ملامح عدمية في السينما المصرية

لا شك أن السينما المصرية تأثرت بالأدب المحلي والعالمي فيما يخص الافكار الفلسفية والنظرة الوجودية للعالم والانسان والذات، وتمثل ذلك لدي عدد قليل من المخرجين الكبار، مثل يوسف شاهين، وحسين كمال، وتوفيق صالح، وداود عبد السيد ومحمد خان، وأسامة فوزي واسماء بكري، وغالبا ما تتسم السينما المصرية بالنزعة المثالية الرومانسية، أو الواقعية الاجتماعية والسياسية، وقليلاً، ما تتجذر الافكار الفلسفية خاصة النزعات السوداوية والعدمية والسوريالية في الكثير من الافلام، وعندما توجد في  بعض الافلام نجدها بسيطة ومسببة، وليست معقدة كما هي في أفلام الغرب.   

هذا النذر القليل من العدمية عادةً ما يتعلق بالنواحي الفردية، حيث ترسم شخصية عدمية في مكوناتها، دون وجود روابط بين عدمية الشخصية وعدمية المجتمع يعني في طابعها المحلي، أو بينها وبين عدمية العالم، وأحيانا تتعلق الشخصية أو روح الفيلم بعدمية الواقع المحلي، والمجتمعي، لينعكس ذلك علي شخصيات الفيلم، ونادراً ما نجد هناك جوانب عدمية للكون والوجود تنعكس علي شخصيات الفيلم أو فكرته، بمعني لا جدواها، كما نرى عند بعض المخرجين العالميين، مثل المجري بيلاتار، والنمساوي مايكل هانيكه، والدنماركي لارس فون ترير. ويأتي تشبيه العدمية، كتقنية للسرد أكثر، من روح الفيلم، بجانب أنه تشبيه ضمني، لحال الشخصية او المجتمع، فمثلا، نصف شخصية في الفيلم بأنها عدمية، من خلال فقرها، وبؤسها الاجتماعي والاخلاقي، وبجانب ان تتلفظ ببعض المصطلحات في اطار اللاجدوي واليأس الفردي من الحياة، ولكنها لا تتفلسف ولا ترمز بافعالها وكلماتها حول يأس الوجود ذاته وعلاقتها بذلك، أو تصر علي يأسها الوجودي، وايضا نري وصفنا لعدمية المجتمع،  الخلاصة نجد أن الدافع وراء عدمية الشخصيات او المجتمع هو دافع غير وجودي، ولكنه يجعل المشاهد يشعر بنواح عدمية، فالشخصية حائرة ويائسة من منطلق واسباب غير كونية او وجودية، فهناك سبب معين يدفعها لذلك، وقد يكون ذلك بسبب النزعة الدينية والثقافة الشرقية، المتعلقة بتقديس الحياة، ودفع الأفراد دوما الي التمسك بالحياة، والايمان بعدالة السماء، وهذا ما يتجذر في الفكر الأدبي والفلسفي، وايضا في العمل السينمائي.

  وقد يكون ايضا ذلك لعدم وجود تلاق حقيقي وكامل بين الفكر الحداثي الغربي، والفكر العربي، بل يمكننا القول اننا لم ندخل بعد عصر الحداثة، فنحن مازلنا دولة نامية، محكومة بأنظمة سلطوية، وانظمة ثقافية وتعليمية تخضع لمراقبة الحاكم، الذي يكون ديكتاتوريا في الاغلب، ونجد بعض السينمائيين والأدباء يتجهون نحو الرمزية من أجل الهروب من الرقابة، وليس الرمزية من اجل الرمزية، فداود عبد السيد في فيلمه “ارض الخوف” اتخذ قصة بوليسية، بشكل رمزي عن قصة الخلق، وصراع الشر والخير، والخطئية، وكثير من المشاهدين، لم ينتبهوا لمقصائد داود، فالاتجاه للرمزية كان هروبا من الثقافية الماضوية الدينية، وهكذا الأمر مع نجيب محفوظ، في رواية “اولاد حارتنا” الذي كان يقدم فيها قدما، ويؤخر قدما، فكانت الرموز في الرواية مكثفة للغاية.

  عدمية محفوظ الروائية لدي الاديب المصري نجيب محفوظ، ملامح عدمية، في بعض رواياته مثل روايات (الحب تحت المطر- السمان والخريف- ثرثرة فوق النيل- السراب- خان الخليلي)، وقد تحولت هذه الروايات الي افلام سينمائية، فكانت العدمية في فيلم الحب تحت المطر، هي عدمية الظروف التي انعكست علي شخصيات الفيلم، ورغم سوء الاخراج، وقلة الفنيات، الا اننا نجد الحكاية السينمائية والسردية تعبر عن عدمية الظروف السياسية والاجتماعية، حيث تعكس الحكاية، هذا النص يرصد اثر نكسة 1967 علي المجتمع المصري، من خلال فعل الحب، وهزيمة النفوس هزيمة اجتماعية واخلاقية، كل شخصية تبحث عن النجاة من خلال الحب والعلاقة مع الاخر.  

من فيلم “السمان والخريف”

  لقطة من فيلم السمان والخريف  والنساء في الفيلم يهربون من الواقع البائس العدمي الي مستقبل افضل عن طريق بيع الجسد، هذه العدمية الاخلاقية والاجتماعية، تجعل الشخصيات بائسة وحزينة وضائعة، وتأتي ابرز الشخصيات العدمية المعبرة عن الظروف السياسية البائسة،  في العم بدران، عامل المقهي، ذو الملامح البائسة، وكلماته التي تعبر عن فجاعة واقعه، وميله نحو الحزن ومزيد من الهزيمة، وصديقه الذي يجلس بجانب المقهي، عشماوي ماسح الاحذية، كبير السن، ضعيف البنية بعد ان كان فتوة في زمانه، يملك القوة والسلطة، فهو بذلك يجسد نهاية القوة المصرية، وكهولة المجتمع المصري في كل شئ.

   وبالنظر الي فيلم السمان والخريف، نجد بصرية اخراجية بها ملامح اللاجدوي، والحكاية السنيمائية، تدور حول شخصية كانت تمتلك السلطة، والنفوذ السياسي، ثم اصبحت بلا شئ، لتتجه الي نفسية اللاجدوي، والضياع، وهناك عدمية فردية نتيجة خسائر علي المستوي الشخصي، وليس عدمية كونية، او عدمية وجودية متعلقة بإشكالية العالم، فيتجة البطل الي مدينة أخري، ويشعر بالحزن وضيق النفس، ويتنقل بين حلول كثيرة منها مالية ونسائية دون فائدة، ليعبر الفيلم انهيار بطل القصة دون هوادة.  

وفي فيلم ثرثرة فوق النيل الذي يحكي عن مجموعات شخصيات من طبقات مختلفة، تعيش في عوامة فوق النيل، وتعطي ظهورها الي الحياة والاوضاع الخارجية، التي تمثل لها نسبة كبيرة من العدم، تشعرهذه الشخصيات بالعدم الذي يتمثل في الاتجاه الي متع الحياة في ذاتها، والهروب من خلالها من الحياة الخارجية، وتصبح بذلك المتع عدمية، لأنها وسيلة هروبية ليس أكثر، نتيجة اتساع مساحة الانغلاق، وتبقي الشخصيات سجينة المتع، وهو ما يرمز له بالعوامة المفصولة عن الحياة الخارجية، والتي تتواجد علي ارضية سائلة وغير صلبة، وهي مياه النيل، دلالة علي سيولة المكان، مما ينعكس علي ضعف وهشاشة الشخصيات، وعدم وجود مكان لها، فهي تتواجد علي الهامش خارج المجتمع.

  سينما خيري بشارة  يمتلك ناصية عدمية اكثر حدة وقسوة من سينما محفوظ، خاصة في فيلم “حرب الفراولة”، الذي يناقش فيه فعل السعادة في شكل سريالي، عن طريق شخصيات عدمية تسعي لمنح السعادة لشخص اخر، دون جدوي، شخصيات فقيرة لا تجد قوت يومها، تساعد رجل غني  يبحث عن السعادة بأمواله، يمضون عقدا لذلك، عقد السعادة، عندما تتحول السعادة الي شئ مادي مقابل ويكتب في عقود ذلك سريالية تعبر عن عدمية المعني وتفككه، معني السعادة الضائع لدي الرجل الثري، وينتهي صراع البحث السعادة بمصرع الرجل الثري، علي يد مانحي السعادة له، انها نهاية مناسبة للحصول علي قيمة. 

من فيلم “العوامة 70”

لقطة من فيلم العوامة 70  وفي فيلم فيلم العوامة 70، يشعر بطل الفيلم احمد زكي، بالهزيمة، وهي هزيمة جيل ممزق لا يجد شيئا حماسيا يجعله سعيدا وساعيا لفعل الكثير، فقد فقد القدرة علي مواجهة الواقع، فبطل الفيلم يعبر عن عدمية الواقع المصري خلال فترة السبعينيات لهذا الجيل البائس الممزق الذي فقد المعني، كما يعبر عن اللامبالاة التي اصابت هذا الجيل، وجعلته يفقد الكثير من حماسه والتزامه الثوري، وفقد كذلك القدرة على مواجهة الواقع بشجاعة ففضل الاستسلام للأقدار.

إن أحمد واع لذلك ولكنه مصاب بمرض جديد هو اللامبالاة، فعندما يخبره عامل محلج القطن عبد العاطي (أحمد بدير) عن الاختلاسات في المحلج الحكومي، لا يحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه، بل ويحاول إلقاء العبء على خطيبته وداد (تيسير فهمي).  وفي فيلم شحاذون ونبلاء، اخراج المبدعة اسماء بكري، عن رواية الاديب اليبر قصيري، التي تحكي عن شخصيات عدمية، من الصعاليك والكسالي، حيث تواجه هذه العدمية الشخصانية القانون بشكل سيريالي، حيث ينطلقون في الحياة إلي اقصي ذروتها الوجودية، حيث اللامبالاة والحرية المطلقة، والسخرية من اجل شئ، والرغبة الكبيرة في تدمير الذات، وهو ما ظهر في قيام أحدهم بالاعتراف علي نفسه في جريمة قتل لما يقترفها. وهذه الشخصيات العدمية تواجه العالم واخلاقيات الانسانية المعاصرة، فالقانون يصبح عدمي لا قيمة له امام هذه الشخصيات، ويعكس هذا الصراع الثنائي ضعف مكونات المجتمع وميله الي العدمية، ويمكننا القول أن هناك عدمية غير مباشرة، فليس هناك تصريح مباشر خلال السرد الحكائي يؤكد علي عدمية الحياة المحلية في كليتها وبشكل مجرد، وانما عدمية في الشخصانية الفيلمية، كملامح وصفات  ثم العدمية في صراع هذ الشخصيات مع السلطة والمجتمع والقانون، مما يعني ان الفيلم يقترب من العدمية علي استحياء، دون شمولية العدم.   

وأخيراً، هناك امثلة أخري عن وجود ملامح للتفلسف والعدمية، مثل افلام داودد عبد السيد (البحث عن سيد مرزق- أرض الاحلام- سارق الفرح)، وفيلم “باب الحديد” بيوسف شاهين، وافلام أخري مثل ( الانسان يعيش مرة واحدة- اضحك الصورة تطلع حلوة-  سوق المتعة- البحر بيضحك ليه- فيلم الحب في التلاجة- حكايات الغريب- بالالوان الطبيعية). وأسامة فوزي بفليمي ( جنة الشياطين- عفاريت الأسفلت).  


Visited 79 times, 1 visit(s) today