ملفات فينيسيا (2): “بوغونيا” مغامرة لانثيموس الجديدة

يشارك فيلم “بوغونيا” Bugonia أحدث أفلام المخرج اليوناني يوغوس لانثيموس في مسابقة الدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا، وهو مقتبس من الفيلم الكوري “إنقذوا العالم الأخضر” (2003)Save the Green Planet للمخرج يان يون هاون.

تشرح الموسوعة البريطانية معنى كلمة “بوغونيا” Bugonia فتقول إنها مشتقة من الكلمة اليونانية التي تعني “ولادة ثور”، وهي تشير إلى طقس أسطوري قديم يُعتقد فيه أن النحل يتولد تلقائيًا من جيفة ثور أو بقرة ميتة. أو الاعتقاد اليوناني القديم بأن نحل العسل ينشأ من جثث الحيوانات الميتة، وخاصة الثيران. ارتبط هذا المصطلح، المشتق من الكلمتين اليونانيتين “ثور” و”ذرية”، بأسطورة التوالد التلقائي للنحل من جثث الحيوانات.

 ويشير الفيلم إلى هذا المعنى كما يجعل بطله “تيدي” (جيسي بليمونز) يشرح لزميله أو ابن عمه الذي يسيطر هو عليه سيطرة تامة ويقوده وراء خططه الغريبة، كيف ينشأ النحل، خصوصا وانه يمتلك مزرعة للنحل تولد العسل، لكن النحل أصبح يموت ويتجه للفناء، وهنا ستكمن رمزية لانثيموس المعهودة التي يشير من خلالها الى مصير البشرية لو لم نسارع إلى إنقاذها من السقوط والتدهور والانهيار.

هذا أسهل أفلام لانثيموس وأكثرها تقليدية وابتعادا عن الغرائبية التي ميزت شخصيات أفلامه السابقة وصبغت عالمه، وهو بالتالي، أقربها إلى تحقيق المتعة والإثارة للمتفرج. ومع ذلك فقد يكون الفيلم أيضا أكثر أفلامه عنفا وقسوة، رغم أنه مصاغ في قالب الكوميديا السوداء. ففيه مشاهد للتعذيب وممارسة الإذلال بأشكال قد لا تخطر على البال. ورغم أن الفيلم مقتبس من الفيلم الكوري إلا أن لانثيموس وجد طريقه للتحرر من قيود الحبكة في الفيلم الكوري بل وعن فكرة أننا أمام فيلم من أفلام “الخيال العلمي” البعيدة عن عالمنا، فهو يقدم قصته كما لو كانت تحدث في واقع اليوم، ربما على صعيد ما يعرف- حسب بودريار- بـ “الواقعية الفائقة” hyperreality وهي غير الواقعية بالطبع، بل تدور “فوق الواقع”، لذلك فهي أيضا أقرب إلى السوريالية.

أول ملمح في الفيلم هو حياة العزلة التي يعيشها ذلك الشاب المهووس “تيدي” الذي يقيم الآن في منزل العائلة الواقع في منطقة معزولة من الريف الأمريكي في الزمن الحاضر. وهو مصاب بهاجس أصبح يسيطر تماما عن عقله، لكنه في الوقت نفسه، يبدو متماسكا، قوي الشكيمة، قابضا على عنق الأشياء، يعرف ويدرك جيدا مرماه رغم تطرفه وابتعاده عن عالمنا بل عن الحقيقة والصواب. إنه يعتقد بوجود مؤامرة كبرى من جانب كائنات قادمة من الفضاء، تلبست الكثير من البشر، وأصبحت تعمل من أجل تنفيذ خطة شريرة للقضاء على كوكبنا الأرضي، ومثلما يفنى النحل سنفنى نحن. وبعد أن تقع أمه ضحية إحدى شركات الأدوية ولابتكارات الطبية العلمية الحديثة، يسعى إلى الانتقام.

وسوف يكشف الفيلم في مرحلة متقدمة من السياق السردي، أن أمه  كانت تعاني من مرض غامض فعرضت عليها الشركة العملاقة، تجربة أنواع جديدة من العقاقير المتقدمة، مع ضمان تعوضيها في حالة الفشل، لكن الفشل يقع، وجاء التعويض محدودا وأصبحت أمه ترقد في غيبوبة تامة في المستشفى بين الحياة والموت.

ازدادت حدة شعور تيدي بالوحدة، فلم يجد سوى ابن عمه المراهق المتخلف الذي يعاني من اضطرابات في الشخصية “دونالد”، يسيطر عليه ويقوده للتعاون معه في اختطاف مديرة الشركة “ميشيل” (إيما ستون) التي يعتقد- بل هو على يقين- من أنها كائن فضائي من الذين يحيكون المؤامرة الكبرى لتدمير الكوكب، فقد درس وفحص جيدا عشرات الفيديوهات والبيانات والصور، ولابد أن يكون أيضا ضحية أفلام هوليوود الخرافية عن الكائنات الأخرى وفي الوقت نفسه ضحية ثقافة الإنترنت، حيث تنتشر نظريات المؤامرة وتسيطر على عقول الكثير من الشباب.

لكن فيلمنا يتجاوز نقد هوليوود، ونقد الانترنت، ويوجه اهتمامه أكثر بنقد مفهوم “الهيمنة” أو “السيطرة” والتلاعب بالعقول وجنى الأرباح الفلكية من وراء بيع الوهم مرورا بالاستهتار بحياة البشر في خضم السعي الشرس من أجل جني الأرباح مع إغفال الاهتمام بحياة الناس.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يحذر من فكرة تدمير الذات، أي تدمير الكوكب بتدمير الطبيعة والعبث بها. لكنه لا يقطع بالطبع بأن هواجس تيدي كلها ناجمة عن خلل عقلي، فربما يكون هناك فعلا مؤامرة ما تدبر من طرف لا نعرفه.

ما سيحدث لمدة تمتد نحو ساعتين، أن تيدي بمعاونة “دون”، سيختطفان ميشيل ويحتفظان بها في منزل تيدي، حيث يمارس عليها أنواعا مبتكرة من التعذيب الرهيبة، ثم يقوم بحلق  شعرها تماما للكشف عن الخلايا السرية المحتمل أن تكون مزروعة في رأسها، ودفعها، لا للاعتراف بأنها إحدى الكائنات القادمة من خارج كوكبنا، فهذا أمر محسوم لديه، بل لكي تقوده إلى مكان سفينة الفضاء الضخمة التي يوجد فيها “الإمبراطور” الغريب القادم من خارج كوكبنا، الذي يقود عملية تدمير الأرض والسيطرة عليها.

“ميشيل” مديرة الشركة، قوية الشخصية جدا، مدربة جيدا على ممارسة الجودو، لكنها رغم مقاومتها الجسدية تفشل في مقاومة تيدي، وتصبح أسيرة عاجزة عن الخروج من المأزق إلا لو نجحت في اختراق عقل “تيدي” والنفاذ الى نقطة ضعفه واستعادة السيطرة في يدها من دون عنف، بالهدوء والمناقشة والصلابة أمام الموت. وهي تجرب أساليب عديدة، لكنها تفشل واحدة تلو الأخرى. ولكن لأن تيدي نفسه مهتز من الداخل، فلابد أنها ستتمكن من السيطرة عليه وقيادته وتدميره في نهاية الأمر، إلا أن هذا سيستغرق الكثير من المشاهد والمفارقات والحيل، وفي النصف ساعة الأخيرة يعاني الفيلم من هبوط الإيقاع، مع الميل إلى التكرار والاستطرادات، وابتكار الالتواءات، غير أن المتفرج يكون قد أصبح يدرك- رغم الالتواءات- كيف يمكن أن تنتهي القصة.

في الفيلم بعض المشاهد التي يثير المرح والضحك رغم ما يمتليء به من عنف صادم، وفيه أيضا بعض العناصر المركبة في تكوين شخصية تيدي تحديدا التي تجعله ضحية أكثر منه مجرما، ويمكن بالتالي أن نلتمس له بعض الأعذار دون تبرير أساليبه العنيفة. وكما أنه يعتقد انه الوحيد الذي يمكنه انقاذ العالم من الفناء، فعندما يوقن أنه لن يستطيع منع وقوع الكارثة يصبح راغبا بشدة في المغادرة مع الامبراطور والكائنات الغريبة.

في أحد اكثر المشاهد طرافة في الفيلم، يصل ضابط الشرطة البدين، وهو مأمور قسم الشرطة المحلي، الذي يعرف تيدي بل ويرتبط بنوع من الصداقة معه ومع عائلته، والضابط يبدو كما لو كان لا يقل بلاهة عن “دونالد”، وأنه ربما يكون مهتما أكثر بتناول قطعة من الحلوى الشهية التي أعدها تيدي، أو بمشاهدة النحل وخلايا العسل في منحل تيدي، أكثر من اهتمامه بمتابعة البحث عن السيدة المختفية “ميشيل” التي أوفد أصلا للبحث عنها. وهو كيف يظل يلف ويدور ويناور ويحاور بحيث لا نفهم هل هو يتعمد التظاهر بالسذاجة، وأنه جاء فقط لتوجيه بعض الأسئلة الاعتيادية، أم أنه جاء بناء على معلومات محددة؟

هنا يخلق لانثيموس حوارا طريفا ذكيا يذكرنا بطرافة الحوار في أفلام تارانتينو وسكورسيزي. وهو حوار يدور بين الضابط وتيدي، في خضم وضع شديد التوتر تماما، وبعد أن يكون قد وقع ما وقع من عنف ثم انتحار دونالد في لحظة يأس وضعف وفقدان الثقة في وجود من يحبه ويهتم به حقا. وربما يكون هذا أيضا راجعا الى غسيل المخ الذي مارسته ميشيل عليه في غياب تيدي. لكن عندما يوشك الضابط على اكتشاف الحقيقة، سيلقى مصيره.

ميشيل هي على نحو ما أيضا، ترمز للسلطة الاستغلالية، وهي تهدد تيدي بأن الدنيا ستقوم ولن تقعد وسيأتي رجال الشرطة ومكتب المباحث الفيدرالية والمخابرات للبحث عنها، وسينتهي تيدي إلى مصير أسود. كان التهديد بأذرع السلطة أحد أدواتها لاستعادة السيطرة، ثم لجأت لطريقة أخرى، هي الاعتراف بأنها من الكائنات الغريبة. وما سيحدث بعد ذلك، لن يكون سلسلا بل سيمر عبر التواءات كثيرة.

إيما ستون مع المخرج يورغوس لانثيموس

“بوغونيا” ليس أفضل أفلامه مخرجه، وقد لا يكون أكثرها إتساقا مع رؤيته للعالم رغم وجود بعض الملامح من أفلامه السابقة مثل شخصية المرأة القوية التي تريد فرض سلطتها على الرجل. وقد يرجع ذلك أيضا إلى غياب الخيال الخاص الجامح، وكبح جماح السوريالية التي ميزت أسلوب لانثيموس في أفلامه السابقة بغرابتها وعصيانها عن التفسير البسيط، والتبرير الواضح، وأهمها دون شك فيلم “كائنات بائسة” Poor things الذي بلغ فيه ذروة النضج. فكثير من جوانب الحبكة في “بوغونيا” يبدو تقليديا conventional إلا أن ما يبقي على متعة المشاهدة، ذلك الأداء البديع أولا من جانب بطله “جيسي بليمونز” (في دور تيدي) الذي يتحكم في نبرات صوته ونظرات عينيه، يضبط حركات جسده ويديه، ويعبر عن شخص واثق تمام الثقة من صحة استنتاجاته، يعرف كل التفاصيل الخاصة بتلك الكائنات الافتراضية، ولكنه مشوش وضعيف من الداخل، وهذا التردد بين القوة والصرامة من ناحية، والضعف الداخلي من ناحية آخرى، هو ما يميز الأداء المذهل لهذا الممثل.

طبعا لا حاجة لنا بالإشادة بأداء الممثلة الكبيرة الراسخة إيما ستون (في دور ميشيل)، التي صبغت عددا من أفلام لانثيموس الأخيرة بصبغة خاصة: قوة الشخصية، وضعفها، جاذبية الأنوثة، وقسوتها، الرغبة في السيطرة والقيادة، والتمرد الشديد والجموح القاتل. إنها ممثلة متعددة الطبقات إن جاز التعبير، يمكنها أن تتلوى وتتلون وتتخذ أكثر من سمة في المشهد نفسه.

“بوغونيا” قد يصبح أكثر وصولا إلى المشاهدين من أفلام لانثيموس النخبوية السابقة. وهو بلا شك، يستحق، ومن حقه، أن يتذوق طعم هذا النجاح. وهو نجاح يشير غليه الاستقبال الكبير الذي قوبل به في فينيسيا، وهو لا ينفي عن الفيلم – أفكاره الكبيرة عن عالمنا، وبؤس هذا العالم وما صنعناه بأنفسنا، وليس بأيدي الكائنات الأخرى. ولعل هذه الفكرة وحدها هي أهم سمات سينما لانثيموس.