«آيكا».. مدينة بلا قلب
يحقق الفيلم الروسى الكازاخستانى «آيكا» تأثيره المذهل من جعل متفرجه شريكا فى معاناة بطلته، ينقل إلينا مرضها وخوفها وجوعها وصلابتها وضعفها، يضعنا معها وسط جليد موسكو، وهدير الحياة فيها، ولكنه يحقق أيضا تأثيره الأكبر والأكثر ذكاء، بتحويل حالة آيكا، المهاجرة الكازاخية التى يحمل الفيلم اسمها، إلى دلالة اجتماعية وسياسية خطيرة، معاناتها سببها أنها تعيش فى مجتمع بلا رحمة، من لا يعمل يمكن أن يموت، بعد أن كان مجتمعا يهتم بتوفير الرزق والعمل للجميع.
محنة آيكا تكشف عن سطوة المال، وقسوة الحياة، وضآلة شأن المهاجرين، تبدو الحكاية مؤلمة حقا، إذ لا يوجد شىء إنسانى أو طبيعى، إلا المشهد الأخير، حيث تعود آيكا من جديد إلى المستشفى، تأخذ وليدها الذى تركته، ترضعه، هنا فقط تخرج الدموع الحبيسة من عينيها، عادت إليها إنسانيتها لمدة لحظات، نحن نعرف أنها لن تدوم، ينتهى الفيلم الذى أراه سياسيا بامتياز، رغم أنه يبدو فيلما إنسانيا بسيطا، ذلك أنه يقول رأيا فى التحولات التى جرت، فصار الكازاخى لاجئا أو مهاجرا، بعد أن كان مواطنا سوفيتيا، وهكذا اضطرت أم أن تترك طفلها بعد ولادته مباشرة، لكى تبحث عن عمل، ولكى تجمع أموالا.
السيناريو الذكى لن يخبرنا عن سبب هروب الأم فى المشاهد الأولى، ولكن سيتركنا نظن بها الظنون، تلتصق الكاميرا بها، تسير خلفها، تدخل معاها السراديب، فكأنها تشاركها الرحلة الغريبة، فنشاركها نحن أيضا، تذهب آيكا إلى مكان لإعداد الدجاج، تشارك فى تنظيف الدجاجات بعد ذبحها، عندما تخرج أحشاءها، وعندما يزيدون سخونة الماء لنزع الريش، لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من إسقاط حالة الدجاجة على آيكا وظروفها.
بين الأبيض الناصع لون الجليد، والأحمر القانى لون الدماء التى تنزفها آيكا، نبحث معها عن وظيفة، لم يعد تصريح العمل صالحا، زميلة لها حصلت على مكانها، لن تجد عملا إلا بتعاطف امرأة كازاخية أخرى تعمل فى عيادة بيطرية، هناك تشاهد كلبة ترضع أبناءها، بينما هى هاربة من وليدها، الحيوانات تعالج بمنتهى الاهتمام، بينما صارت هى على وشك التسول، خائفة ومطاردة ومهددة بالموت، إذا لم ترد أموالا اقترضتها، لكى تنشئ مصنعا صغيرا لحياكة الملابس.
تعيش آيكا فيما يقترب من المخبأ المزدحم، تذهب إلى طبيبة تقبل تأجيل دفع الأتعاب، لولا ذلك لماتت آيكا، امرأة قوية جدا، ولكنها فى ظرف استثنائى، رحلتها للحصول على عمل، ولجمع أموال الدائنين، وهم أقرب إلى عصابة شرسة، تستغرق خمسة أيام فقط، ولكنها تحكى تحولات سنوات طويلة، تفشل فى الحصول على عمل، تقول لمن يطاردها قصة طفلها، والده ضابط روسى اغتصبها، من روسيا الحاضنة، إلى روسيا التى تغتصب المهاجرين، معنى محتمل ومؤلم.
عندما تستلم الطفل، تأخذه ليرضع، كان حليب صدرها يؤلمها، فتتخلص منه، أمومتها تهدد حياتها، الآن عادت أما من جديد، لا شىء يدل على أن آيكا سترتاح، طفلها صار معها فى دائرة الخطر والمجهول، فى المدينة التى صارت بلا قلب، ولكن آيكا نجحت فى أن تسترد إنسانيتها، ولو لدقائق قليلة.
تحقق الممثلة الكازاخية سامال يسلياموفا فى دور آيكا أداء استثنائيا، فازت عنه بجائزة أحسن ممثلة فى مهرجان كان 2018، وينجح المخرج سيرجى ديفورتسيفوى فى اختيار الأسلوب المناسب للرحلة، كاميرا تتحرك بحرية إذا تحركت آيكا، وتثبت إذا وجدت مكانا، الكاميرا مثل بطلتنا مهتزة حائرة، وهى أيضا تتأمل مجتمع المنافسة والبقاء لمن ينتهز الفرصة، تطول المشاهد لأنها تسجل التفاصيل، وتنقل بالضبط أحاسيس البطلة، ألوان شحيحة محدودة، الأبيض والأزرق والأسود ألوان الموت، لا يغلق الفيلم أقواسا أبدا، ولكن معاناة آيكا تكشف سخافة كلام رجل الأعمال الشاب الذى يتحدث عن مجتمع يتيح الصعود والثراء لمن يعمل.
تظل فى الذاكرة صورة الدجاجة الذبيحة التى يغرقونها فى الماء الساخن، تنتف آيكا ريشها، تُخرج أحشاءها، تأخذها معها لتأكلها فى بيتها، لا تعلم ما يربطها بالدجاجة، ولا تدرك أنها فى مسلخ المدينة.
عن “الشروق”- 3 يناير 2019