“آل فابيلمان”.. سردية سبيلبرج عن السينما
خالد عبد العزيز
إذا كان الكتاب والأدباء، يسعون في مرحلة ما لتدوين سيرة حيواتهم، واستعراض ما عبر عليهم من ذكريات، فمخرجو وصانعو السينما لهم في هذا المجال قدر لا بأس به، وكل منهم يُعبر عن ذاته ورؤيته للحياة، وفق نظرته النابعة من خبرته وتجربته المُمتدة، سواء في جانبها الذاتي أو ما يقابلها من شقها الفني.
في هذا الإطار يأتي الفيلم الأمريكي “آل فابيلمان” أو The Fabelmans إنتاج عام 2022، إخراج فنان السينما المخرج الأمريكي “ستيفن سبيلبرج”، الذي يقول في أحد اللقاءات إن معظم أفلامه مستوحاه من أمور عايشها ومر بها، ففي هذا الفيلم لا تتناثر لمحات من ذاكرته أو حياته السابقة فحسب، لكنه يعرضها بكل ما فيها، دون تكبد عناء تنقيتها من أي شوائب إنسانية لا تخلو منها حياة البشر.
ولأن السينما تُشكل العصب الرئيسي لحياة مخرجنا، فالفيلم – في الأساس- يدور في فلكها، حيث يتناول سحر السينما وقوتها وقدرتها على التغيير، وذلك عبر طرح قصة حياة “سبيلبرج” وبيان مدى تأثير الفن السينمائي عليه، وبالتالي يُمكن القول إن مضمون الفيلم له بُعدين: أحدهما مباشر، والأخر مُبطن مُستتر، يكمن بين طيات العمل، وفي حاجة لقراءة متأنية.
“سام فابلمان”- معادل شخصية سبيلبرج نفسه، يلج بوابات عالم السينما للمرة الأولى في سن السادسة، ومن بعد هذه الزيارة الخاطفة، تتبدل حياته فجأة، وتُصبح السينما ركناً أصيلاً في تكوينه، تُرى كيف تسير الحياة على هذا النحو؟ هذا ما يُجيب عنه الفيلم عبر سيناريو ذكي حساس شارك في كتابته “سبيلبرج” مع كاتب السيناريو “توني كوشنر” الذي سبق وساهم معه في كتابة عدة أفلام، مثل “ميونيخ” و”لينكولن” و”قصة الحي الغربي”.
سرد بين قوسين
يقول الكاتب والمحاضر الأمريكي “روبرت مكي” “حين تنظر إلى الموقف المُحمل بالقيم، في حياة الشخصية عند بداية القصة، ثم تُقارنه مع القيمة المُحملة في نهاية القصة، فلا بد أن ترى قوس الفيلم”، فلكل فيلم أو قصة ما، قوسه الإفتتاحي وقوسه الأخر الذي ينغلق تلقائياً، مع صعود القصة لذروتها، وهبوط الأحداث تدريجياً وصولاً للنهاية المحتملة.
وبالنظر لفيلمنا نجد أنه يرصد حياة البطل “سام فابيلمان” (جابرييل لابيل) في فترة مُحددة من حياته تستغرق ما يقرب من الثلاثة عشر عاماً، فالبداية مع المشاهد الأولى التي تبدأ في يناير 1952 في ولاية نيوجيرسي، نرى فيها الطفل “سام” برفقة والديه، أثناء ذهابه للمرة الأولى إلى السينما، ومُحاولة الوالدين إقناعه بترك خوفه وتوجسه من السينما وظلامها الدامس، وعندما يبدأ الفيلم وهو “أعظم عرض في العالم” لـ”سيسيل ب. دوميل” وعلى نحو أكثر دقة، أثناء مشهد تصادم القطار المُندفع بالسيارة المُعطلة، يُصاب الطفل ذو السنوات الست، بالإنجذاب نحو عالم الخيال السينمائي، وهوما سيجعل حياته تتغير وتتُبدل تماماً. عند هذا المشهد التأسيسي، الذي تقع أحداثه داخل قاعة العرض، يُمكننا تحديد القوس الأول في الحكاية، أما القوس التالي فسيأتي تدريجيا مع مشاهد النهاية، عند بلوغ الطفل سن المراهقة وبدايات الشباب، ومُقابلته لمخرجه المُلهم “جون فورد” في منتصف الستينيات.
نسج السيناريو الأحداث التي تقع بين هذا القوس وذاك، في سرد خطي تقليدي، بدون أي انحرافات زمنية، أو استعراض عضلات درامية، وما بينهما تنساب المشاهد والأحداث في تدفق سردي لا يُصاب بلحظة ترهل واحدة، فالإيقاع مشدود مُحكم مُنضبط، فيما بين القوسين، نُتابع حياة بطلنا وبدايات إنجذابه لعالم السينما، وتعاظم هذا الإنجذاب وتحوله من درجة المُشاهد المجذوب، لصفوف الصناع، ورغبته الدائمة، في خلق حكايات وأفلام مثل التي يراها تتدفق أمامه على الشاشة، باحثاً عن سر هذا التعلق الأبدي بالسينما، ولماذا يندفع بلا هودة نحو هذه الحياة المُختلقة؟
ذاتية السينما
بعد أول زيارة لقاعة العرض ينجذب “سام” نحو الحكايات المعروضة على الشاشة، تتحول حياته من حياة خاملة لا طافة فيها، إلى طوفان من الخيال ينطلق بلا توقف، نراه في أحد المشاهد يمارس الألعاب الطفولية المُستقاه من الأفلام، مثل المومياء وغيرها من الألعاب ذات المرجعية السينمائية، وعند وصوله مرحلة المراهقة، يُمسك بالكاميرا التي اهدته إياها والدته، ويبتكر أفلاماً قصيرة يعرضها في نشاط الكشافة المدرسي، تُقابل بقبول وترحيب من التلاميذ آنذاك.
وهكذا يستمر السيناريو في سرد المراحل الزمنية للشخصية، كاشفاً عن تعلقها الأزلي بالحكايات والقصص، فالفيلم يخلق سرديته الخاصة والذاتية عن السينما، فالمعني هنا هو “سبيلبرج” ذاته، وما نراه على الشاشة ليس سوى مذاكراته الشخصية، يُعبر عنها بحرية ووفق رؤيته الخاصة، مثلما فعل غيره من السينمائين في صنع أفلام ذاتية عنهم وعن عشقهم للسينما، مثل “فيلليني” في “ثمانية ونصف”، و” جوزيبي تورناتوري” في “سينما باراديزو”، وغيرهم الكثير، وهنا ينتقل مُخرجنا من خلف الكاميرا، إلى أمام عدساتها، في لعبة تبادلية يؤديها بمحبة ورهبة في آن، تُصبح حياته وعائلته هي البؤرة الذي يُسلط عليها الأضواء.
فنحن أمام أسرة تقليدية للغاية، الأب “بورت فابيلمان” (بول دانو) يعمل في مجال الهندسة الكهربائية، والأم “ميتزي فابيلمان” (ميشيل ويليامز) عازفة بيانو، وطفل وحيد بين ثلاث شقيقات، تُشكل السينما حيزاً رئيسياً من حياته، مقابل تطلعات الأسرة في الإتجاهات المضادة، فقد رسم السيناريو البيئة العامة للأحداث، مُفخخة بالألغام الدرامية، التي تُعيق البطل عن الوصول لهدفه، في تطبيق جيد وحرفي لمبادئ الكتابة السينمائية، وكلما تقدم “سام” خطوة كلما تكاثرت عثراته، في تناسب طردي بينهما.
في السينما حياة
في أحد المشاهد يواجه “سام” والده في مشاداه كلامية تتعلق بمستقبله المهني ودراسته، يرى الأب أن التصوير والأفلام ما هي إلا هواية، بينما يعتقد “سام” أن ما يفعله تعدى حدود الهواية ليدخل في دائرة الإحتراف، وهذا بالفعل ما يرغب فيه ويسعى إليه، وهنا تنشأ نقطة صراع بين الأبن ووالده، فالصراع هنا لا يتعلق بتحديد الأولويات أو تحقيق الأهداف، لكنه ينطلق إلى ما هو أعمق، فالصراع هنا يتماس مباشرة مع الوجود، فالسينما عند “سام” حياة، ولا يستقيم مسارها بدونها، وإذا تخلى عنها أصبحت حياته خاوية بلا معنى، مثلما ترك التصوير قبل انتقاله للمرحلة الثانوية، عندها أصبحت أيامه تقليدية خالية من الحيوية والأنطلاق.
وعند عودته إليها يعاوده الألق والإنتشاء الدائم المُصاحب له ولشخصيته، فكما للسينما سحرها، لها قوتها كذلك، وتعبيراً عن هذه القدرة اللا نهائية، يضع السيناريو في أكثر من موضع على مسار السرد ما يدعم هذه الفكرة، فبعد رحلة العائلة للتخييم في الغابات مع “بيني لاوي” (سيث روغن) صديق الأب والعائلة، يعمل “سام” على مونتاج الفيديوهات المصورة وتوليفها معاً في وحدة واحدة، في تلك الأُثناء يعثر مصادفة على مشاهد مصورة للأم برفقة الصديق “بيني”، يُتابع عن كثب ما يُثبت تورط الأم في علاقة غرامية مع هذا الصديق المُقرب، وعندما يواجه أمه بتلك المشاهد، تُصبح الأم في وضع حرج لا تُحسد عليه، وهنا يتعرى تماماً “سبيلبرج” أمام المتفرج، بعيداً عن أي اكليشيهات أو ضوابط لا تُجدي مع الفن، فإذا أراد المُبدع البوح، فعليه الالتزام بالسياق بكل ما فيه من نتواءات.
أما حينما تستعين إدارة المدرسة الثانوية بخدمات “سام” لتصوير رحلة الطلاب للشاطئ، يُصبح الفيلم الناتج عن المشاهد واللقطات المُقتنصة، عربون محبة وتصالح مع زملاءه في الدراسة، الذين يرون فيه نموذجاً مختلفاً، يسير في درب مغاير عنهم، فللسينما قوتها وقدرتها على تغيير الواقع، وبل وقدرتها على كشف الحقيقة، ونزع اللثام عن المُستتر الذي لا يُدرك أحد عنه شيئاً.
الفيلم لا يعني بالمقام الأول بسيرة “سبيلبرج” فقط، بل يمتد لتداول فكرة السينما وتأثيرها وعالمها، وهنا يكمن مواطن سحر وجماليات ما شاهدناه، حيث المزج بين العام والخاص بحساسية مرهفة، تبدت في التعبير بذكاء وعذوبة عن ماهية السينما كما يراها “سبيلبرج” الذي يقول “أحب رائحة الفيلم، وأحب معرفة أن هناك فيلما يمر عبر الكاميرا”، وهذا فيلم يجعل حواسك الخمسة في تناغم وتماهي مع عالم الأحلام، الذي لا تتوقف أشباحه عن التحرك بحرية، باحثة عن صوت مألوفة نغماته، يصيح بأعلى ما فيه قائلاً “أكشن”