“منظر طبيعي في الضباب”.. ليس كل من ينظر يري

Print Friendly, PDF & Email

كثر هم من ينظروا، قلائل هم من يحدقوا، ومن يحدق لسوف يرى؛ سوف يرى وإن كان محاطًا بالضباب، الضباب الذي لا ينقشع ويحاوط أفكارنا من الميلاد إلى الموت، نسير خلاله حياتنا كلها بحثًا عن الجذور، بحثًا عن شئ نتعلق به ونعيش من خلاله حتى وأن لم يكن واضحًا تمام الوضوح.

 ثيودورس أنجلوبولوس ذلك اليونانى العبقرى هو من أولئك القلائل الذين حدقوا فى ذلك الضباب ليري منظرًا طبيعيًا ثم عاد لينبئنا برؤياه.

الأب الذي نبحث عنه

من خلال قصة الطفلين “فولا” و”ألكسندر” وخلال رحلة طويلة عبر بلاد اليونان شرع فيها الطفلان بحثًا عن خيال أبيهما الذي ذهب إلى ألمانيا وتركهما حسب رواية الأم يقص علينا “ثيو” نبوئته لكن قبل الخوض فى تفاصيل الرحلة علينا أن نسأل ماذا كان يقصد أنجلوبولوس بالأب؟ هل كان يقصد الأبوه بمعناها البيولوجى المباشر أم أن للرمز بعدًا أعمق من ذلك؟

قبل فك شفرة أى رمز يجب علينا ان نقرأ محيطه التاريخى والثقافى حتى يصبح جليًا لنا عن ماذا نتحدث.

إن الثقافه الغربيه ثقافة مسيحية والثقافة المسيحية ثقافه بطريركية وبالعودة لأصل كلمةpatriarchy  اليونانية سنجد أنها مكونة من مقطعينpater  بمعنى اب وarche بمعنى بداية أو حكم اى انها تعنى حكم الأب أو أن الأب هو المبتدى.

فـ “روبرتسون سميث” أستاذ الإلهيات الإنجليزي يرى أن المرحلة الأخيرة من الديانة السامية القديمة تقوم على أساس الأبوه وتتحد بها وإن المفهوم الذى ساد آنذاك يشكل القاعده التى كانت تنسب الابن إلى أصل أبيه، ومع قدوم المسيح وإعتباره ابنًا لله “ولأنه هو المعلم الوحيد وإن لا أب لنا فى الأرض لأن أبانا واحد فى السماوات” متى (9:23) و(10:23) جعل من الأبوه البشرية بكل صورها سواء كانت من آباء الكنيسة أو من الآباء البيولوجيين ما هى إلا إسقاط للأبوه الإلهية وإنعكاس لها.

إن أنجلوبولوس بروايته عن رحلة الطفلين يريد أن يعبر عن الإنسحاق الوجودى الذى يشعر به الإنسان الحديث عامة والغربى خاصة بعد إفتقاد لروابط وأواصر علاقته بأصوله، ذلك الإنقطاع الذى أدى إلى خواء روحى وخوف رهيب؛ فبعد أن كان للإنسان أبًا قادر على كل شئ محققًا للرغبات قادر على الحماية اختفى كل هذا وتركنا وذهب حتى أصبحنا فى شك أن أمره مجرد قصة مختلقه.

إن أنجلوبولوس يداعب الفراغ الذي بداخلنا جميعًا الذى يملؤه ذلك الأب بوجوده وتعلُق معظمنا به حتى وإن كان تعلقًا واهيًا.

الحياة محطات

إن إختيار أنجلوبولوس أن يكونا بطلى قصته من الأطفال له دلالته أيضًا كما اختيار رحلة البحث عن الأب لتكون خيطًا لحبكة الفيلم؛ فالطفوله براءة ولعب ورد فعل بكر لكل فعل، كما أنها قبل كل ذلك جهل تام بحقيقة العالم؛ فالطفل يسعى وراء رغباته دون تفكير أو حسبان حاسبًا أن العالم سينصاع له ويحقق له تلك الرغبات حتى يصطدم بتعارض العالم مع رغباته فيبدأ بأخذ من الخبره والنضوج ما يكفيه للتفكير والحسبان، وهنا فقط يفقد طفولته فالطفولة هنا لا يقصد بها الفئة العمرية بل المرحلة الروحية وجميعنا نظل أطفالا حتى ننتقل من مرحلة الجهل إلى مرحلة الشك فى المسلمات التى أرسيناها عن العالم والتى تعلمناها تلقينًا فى البدايات فرحلة الطفلين تبدأ فعلًا عندما تسمع الفتاة خالها وهو يخبر الشرطى أن قصة أبيهما مختلقة وأنهما مجهولا النسب فتقابل الفتاة ذلك بالرفض والإنكار ليولد الشك بداخلها مشاعر الإيمان بما كان يقينًا لديها.

يوقف بعد ذلك أنجلوبولوس الزمن عمدًا فى قسم الشرطة ليقول لنا أن تلك الرحلة قدرًا ولابد له من الإكتمال لتتوالى بعد ذلك المحطات ومع كل محطة يكتسب الأطفال قيمًا جديدة ويختبرون مشاعر يعرفونها لأول مرة، إن أنجلوبولوس هنا يعرف الحياة أسمى تعريف؛ يعرفها على أنها رحله الإنسان لاختبار القيم والمشاعر فيعرف “ألكسندر” قيمة العمل وستعرف “فولا” الحب وسيعرفون قيمه المال وسيقابلون القسوة كما سيقابلون التعاطف ويأتى كل ذلك اختبارًا لرغبتهم فى البداية لرؤيه أبيهم فعلًا رغم وحشة الطريق وإنعدام الأمان.

هل وصلنا ألمانيا بعد؟

ماذا كان يقصد أنجلوبولوس بألمانيا؟ هل كان يقصد ما بعد الموت؟ ما بعد رحلة الحياة؟ الطفلان كانا على جهل عما هى ألمانيا حتى أنهما لم يسألا نفسيهما عن ماهيتها، كل ما يعرفانه ويريدا أن يعرفانه أن الأب هناك.

 أنجلوبولوس لم ينهى الفيلم نهاية متشائمة ضاربة بعرض الحائط كل ما مر به الطفلين ومررنا به معهما، نهاية لو كانت مع صوت طلقات الرصاص على الحدود لأصبحت الرحلة (الحياة) بلا معني وبحث عن اللاشىء لكن تلك النهاية التى جاءت حينما وجد الطفلين الشجرة من وراء ذلك الضباب أهى جزم من أنجلوبولوس على جدوى الرحلة؟ أم هى رغبة عميقة لدينا جميعًا صاغها هذا الفنان فنيًا ليتسامى بنا ويطمئنا؟ يطمئنا أن هناك شجرة، هناك جذر واصل أتينا منه؟ هنا لا يستطيع أحد أن يجزم ما يقصده أنجلوبولوس فلكل منا زاويته المختلفة للتفسير وعقائده التى يرتكز عليها، لكن ما نستطيع أن نجزم به أن قصته تلك هى صرخه الإنسان الحديث من فوق صليبه “إلهى إلهى لماذا تركتني” مرقس (34:15) لماذا تركتنى وحيدًا أشعر بالتخبط والعجز والشك وعدم الأمان وأنت بعيد صامت.

“أمَّا الرب فَسُرَّ بأن يسحقه الحزن” أشعياء (10:53)

Visited 74 times, 1 visit(s) today