“في مهرجان برلين: الفيلم المصري المستعمرة”: نموذج لسينما الفقر

ليس المقصود من عنوان هذا المقال أن فيلم “المستعمرة”، وهو أول فيلم روائي طويل لمخرجه المصري محمد رشاد الذي عرض في قسم “وجهات نظر” بمهرجان برلين السينمائي الـ75، هو فيلم عن الفقر. قد يكون الفيلم كذلك بالفعل، لكن المقصود ليس الفقر الاجتماعي، بل فقر الخيال السينمائي، والعجز عن تطوير فكرة قد تكون لها جاذبيتها من الناحية النظرية، لكنها كانت تقتضي تدقيقا أكبر، سواء من ناحية السرد السينمائي (بناء السيناريو)، أو المدخل إلى التعامل الفني معها من خلال أسلوب الإخراج، بحيث نصبح أمام عمل فني جيد متماسك يبقى في الذاكرة.

ما يلفت الانتباه أولا، هو أن الفيلم- حسب تصريحات مخرجه- مأخوذ عن حادثة حقيقية. وهو أمر لا يضيف إلى الفيلم أو يدعمه، فقوة أي فيلم تأتي أساسا من داخله، ولا تتحقق الواقعية بشكل آلي، لمجرد أن الفكرة تستند إلى حدث حقيقي، بل ويمكن القول إن الفيلم رغم صورته الخشنة، وشخصياته الفقيرة التي تنتمي إلى قاع المجتمع، لا يشبه شيئا في الواقع. كيف؟

إن الشخصيات التي نراها هنا، وهي أساسا شخصية “حسام” (أدهم شكري)، وهو شاب في الـ23 من عمره، وشقيقه الصغير “مارو” (زياد إسلام) ابن الـ12 عاما، والأم (هنادي عبد الخالق)، وباقي الشخصيات مثل مدير المصنع، ومهندس الصيانة (إن وجدت) والشقي الذي يجلب المخدرات لحسام، كلها شخصيات تتحرك كما لو كانت أدوات اصطناعية، لا نعرف إن كانت حية أم ميتة، بل إن الأماكن المحدودة التي تتحرك فيها وخصوصا ما يطلقون عليه في الفيلم “المصنع”، كلها أماكن تشبه المقابر.

أما “المستعمرة” فهي المصنع الذي يعتبر أقرب إلى ورشة عتيقة تنتمي إلى القرن التاسع عشر: مجموعة من الآلات البدائية الضخمة الكائنة داخل بناء متهدم أيل للسقوط، أبرز ما فيها تلك الأقراص الحديدية التي تدور ولا نعرف لها أو للآلات التي تصدر صوتا مزعجا، أي وظيفة حقيقية، والبيئة قذرة متدنية لا تتوفر فيها أي شروط للأمان أو “السيفتي” safety وهي كلمة تتردد كثيرا في الفيلم بشكل مضحك على لسان مدير المصنع الذي يبدو أقرب إلى زعيم عصابة، فهو نفسه يظهر في شكل لا يقنعك بأنه “مهندس” كما يقولون، لكن هذه الصورة لابد أن تكون مقصودة أيضا، كما أن “المستعمرة” قصد أن تكون مثل “المقبرة”. خصوصا وان الفيلم يبدأ بعد مصرع والد حسام ومارو في حادث عمل أي أن هناك خللا وقع في إحدى تلك الآلات الشيطانية التي لا نعرف ماذا تنتج بالضبط أو ماذا تفعل (وهو نوع آخر من التجريد المقصود الذي يبعد الفيلم تماما عن الواقعية).

أما الحركة والحوار داخل الفيلم، فلم ألمح له أي صلة بالواقعية، فالحركة بطيئة روبوتية، والحوار يأتي على شكل نوبات متقطعة ولا يشبه أسلوب وطريقة أحاديث الناس في الشارع من تلك الطبقة، ويعاني الفيلم عموما من الترهل، وبهتان الشخصيات، وعدم تطوير الموضوع، والعجز عن الكشف عن التناقضات التي لابد أنها تصطرع داخل الشخصية الرئيسية (حسام) التي يضعف من تأثيرها ويبقيها على المستوى السطحي الخارجي من دون أي انفعالات أو مشاعر حقيقية، ذلك الأداء الضعيف للشاب الذي أسند إليه المخرج أداء الدور. وهو من غير المحترفين، شأن جميع عناصر التمثيل في الفيلم، وهنا مرة أخرى، فإن الاعتماد على غير المحترفين ليس ميزة في حد ذاته بل المهم هو ما يحصل عليه هؤلاء من تدريبات الأداء على يدي المخرج، ولكن الهدف كان على ما يبدو هو الاقتصاد في الميزانية رغم حصول الفيلم على دعم مالي من جهات كثيرة دون أن نرى أي انعكاس لتلك “الأموال” على الشاشة!

ما يلفت النظر أيضا في تصريحات المخرج محمد رشاد هو أنه قضى خمس سنوات في صنع هذا الفيلم، لا أعرف في ماذا بالضبط؟ هل في مرحلة الكتابة أو في التصوير والمونتاج؟ أغلب الظن أن معظم هذا الزمن انقضى في البحث عن ممولين للفيلم، وهو ما توفر من شركات ومهرجانات في السعودية وقطر وفرنسا وألمانيا بالإضافة الى الطرف المصري بالطبع.

 ما يؤكد ابتعاد الفيلم عن الواقعية رغم الشكل الخارجي للشخصيات، هو المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث وهو عبارة عن ورشة ضخمة بدائية تقع في وسط منطقة نائية شبه صحراوية، وهناك كلام عن “جبل البدو” حيث يلجأ الخارجون عن القانون (وهي فكرة نظرية مستمدة من أفلام الثأر القديمة في الصعيد المصري فلا توجد أصلا أي جبال في محيط الإسكندرية، والمفترض أن “حسام” كان قد لجأ إليه بعد أن انحرف عن الصوب وأصبح يعمل لحساب عصابة لتوزيع المخدرات، ولكنه يعود إلى أمه وشقيقه بعد وفاة والده لكي يتولى رعاية أسرته، فيعرضون عليه في “المصنع” أن يحل محل أبيه في العمل، كترضية مناسبة مقابل عدم تصعيد الموضوع أو المطالبة بتعويضات لن تصرف لهم على أي حال، أو إبلاغ الشرطة..

المخرج وبطل فيلمه في مهرجان برلين

إلا أن حسام يعود وهو يشعر بالمرارة والاضطراب، فهو من ناحية لا يشعر بالارتياح في العمل لأن الجميع ينظرون إليه في ريبة وتشكك بسبب ماضيه الإجرامي، كما يحاول من ناحية أخرى أن يتكيف مع عمل لم يدرب عليه، ويثبت إجادته له، رغم أن هذه الإجادة كما نرى في الفيلم لا تخرج عن نطاق إدارة تلك الأسطوانة الضخمة للآلة التي يعمل عليها والتي تظل تدور في الفراغ!

يصر “مارو” الصغير على الانضمام إلى شقيقه في العمل بالمصنع، ويهجر التعليم في المدرسة، ويظل يحرض حسام على ضرورة الأخذ بثأر الوالد الذي يشك في أنه “قُتل” بسبب إهمال عامل محدد، ولكن حسام متردد، يريد الابتعاد عن المشاكل، لكنه ربما سيحسم أمره في النهاية ويقوم بـ”الواجب” وإن كان الفيلم لا يوضح تماما هل قتل الرجل المتسبب في موت والده، جاء نتيجة خلل مفاجيء في الآلة التي كان يعمل عليها، أم أن حسام هو الذي دفعه نحو الآلة فمزقته. وقد تكون هذه تفاصيل غير مهمة طالما أننا لسنا أمام فيلم بوليسي.. ليته كان كذلك!

من أكثر مناطق الفيلم غرابة وشذوذا أن حسام بمجرد أن ينهي عمله في اليوم الأول بالمصنع، يتلقى مكالمة تليفونية من فتاة تقول إنها زميلته في المصنع، وأنها شاهدته، ونحن لا نعرف سبب اتصالها به، ولا يسألها هو السؤال البديهي: ماذا تريدين، بل يسألها بدلا من ذلك عن اسمها، ويظل يراقب الفتيات ويجري الاتصالات إلى أن يخبرها أنه عرفها جون أن نعرف نحن كيف. لكن هذا هو مستوى الإخراج..  وبعد أن يتوصل إلى شخصيتها ويراها وجها لوجه، لا يحدث أي تطور في هذه العلاقة، فالفيلم يمهد لنشأة علاقة قد تغير مسار الأحداث وتغير من سلوكيات شخصية حسام وتنقله إلى عالم مختلف، إلا أنها تنتهي كما تبدأ.

مخرج الفيلم محمد رشاد

طبعا الانحراف في مسار السرد في الفيلم يأتي عندما يطلب مدير المصنع من حسام تزويده بنوع جيد من الحشيش، ليصعد حسام مع شقيقه إلى “الجبل” الافتراضي، ثم يلحق بهما المهندس الذي يأتي بسيارته (لا نعرف لماذا لم يذهب الاثنان معه من البداية ولماذا كان ركوب الباص والتوقف وكل الثرثرة البصرية التي لم نر لها أي تأثير)، ويأتي الموزع بالحشيش في مشهد يعاني من الضعف الشديد في الإخراج وفي الحوار، بل إن الفيلم بأكمله يعاني من ضعف الإخراج، وكأننا أمام أحد أفلام الهواة، رغم وجود مدير تصوير كفء هو محمود لطفي (الذي سبق أن صور عددا من الأفلام المتميزة)، وهو يحاول الاستفادة من المكان في لقطات معينة مثل تلك التي تظهر بالقرب من شاطيء البحر، واللقطات الليلية التي تدور في “الجبل” ولكن الألوان في الفيلم عموما، تبدو، شأن معظم هذا النوع من أفلام “السينما المستقلة”، شاحبة باهتة ضعيفة، وكأن الفيلم غسل بمسحوق أضاع قوة الألوان. صحيح أن الألوان القاتمة الكئيبة تغلب على الفيلم لدواعي تحقيق التأثير الخاص المرتبط بطبيعة الموضوع، لكن حتى مثل هذه الألوان نراها في أفلام العالم أكثر وضوحا، بل إن مشاهد النهار تبدو كما لو كانت تدور في الليل.. ليس بسبب الظلال، بل نتيجة الضعف العام في مستوى الصورة. هل يرجع هذا إلى نوع الإضاءة، أو بالأحرى إلى غياب الإضاءة المناسبة، أم إلى نوع الكاميرا؟ أم إلى سرعة التنفيذ؟ لا أعرف. لكن المقارنة أمامي مع الأفلام الأجنبية التي تدور في أجواء كابوسية قد تكو مماثلة، واضحة تماما.

إن سينما الفقر قد لا يعيبها مناخ الفقر الذي تصوره بل يصبح ركيزة لتقديم رؤية شديدة القوة والرونق والتأثير، كما فعل ألفونسو كوارون مثلا في فيلمه الكبير “روما”، لكنه قد ينتهي بالفيلم إلى الوقوع للوقوع في شباك “السينما الفقيرة”. زهو ما انتهى إليه فيلم “المستعمرة” بكل أسف!