن من خلال هاتفه المحمول.
أما أبو صدام فيبدو من الذين اذاقتهم الحياة مرارتها فهو أكثر نضجاً وصمتاً. شخصية مغلقة، دائم الاعتزاز بنفسه، يصد دائما محاولات حسن للتقرب منه خلال الرحلة الطويلة. دائما يوجه لحسن سهام التوبيخ ليكبح جماحه ويسيطر عليه بحجة تلقينه مبادئ الصنعة وأصول المهنة لدرجة تجعله يجبره على النزول ليأتي بكوب الشاي البلاستكي الفارغ الذي ألقى به من نافذة السيارة، (هنا نلاحظ أخطاء راكور ومونتاج عديدة لن نتوقف عندها وسنتركها من كثرتها لهواة جمعها).
حسن لا يكف عن محاولة فتح صندوق أسرار هذا السائق المتجهم، يحاول أن يستنطقه، ويقابل صلفه بطاعة وتودد وصبر، لنكتشف أن وراء كل هذا نية مبيته لسرقة نقود العمل من خزانة السيارة والهرب بها، بعد مغافلة السائق المنشغل دائما في مكالمات تليفونية بينه وبين رب عمله أو زوجته وصهره.
تنفك عقدة لسان أبو صدام ويحكي لحسن عن مغامراته النسائية وعن تلك المرأة الجميلة المثيرة التي وجدها تسبح عارية قرب الشاطئ وأقام معها علاقة كاملة داخل مقصورة السيارة قبل أن تطلب منه التوجه لمقابر العلمين وينتهي الأمر بنهاية غرائبية، هنا نحن لا نعرف إن كانت قصته حقيقية أم محض خيال لكن من تلك اللحظة يبدأ السيناريو في زرع الشك لدينا نحو مصداقية ما يرويه أبو صدام ، ونعرف من خلال مكالماته التليفونية أنه على خلاف متصاعد مع زوجته التي تريد حضور عرس ابنة عمتها لكنه يرفض ويتوعدها إذا خالفت كلمته، ويتدخل عمها للتوفيق بينهما ودعوته للعرس
نجد هنا السيناريو يستحضر صراعا مع شخصيات لا نراها، تاركا عبء تجسيدها وتأثيرها على السياق الدرامي لأداء محمد ممدوح الذى يشتبك معهم بقوة من عبر الهاتف وهي حيلة ذكية لولا التمادي في استخدامها طوال الفيلم، حتى تظن أن قمرة القيادة تحولت لـ (كابينة)هاتف.
في منتصف الفيلم تتراجع الآمال ويدخل الفيلم محطة التنميط بمشهد العرس و”النقطة” وهو الكلاشيه الرسمي للسائقين (عفاريت الأسفلت) أينما حلوا، وطالما أن هناك عرسا فهناك مبرر درامي لظهور راقصة يصطحبها البطل نهاية الليلة، ولا ينقذنا من ذلك التنميط إلا المشهد الذي جمع أبو صدام مع الراقصة الشعبية “زينة منصور” في مقصورة السيارة وهنا فقط يبدأ السيناريو في هدم ما حشد له منذ البداية ونكتشف أننا أمام جسد بلا قدرة وجعجعة بلا طحين.
يكشف لنا المشهد امتعاض الراقصة من تلك العلاقة التي لم تلبي رغباتها الجنسية وحين أراد أبو صدام استنطاقها لتتغزل في فحولته وتعرب عن استمتاعها فما كان منها غير التهكم والتقريع والسخرية التي تصدر من امرأة خاب رجاؤها في اقتناص لحظات المتعة، تهم بالانصراف، وحين يمنعها انتصارا لذكورته المهانة، تنهال عليه بالسب والضرب وتتركه متورم الوجه في مشهد يحمل مضمون الفيلم.
هكذا كان أبو صدام رجلا يروى عن نفسه البطولات والأساطير لكنه في النهاية رجل مهزوم في بيته وفي عمله وحتى في نزواته، والطريق الذي كان يظن أنه يملكه يهزمه مرة أخرى حينما يحتجزه ضابط الكمين لتأديبه جراء شكاية أمرأه من المترفين أرادت أن تتخطاه على الطريق.
أبو صدام يسأل عن الشرطي “بدير” لينقذه من احتجاز الضابط لكن “الصول بدير” تقاعد منذ زمن في إشارة لسطوة أبو صدام التي ولت وتقاعدت بعيدا عن دائرة الفعل وهذا معادل رمزي لعنتريات الذكورة التي أرادت صانعة العمل النيل منها واحالتها على المعا.
أبو صدام دائم التحسس لخدوش طلاء سيارته وكأنه يضمد جروحه جراء عراكه مع الحياة التي أمعنت في هزيمته. هكذا كان فيلم “أبو صدام” حاله تشفي في بطل مهزوم يحمل ذكورته وعنترياته المزعومة على كتفيه يحاول أن يحكم سيطرته على كل من حوله لكن الأمور تغير وزمن العنتريات يبتعد أو هكذا تمنت خان بحسها الانثوي الذي يحمل إرثا من القهر والقمع والغليل النسوي الجمعي.
تخرج بنا كاميرا نادين من قمرة القيادة وتتخلص جزئيا من اللقطات القريبة والديالوجات المطولة والاتصالات التليفونية المتكررة وتأخذ لقطات تسجيلية لشوارع المدينة البعيدة يصاحبها موسيقى الأرغن الاثيرة مما يجعلنا نتنفس بعد الاختناق داخل قمرة السيارة.
ربما كان طموح فريق العمل أكبر كثيرا مما رأيناه على الشاشة. وقدم محمد ممدوح وأحمد داش أداء يفوق آمال السيناريو الذي كتبه محمود عزت.
فيلم “أبو صدام” رغم القالب الضيق والتيمة العرجاء والسيناريو التقليدي والطرح الجندري، خطوة على طريق مخرجته التي تحمل جينات العبقرية، لكننا نتمنى في المرة القادمة أن تخرج هذه الجينات من الشريط الوراثي لشريط السينما.