نموذجان من سينما الكاتب ماهر عواد

ليلى علوي وممدوح عبد العليم في فيلم "سمع هس" ليلى علوي وممدوح عبد العليم في فيلم "سمع هس"

ﻻشك أن الكاتب ماهر عواد صاحب تجارب سينمائية قليلة في السينما المصرية، ولكنه صاحب أسلوب واضح ومميز في الكتابة تمكن من خلق شكل سينمائي جدير بالوقوف عنده فقد بدأ مشواره بفيلم “الأقزام قادمون” ثم قدم “يا مهلبية يا” و”الدرجة الثالثة” و“سمع هس” و“الحب في الثلاجة” و”صاحب صاحبه” و”رشة جريئة”. والملاحظ أن العامل المشترك بين كل هذه الافلام رغم قلتها، أنها تحمل فكرا وأسلوبا مختلف ومميزا لصاحبها الذي فضل أن يعمل مع اثنين من المخرجين فقط.. فقد بدأ مشواره مع المخرج شريف عرفه الذي أخرج “الأقزام قادمون” و”الدرجة الثالثة” و”يا مهلبية يا”، “وسمع هس”، ثم تعاون مع سعيد حامد الذي أخرج له “الحب في الثلاجة” و”رشة جريئة”، وآخر أفلام عواد “صاحب صاحبه”. وهنا يثار التساؤل الهام إلى من ينسب الفيلم إلي المخرج أم إلي المؤلف؟

فالفيلم ينسب عادة لمخرجه فهو يقدم رؤية المخرج للسيناريو، لذلك يذوب دور المؤلف مع المخرج. ولذلك سأتناول تعامل المخرجين مع سيناريوهات ماهر عواد ومدى اختلاف التناول السينمائي من خلال نموذجين متقاربين لكل مخرج فالأول شريف عرفه في فيلم “سمع هس”، والثاني سعيد حامد في “رشة جريئة”.

عادة تحدث تعديلات من المخرج علي السيناريو النهائي حتى يصلح للتقديم على الشاشة، ولكن ما مدى مرونة هذه التعديلات وتأثيرها على الفيلم نفسه حتى لا تضر بالنسيج العام للفيلم ومدى وجود عواد للإشراف علي هذه التعديلات وتنفيذها وهوما يظهر برأيي في مدى التناغم الكامل للعناصر الفنية للفيلم. فالفيلم سيمفونية كاملة يقودها المخرج الذي يعد المايسترو فأي خلل سيؤدى إلي نشاز واضح في الفيلم.

إن الفن وحاله دائما هو ما يشغل بال ماهر عواد في أفلامه، فموضوع الفن هو القاسم المشترك في جميع أفلامه سواء كان بشكل صريح وواضح كـ “سمع هس” و”رشة جريئة”، أو بشكل مستتر وجانبي كما في “الدرجة الثالثة” و”صاحب صاحبه”، فدائما ما نجد شخصية الفنان الموهوب الذي يكافح من أجل إيصال فنه إلي الجمهور وحال الفن ذاته ومدى تأثر المجتمع بالفن والتأثير والتأثر منه.

تميزت سينما عواد بثرائها في الاستعراض الذي يشكل جزءا أساسيا من الفيلم مما يشكل حالة من الثراء الفني للفيلم، فدائما ما تميزت أفلامه بوجود استعراضات وأغاني معبرة جدا تخدم أحداث الفيلم وتعتبر جزءا من سياقه العام، ويتم توظيفها بشكل درامي يخدم السياق العام للفيلم كما في فيلم “سمع هس” الذي يحتوي علي استعراضات طويله نسبيا قياسا لزمن الفيلم ولكنها جزء لا يتجزأ من الفيلم وقدمت بشكل سلس كاستعراض الفلوس والاستعراض الأخير والذي يشكل ملخص لحرب حمص وحلاوة أمام الجميع.

والتجربة الفريدة في ذاتها فيلم “الحب في الثلاجة” أول تعاون بين عواد وحامد والذي يعتبر من أكثر الأفلام احتواءا علي الاستعراضات فالفيلم ذو طابع فانتازي حيث أنه تناول صراع شخص ضد قوى كبيرة وكثيرة في حياته بشكل فانتازي غنائي نستعرض فيها المشاكل الاجتماعية التي تحيط بالشاب داخل المجتمع والأحلام المجمدة والكذب الذي يواجهه الشاب في المجتمع بالإضافة إلي تغيير العادات الاجتماعية للأسوأ ورصد هذا.

ماهر عواد كاتب متأثر جدا بالمجتمع يحاول رصد مشاكله ومعالجتها بأسلوب سينمائي مختلف، وهنا سنتناول فيلم سمع هس للمخرج شريف عرفه كنموذج للتعاون فيما بينهما.

سمع هس

ليلى وممدوح “سمع هس”

تدور أحداثه حول حمص وحلاوة، وهما زوجان من الفنانين المطحونين الذين يحاولون جاهدين الوصول بفنهما إلي جمهور ولو بسيط ويكسبا من الفن لقمة عيشهما عن طريق استغلال أحد الألحان الخاصة بهما والتي يكون لها طابع مميز ليساعدهما على المعيشة، ولكن يتم تسجيل اللحن من خلال رجل البيانوﻻ الذي يبعيه إلي غندور ليسرقه منهما ويغني به أغنية وطنية وهو المطرب المشهور صاحب السلطة والنفوذ والمال فتبدأ المواجهة بينهم حول اللحن وحول أحقية اللحن

حمص وحلاوة هما الشخصيتان الرئيسيتان في الفيلم وهما الزوجان الفنانان اللذين مرا بمراحل كبيرة وشاقة محاولين فيها البقاء أحياء فهما من الشخصيات الثرية التي تم استغلالها بشكل مبهر لإبراز معاناة الفنان المغلوب على أمره الذي لا يجد من يحميه حتى من أهل الفن ذاتهم أصحاب النفوذ والمال.

وتتطور الشخصيات عبر السيناريو لتصل في النهاية إلي التحدي أمام المجتمع كله بجميع أنواعه لكي يصلوا بفنهم إلي المجد فإنهم الفنانون الحقيقيون الذين يحاولون حتي إثبات أنفسهم ولكنهم يجدون انفسهم في مواجهه أكبر من قدراتهم… فنحن هنا ليس أمام أبطال خياليين أو خرافيين يحطمون كل الصعاب حتي يصلوا إلي الشهرة، بالعكس فقد اختار عواد أن يكون بطلاه من البسطاء محدودي القدرات البدنية، وبالكاد يستطيعون حماية أنفسهم، وليس لهم حيلة أمام المال والنفوذ.. إنهما نموذجان لشخصيات حقيقية تستطيع أن تقابلها في أى مكان، تشاهدهما وهما يسيران في الشارع يحاولان استعراض فنهم أمام المقاهي.

أما غندور ذلك المغني المشهور فهو يتمتع بموهبة صوتية فعلا، ولكنه لا يخجل من أن يسرق مجهود أشخاص آخرين وينسبه إلي نفسه ورغم أنه يتمتع بالموهبة والشهرة والمال، لكنه يجارى السوق التجاري ولا يتردد لحظة في سرقة لحن أو كتابة كلمات تعبر عن تدني الذوق العام للجمهور من خلال أغنية أنا وطني التي تعبر عن انحدار كبير في ذوق المتلقي والذوق العام، حتى الذي يدافع عنها ويتشدد برأيه عندما يسمع أغنية حمص وحلاوة يكون سكيرا وغير واع بكلامه كأنها إشارة إلي أن المعجب بهذا الفن والمدافع عنه هو السكير غير الواعي والذي أصبح يستقبل جميع أشكال الفن بشكل يؤثر عليه بالسلب.

كلمات الأغنية التي كتبها كاتب وهو يتعاطي المخدرات، تعبر عن مدى انحدار الأغنية الوطنية في مصر بعد ما قدمه عمالقة الغناء في هذا المجال مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم. واستغل شريف عرفه تلك الأغنية الاستغلال الأمثل حيث لعب المونتاچ دور البطولة في هذه الأغنية، فنجد كلماتها غير المتوافقة حتى مع طبيعة المجتمع والحالة التي وصل إليها.. فنجدها تقول (شبابها يعمر ويخضر بسواعد نشطه) بينما نجد الصورة تقول خلاف ذلك فنجد المواطن البائس يجلس يستمع للراديو والأغنية علي مركب صغير في النيل وتظهر عليه جميع ملامح اليأس والإرهاق من الحياة ومصاعبها ونجد الشباب يجلس علي المقاهي بلا عمل، يدخن الشيشة.

بدأ عواد الفيلم بمشاجرة مفتعلة في المولد الشعبي بين اثنين من الأقزام حول جلباب ارتداه احدهم وادعي الآخر أنه ملكه وتنازع الطرفان وكأنها إشارة في بداية الفيلم بالصراع الذي سينشئ حول اللحن بين حمص وغندور، فلخص هذا المشهد الصراع وأتي ذكره علي لسان حمص في أحد المشاهد عندما قال “الجلابية دى بتاعتي” في إشارة منه إلي الصراع البسيط في بداية الفيلم وكأنه مقدمة لما سيحدث، ليتطور السيناريو حتى نصل للمشهد الأخير الذي يلخص الصراع الدائر في الفيلم في مشهد غنائي يعبر فيه الأبطال عن تحديهم لجميع الصعاب والعقبات والشخصيات التي قررت أن تقف في طريقهما ليختفي صوتهما أمام أصوات الناس الذين يحاولون إحباطهما إلا أننا نسمعهما بصعوبة يقولان انهما مع عام 2000 سيكونان في المقدمة فإن اليأس لم يتغلب عليهما بالرغم من التكاتف ضدهما. وهو مشهد متميز حيث جاءت كل شخصية لتعطى كلمتها لحمص وحلاوة.

أما أغنية “الفلوس” التي يصاحبها استعراض مميز جدا وهوما تفتقده السينما في مصر بشكل كبير فهي تلخص مشاكل حمص وحلاوة مع غندور. فالفنان البسيط الذي يبحث عن حماية له ولممتلكاته الفكرية التي تتعرض للسطو من أى شخص وهو مجرد من كافة حقوقه وابسطها المطالبة بحقه أمام القانون، والذي عبر عنه عواد بمشهد المحكمة المتميز وهو ما يحاول الفيلم قوله بل يحاول الدفاع عن شخصية حمص وحلاوة والتي تعبر عن كل فنان مظلوم ومقهور فعلا حتى في المطالبة بحقه.

هنا نجد أن شريف عرفه تعامل بمنتهي التناغم مع سيناريو ماهر عواد وأظهر الفكرة بشكل واضح وبتنفيذ سلس وممتع للغاية، مستغلا جميع الإمكانيات في الفيلم. ومن الجدير بالذكر أن عنصر الموسيقي، لعب الدور الأهم سواء في الاستعراضات أو الألحان، والتي وضعها مودي الإمام.

رشة جريئة

ياسمين عبد العزيز وأشرف عبد الباقي في فيلم “رشة جريئة”

تبدأ أحداث الفيلم بسلماوى ذلك الشاب الطموح الذي يحلم بالالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، ويستعد طوال الليل لإختبارات المعهد ويذهب ليقابل هناك ميما وهي طالبة ترغب هي الأخرى في الانضمام إلي المعهد ومعها شاب غير موهوب ولكنه ينجح في المعهد بناءا علي وساطة أحد الأشخاص، بينما يتم رفض سلماوى وميما بالرغم من موهبتهما، ولكنهما يصران علي التمثيل وتحقيق حلمهما سواء في المسرح أوفي السينما عن طريق العمل كـكومبارس.

يتعامل عواد هنا بشكل مقيد جدا يظهر من خلال السيناريو بعض التدخل المباشر من المخرج لإظهار الفيلم بشكل مختلف، ففي النصف الثاني من أحداث الفيلم نجد أن الفيلم أصبح غير منطقي والأحداث أصبحت غير منطقيه والتي بدأت بجريمة قتل المخرج شوكت وهروب ميما وسلماوي بشكل منافِ للمنطق في العديد من المشاهد حتى دخولهما غير المنطقي للتليفزيون وإرسال رسالتهما بشكل مباشر إلي المتلقي وكأنها تلقين حتى نجد وبدون أى مبرر درامي أو دافع في شخصية صبيح أنه اعترف بجريمة القتل، وأنه شعر بالذنب تجاه ميما وسلماوى وقرر الاعتراف بلا أى مبرر أو منطق سوي رغبة في إنهاء الفيلم نهاية سعيدة.

تتحقق هذه النهاية بوصول ميما وسلماوى إلي أمجاد الفن، بينما نجد في النصف الأول من الفيلم بروز رؤية عواد الواضحة بسلاسة الأحداث ومنطقيتها أو وضوح الفكرة بلا أي خطابة، ونجد المشهد المتميز جدا والذي تم استدعاءه وهو مشهد الأستاذ حمام وليلي مراد في فيلم “غزل البنات” تتم محاكاته بشكل عصري في “رشة جريئة”، مما يعكس تبدل حال الفن فبدل يوسف وهبي القامة الفنية نجد سامي العدل، وبدلا من محمد عبد الوهاب نجد شعبان عبد الرحيم، ونقارن بين حال الفن في زمن الفيلم وزمن فيلم “غزل البنات” وهي الإشارة التي أراد عواد أن تصل إلي المتلقي لكي يقارن ويري مدى ما وصل اليه الفن الغنائي ومدى تدهور الذوق العام وتبدل الفيلم والرموز، بل حتي اللغة المستخدمة بين الناس وتدنيها نلاحظ كلمة طحن التي قالها العدل بدلا من كلام يوسف وهبي المتزن باللغة العربية.

من فيلم “رشة جريئة”

 ويستمر عواد حتي مشهد السيارة مستغلا تفاصيل صغيرة في الشخصيات أكملت تلك اللوحة الفنية مثل سيارة صبيح والتي تعمد أن تكون من طراز قديم لخدمة هذا المشهد وطبيعة ملابس الشخصيات الثلاث ميما وسلماوي وصبيح، والذين كانوا في تصوير مشهد في فيلم تدور أحداثه إبان ثوره 1919 ويرتدون ملابس قريبة من فيلم “غزل البنات” للتأكيد علي تلك الإشارة بالإضافة إلي تنفيذ نفس حركات نجيب الريحاني لنقارن بينه وبين أشرف عبد الباقي حتي تكتمل اللوحة ويكتمل لوم عواد للمجتمع وصناع الفن علي الحال الذي وصل إليه الفن في مشهد يتسم بالتلقائية والحزن الدفين جدا. وأيضا اختيار اسم شخصيه سلماوى المنبثق من السلام وهي إحدى صفات الحمام وهو اسم شخصية نجيب الريحاني في الفيلم وهي تفصيلة أوجدها عواد لخدمة الفكرة.

وهناك مشهد كسر الإيهام قرب نهاية الفيلم عندما يقرر سلماوى أن يقول للضابط “هو مفيش غيرك في الفيلم ده”، وهو ما يحتمل تفسيرين الأول الفيلم الذي يعيشه أبطال العمل فعلا والجو الغريب واستنكار وجود ضابط واحد ترك البلد كلها وتفرغ لهم فقط، والتفسير الآخر لكسر الإيهام هو جعل المشاهد ينتبه إلي أن هذا فيلم أي حدوتة يجب الانتباه لمحتواها وينسي الانشغال بأحداثها ويجب الانتباه لميما وسلماوى كقضية ومعني ورمزا للفن الضائع.

رغبة سعيد حامد في التعامل مع السيناريو بمنطق أفلام السوق التجاري أدى إلى وجود بعض التدخل الذي ظهر في ارتباك حدث قرب النهاية في السيناريو، ولكن إذا ما نظرنا إلي شخصية ميما وسلماوى نجد أنهما الامتداد لشخصية حمص وحلاوة بعد سنة 2000 كما تعهدا في نهاية الفيلم وانهما كما هما بل حدثت تغيرات أسوأ، ولم يتم تحسين ظروف الفنانين ولم ينتبه أحد للقضية، فنجدهم في نفس الدائرة مرة أخرى بظروف مختلفة.

https://www.youtube.com/watch?v=lr8EJl-_9nw
Visited 71 times, 1 visit(s) today