“مونوغرافيات” قيس الزبيدي كتاب لكل عشاق السينما

على الصفحة الاولى من كتابه الجديد كتب ليّ الصديق الفنان السينمائي العراقي قيس الزبيدي:صديقي وأخي عصام الياسري علك تجد في كتابي بعض المتعة؟ وأستطيع ان اقول إن من يقرأ كتاب “في الثقافة السينمائية – مونوغرافيات” لا يحصل على متعة كاملة إنما يحصل على زاد معرفي كثير لانه كتاب فريد من نوعه ربما ليس في المكتبة العربية إنما في المكتبة العالمية.

وكما كتب مقدمه الناقد السوري زياد عبد الله ان الكتاب: “رصد نقدي لأكثر من مئة كتاب صدر في الوطن العربي ليجعل منه مؤلفه قيس الزبيدي نافذة واسعة تطل على الجوانب المختلفة والمتعددة لفن السينما! ونجد “في فصوله رصدًا نقديًّا وفنيًّا للعديد من التجارب والظواهر السينمائية في العالم، ويحتوى على الكتابات التأسيسية التى تلزم لبناء الزاد المعرفى لكل مهتم ومحب لفن السينما”.

ينشغل الفصل الاول ببداية اختراع الصورة الفوتوغرافية بدءا من البصريات العربية واختراع الفوتوغراف: الكتابة بالنور الى بداية الصورة المتحركة: السينماتوغرافيا: النحت في الزمن الى اختراع الفونوغراف.

وينشغل الفصل الثاني بأهم كتابين حول نظرية فن السينما صدرا في المانيا وهما: من كاليغاري الى هتلر والشاشة الشيطانية، إضافة إلى أهم كتاب صدر في مصر في الخمسينيات الى اهم كتاب صدر في فرنسا ـ علم جمال وعلم نفس السينما لميتري ـ هنا يعرفنا المؤلف بمنطق الفيلم ومفارقات الزمن وصورة الفيلم التي تجمع بين الماضي والحاضر.

وسيبدا الفصل الثالث بصباح خير السينما في منهج يتناول منطق البحث عن التجريب لاكتشاف قدرة الصورة المتحركة في خلق الفن السابع: افلام التجريب الاولى ومتعة تذوق السينما كفن وفروقات الاستعارة الشعرية في الادب والسينما، الى دخول السينما عالم الحداثة.

وطريف الفصل الرابع: ما هي السينما؟ انه يتناول طرق وأساليب الكتابة والإخراج عند  الموجة الجديدة في السينما وسينما المؤلف الى اساليب الاخراج عند الذين يحبون السينما التي لا تحبهم: وسنقرأ كيف يتعرض غودار في فيلم “الصينيون” الى اطفال ماركس والكوكا كولا! ونقرأ في الفصل الخامس عن المختبر الابداعي وعلاقة النقاد بالسينما وكيف يتعرضون في حوارهم الى الأفلام وكيف يمكن للنقد والتقويم ان يساهم في تدريب الحاسة النقدية ومهمة الناقد السينمائي وأسرار النقد في الكتابة عن السينما والأفلام وحول المعادلة الصعبة في انجاز ما يُحكى في الرواية وما يُحكى في السينما؟

وبعد قليل من الصبر لن نعود إلى قراءة فصول الكتاب فصلا بعد فصل انما نصل باستمرار في تتابع منهجي الى علم جمال السينما وجماليات الفيلم ومساراته ليس فقط في الافلام التي نشاهدها إنما ايضا في تلك الافلام التي لم تنجز وبالتالي لن يتسنى لنا رؤيتها!

وقد يبدو هنا ان نستمر لنعرف القارئ بمحتويات الكتاب الذي يتعرض ايضا الى مهنة كتابة السيناريو عن الاديب الكبير نجيب محفوظ والى خصائص السينما في العالم الثالث وعن المخرج الايراني والشاعر كريمستاني: يلقب بذئب الشعر والسينما المتربص الذي ورث موهبة غنائية ترى الجمال والحياة وسط حتمية وجود لا يطاق، ويعد أول شاعر بصري وضع السينما الإيرانية على خريطة العالم بعد ان سار في طريق:

من أجل ألوصول إلى الجنة/ يتحتم العبور/ من طريق الجحيم.

وعلينا ان نذهب الى السينما في رحلة طويلة كما فعل سيد فيلد لنكتشف من جديد ارسطو الذي يعاد  طريقته المدهشة والمثيرة  في “التماهي” حيث  تعود من المسرح اليوناني الى افلام هوليوود لتخاطبنا لكننا سنكتشف ايضا غريمه المُغترِب والمُغرٍب برتولت بريشت الذي ذهب بدوره الى هوليوود وكتب:

عند كل صباح

    لكي اكسب قُوتي

        أذهب الى السوق

              حيث تباع الاكاذيب

               وانا

                   حافل بالأمل

                    اصطف بين البائعين

نتعرف أيضا على الكاتب العظيم غابرييل غارسيا ماركيز وواقعيته السحرية في السينما الذي ربما لا يعرفإلا القلة من محبيه تلك العلاقة الوثيقة بينه والسينما وإلا بعض الافلام التي حولت من رواياته الى السينما مثل “حكاية موت معلن” و”الحب في زمن الكوليرا” لكنه كتب سيناريوهات كثيرة ونظم ورشات لتطوير القصص والحكايات في مدرسة سان انطونيو دي لوس بانيوس الدولية للسينما والتلفزيون، ليتم تحويل الحكايات، بعدئذ، إلى سيناريوهات في ورشة ماركيز الدائمة في المكسيك، والهدف من ورشاته دعم المدرسة مالياً.

تتوالى إذن فصول الكتاب بحيث يضم كلٍ منها مجموعة من حرفيات السينما، مناهجها ومصطلحاتها وأسرارها، ونتعرف فيها على اهم التيارات السينمائية والأفلام والمخرجين:

الملك أورون ويلز: يؤسس عرش اللقطة/ المشهد. الايطالي فيلليني: يرى أن أفلامه السينمائية هي أولاده، أما التلفزيونية فهي أشبه بأبناء إخوته.

غلاف الكتاب

بينما نتعرف على انطونيوني اثناء ما يكون في الصحراء ليرسم قصة عن البحر. ويخبرنا بازوليني انه فضّل غرامي على ماركس، ولعبت أفكاره كما يقول: „دوراً أساسيا في تكويني… وكان لأصدائها في داخلي تأثير حاسم“. مما جعل بازوليني يعارض ميل حزبه الشيوعي للحكم على الادب من وجهة نظر سياسية ليضع التساؤل التالي: أن أولئك الذين مع اليسار في الأدب، ليسوا دائماً معه في السياسة!

والمسألة التي تثير الاستغراب هي التشابه بين انغمار بيرغمان وارسون ويلز، فإذا ما أخذنا فيلم “الفراولة البرية” لبيرغمان وفيلم “المواطن كين” لويلز، فأين سنجد الصلة الفنية في معالجة الموضوع المتشابه عند الاثنين؟ اي البحث عن الطفولة الضائعة! يكتب بيرغمان:”الحقيقة أني أعيش دائماً وباستمرار في طفولتي، كما أني اسكن باستمرار في حلمي، ومنه أقوم أحياناً بزياراتي للواقع”!

يتابع أندريه فايدا في كتابه “الرؤية المزدوجة“ المراحل الأساس في عملية إنتاج الفيلم من ولادة الفكرة إلى السيناريو مروراً بالتصوير والمونتاج وحتى ليلة افتتاح، يجدها طقساً حزيناً، لأن الفيلم إذا نجح فسيأتيه بالمشكلات مع زملائه، وإذا لم ينجح فستنهال عليه أيضاً المشكلات. في حفل كهذا يتوقع المخرج حدوث كارثة.

وعبر ذات المظهر السياسي الصريح، سعى أنجيلوبولوس وتحت تأثير ماركس وفرويد أيضاً، إلى سبر الأوضاع الاجتماعية والسياسية، عبر تناوله لتلك الفترات التاريخية الهامة التي مرّت بها بلاده اليونان. ففي فيلم “الإسكندر الأعظم” وهو تأمل فلسفي- سياسي في مسألة السلطة ومعضلاتها يقول : “حاولت أن أصور مناضلاً من أجل الحرية ما إن يصل إلى السلطة حتى يتحول إلى طاغية مستبد! لم أكن أشير إلى مثال أو نموذج محدد، بل إلى خطر الفساد الذي يواجه كل شخص في السلطة”.

أما بالنسبة إلى التأثير السينمائي وابتكار “ميزان سين” مكانه الخاص من لقطات كانت غالباً تستغرق عشر دقائق تقريباً، فيعترف ثيو أنجيلوبولوس بأنه مستنبط من أفلام أرسون ويلز، وبالتحديد من استخدامه اللقطة الطويلة وعمق المجال البؤري والمونتاج الداخلي ومن توظيف تلك العلاقة المتزامنة بين الزمان والمكان.

كان وسط المخرج الشعري- حسب الناقد وولفرام شوت هو الزمن، الذي يتيح للمتفرج أن يخلق صوره الخاصة مما يعرض على الشاشة وحول هذا يقول أنجيلوبولوس “أريد من أفلامي أن تعطي المتفرج الإحساس بأنه ذكي ومتقّد الذهن، أن تساعده على فهم وجوده الخاص، أن تمنحه الأمل بمستقبل أفضل، أن تعلّمه كيف يحلم ثانيةً”.ويدعونا المخرج اليوناني أخيراً أن لا ننسى أن بعض الأفلام، التي تنجح تجارياً نجاحاً ساحقاً، سرعان ما تتعرّض للنسيان. بينما تترك أفلام أخرى، لا يشاهدها إلا جمهور قليل، بصمتها على تاريخ السينما.

ولعل كتاب شابرول الجديد „كيف يصنع المرء فيلماً“، هو من أطرف ما يمكن أن يُقرأ، لأن آراءه مملوءة بالمعرفة والسخرية في آن: “يستطيع المرء أن يتعلم من أفلام الماضي ويشرحها انطلاقاً من العواطف وصولاً إلى التحليل، لكن من دون أن يقول: هكذا فقط تُصنع الأفلام، فلكل مخرج طريقة خاصة في التصوير، تختلف عن غيرها، والطريقة الصحيحة عند هذا المخرج، تكون خاطئة عند مخرج آخر، بالتالي لا يحق لنا أن نتحدث عن مدارس سينمائية. ويؤكد شابرول: “ما أردت قوله في هذا الكتاب، لا يصح إلا على طريقتي الخاصة في الإخراج”.الطريف ايضا أن يجد شابرول نوعين من المخرجين: الحكواتي والشاعري، الحكواتي يحكي حكاية، لا تعبر عن رؤية خاصة للعالم، ولا يريد أن يوصل خطاباً معيناً إلى المشاهد، إنه يريد فقط أن يجد الشكل السينمائي الجذاب للحكاية التي اختلقها غيره. أما الشاعري فعنده رؤية للعالم، وهاجسه أن يعبر عنها ويوصلها إلى المشاهد.

كيف تصبح مخرجاً عظيماً؟ وضع اندرو ساريس في كتابه “السينما الأمريكية” هرماً صنف فيه المخرجين الأمريكيين إلى طبقات، وأطلق على الطبقة العليا „مجمع الآلهة“، وهي الطبقة التي انتمى إليها مخرجون عظام كغرفث وشابلن وأرسون ويلز وجون فورد و… والآن يأتي كين داسنغر بتصنيف مشابه للمخرجين، يضم مستويات ثلاثة: الأول: مخرج حرفي، متمكن من أدواته التقنية، يحقق نص الفيلم دون أية قراءة للمعاني المتضمنة فيه، وبالتالي لا يضيف عمقاً إلى معانيه أو مضمونه. والثاني: مخرج جيد يستخدم تفسيره للنص، ويضيف إلى معانيه معان، ليجعلها أكثر عمقاً، ويضفي على سرده تعقيده الواعي. والثالث: مخرج عظيم، يبحث عن معنى عميق متضمن في النص، يفسره بجرأة مدهشة، ويحقق تصوراً سينمائياً، غير مألوف، يردفه بصوت بصري قوي ورؤية خاصة للعالم.

يستكشف المؤلف، بشكل مفصل، أدوات الإخراج المهنية عند 14 من المخرجين المهمين، ويبحث، بوضوح، في كيفية استخدامها، وهدفه تقديم العون لمن هو محترف ليصبح مخرجاً جيداً، ولمن هو جيد ليصبح مخرجاً عظيماً. ولا يستثني المؤلف الموهوبين الشباب، بل يقدم لهم العون اللازم في تعلّم حرفة الإخراج.

تعرف الموسوعة الروسية المخرج أنه من يترأس المجموعة الفنية ويدرس المواد التاريخية أو المعاصرة ويوحِّد الجهود الإبداعية للفنيين، وينظم كل الأعمال.تبقى مسألة أنه “يَترأس” تَكمن في درجة المسؤولية والمواظبة والصحة والوضوح، وأنه “يَدرس” تَكمن في كشف ما هو جديد في المادة، وأنه “يُوحِّد” تظهر في صدام بين المادة والحياة الخاصة وأنه “يُنظِم” تَتم في صهر أفكار ومشاعر الناس غير المتشابهين في نوعياتهم النفسية.يحاول كوزينتسيف أن يتعرف إلى رأي أربعة مخرجين حول جوهر فن السينما:

رأي الأول، إنه المونتاج إذ ينكشف العالم من خلال حدة نظر العدسة ويتفكك إلى صور منفردة “لقطات” ليَتحد منْ جديد على طاولة المونتاج. ورأي الثاني، إنه شاعرية التصوير الدينامي والشعور بالزمن والتيار الذي يمر عبر الصور. ورأي الثالث، إنه عالم الإنسان الروحي الذي تكشفه الشاشة وتجعل ما يحيط به مرئياً. أما رأي الرابع فإنه التغلب على تسطيح التصوير وتجاوز تسطيح الشاشة وإيجاد „الشاشة العميقة“. الطريف أن الأربعة هم شخص واحد هو المخرج السوفييتي غريغوري كوزينتسيف مؤلف كتاب „الشاشة العميقة“ الذي هو واحد من أفضل المخرجين الذين قدموا هاملت شكسبير في السينما، إلى جانب عمالقة آخرين، بلغت السينما معهم سن الرشد، أولهم، طبعاً، الإنجليزي لورانس اوليفييه.

في كتاب كاتانيان “ثمن العيد الخالد- نقرأ سيرة باراجانوف وحياته الخاصة: مذكرات عن أعماله، أحاديثه ونزواته، غرابة أطواره، إضافة إلى رسائله من السجن.في الرابعة والستين، سمح له، أول مرة، بالسفر إلى روتردام، كواحد من أفضل عشرين مخرجاً في العالم، للمشاركة في احتفال 1988 “أمل القرن الحادي والعشرين”. وبدأ بعدئذٍ ينتقل من بلد إلى آخر، يتلقى الجوائز وتنهال عليه عروض العمل في أوربا وهوليوود „إنهم يجعلونني قرداً مروّضاً، لا أحب هذه الفنادق الضخمة ولا أعرف أن أقوم بفتح العدد الذي لا ينتهي من صنابير المياه في الحمامات، ولا أن أنام في أسرّة تجعلني أزحف على أربع، لأصل إلى الوسادة.. جذوري ومشاعري وآلامي في بيتي، ولا أريد أن أصور في بلد آخر”. وكتبت عنه “ليبراسيون”: „المايسترو الوحيد، بعد رحيل بازوليني، الذي يجعلنا نصدق الأساطير. محت السلطة من حياته خمسة عشر عاماً، وحرمته من إنجاز أفلامه، ولا تُوجد عقوبة جنائية، لم تُسجل ضده، ولا توجد خطيئة لم تُلصق به“

ويحتوي كتاب الثقافة السينمائية: مونوغرافيات الذي صدر في نهاية عام 2013 في سلسلة افاق سينمائية/ الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة على 192 صفحة واثنا عشر فصلاً هاماً من الناحية الحرفية والفكرية وغلاف بتصميم بسيط ذو مغزى موضوعي. وقدم له الناقد السوري زياد عبد الله قائلا:  في الإحالة إلى “مونوغرافيات في الثقافة السينمائية”، سيكون “المونوغراف” هنا تتبعاً للسينما من حسن بن الهيثم والفوتوغراف إلى أيامنا هذه، وبين المونتاج والميزان سين نجد مساحة لكل ما له أن يكون على اتصال بمفاصل تاريخ السينما، وليكون الكتاب في مساره السردي مستعيناً بما قرأه الزبيدي من كتب سينمائية صدرت بالعربية سواء المترجمة إليها أو المؤلفة بها، وعليه يمسي الأمر أشبه بكتاب في كتب، مع آلية مونتاجية تمنحها سياقاً زمنياً، وصراعاً درامياً تمارسه تلك الكتب بعضها مع بعض، فتتلاقح الأفكار، وتخرج منه مجتمعة على كل ما يريد قيس الزبيدي قوله لنا، وهو هام وملّح، ولي أن اسمعه أحياناً كنداء دائم وعميق أمام نداءات الاستغاثة التي على الثقافة السينمائية أن تطلقها في عالمنا العربي.


Visited 53 times, 1 visit(s) today