ماذا كتبت بولين كيل عن رائعة فيلليني “8 ونصف”؟

كلاوديا كاردينالي في "8 ونصف" كلاوديا كاردينالي في "8 ونصف"

ترجمة رشا كمال

هذا هو المقال الأول في سلسلة المقالات المترجمة في النقد السينمائي التي ينشرها موقع “عين على السينما” نبدأها بمقال الناقد الأمريكية الأشهر في العالم، بولين كيل، عن فيلم “8 ونصف” لفيلليني الذي نشرته أولا في كجلة “النيويوكر” ثم ضمه كتابها “فقدتها في دور السينما” أو “بين الأفلام”. ومعروف أن بولين لم نحب قط أفلام فيلليني ولا أفلام أنطونيوني وجودار وآلان رينيه وبازوليني وسائر أفلام مخرجي الحداثة الأوروبية، كما أنكرت على ستانلي كوبريك، موهبته وهاجمت أهم أفلامه. وهي تعكس في هذا المقال طريقتها في فهم الأفلام ومنهجها الخاص في التعامل معها.

منذ بضع سنوات، كان هناك ممثل، شاب، وسيم ونرجسي يسليني بحكايات عن علاقاته الغرامية مع عدة نساء ورجال، مختتماً حديثه بابتسامة مغوية وهو يقول “لدي أحيانا العديد من الأفكار، لا أعرف أيا منها أختار”. أذكر- أثناء مرافقتي له للباب – بأن لديه مفهوما غريبا عن ماهية الفكرة.

المخرج بطل فيلم “8 ونصف” هو محور عالم الفيلم، المبدع الذي ينتظر الجميع رهن إشارته، هو الرجل الذي يسعى وراءه الكثيرون. الشخص الذي تكون كل الاحتمالات متاحة أمامه. باستطاعة جويدوالقيام بأي شيء، ووفرة الإمكانيات تحيره. فحاله كحال مصمم الأزياء السينمائية الشهير الذي لا يدري ماذا سيفعل بشأن مجموعة الربيع.

“يجب أن أحصل على فكرة بكل بساطة، سأفقد صوابي إن لم أفعل فالجميع يعتمد علي”.

أخشى أن مفهوم جويدو عن (الفكرة) لا يعد أكثر وضوحاً عن فكرة صديقي الممثل الساذج، وهي صادمة إلى حد ما مثل فكرة هؤلاء الحمقى الذين يظنون أن بإمكانهم أن يصبحوا كُتّابا عظماء لأن لديهم قصة عظيمة ولكنهم فقط بحاجة لمن يحولها إلى كلمات.

المخرج يتماشى حقاً مع المفهوم الشائع للعبقرية الناجحة، ولطالما كانت مجلتنا النسائية الروائية مولعة بالكاتب أو المخرج الذين يبحث عن قصة ويعثر عليها في حكاية غرامية أو في فنائه الخلفي.

“اقبليني كما أنا”، آخر التماس من جويدو لزوجته (رغم أن هذا تحديدا ما كانت ترفضه طيلة ساعتين).

كما أكد فيلم “الحياة اللذيذة” الشكوك الرائجة عن فساد الأغنياء والموهوبين، يؤكد فيلم “8 ونصف” وجهة النظر المعروفة بـ “أهمية” حياة المخرج، حيث يصبح العالم تحت طوعه بمجرد عثوره على تلك (الفكرة) المهمة.

(فمن الهام معرفة أن الحمقى لن يبوحوا بأفكارهم خشية أن “تذهب هباءً”، بمعنى أخر “أن تتعرض للسرقة”، فكلما قل عدد “أفكارهم” كلما زاد خوفهم من السرقة الأدبية).

فيلليني

ربما تكون عدم وجود علاقة بين ما نراه مثل (حب جويدو لزوجته، ملذاته الحسية مع عشيقته، أفكاره المثالية عن البراءة، أحلامه في قصر الحريم) وبين تجسيد عمل فني، يمكن أن نشير إليه بهذه المقارنة: هل يمكن للمرء أن يتصور أن يكون دوستويفسكي مثلا، أو جويا، أو بيرليوز، أو جريفيث، أو أيا كان، قد قام بحل مشكلاته الشخصية قبل أن ينتج عملا فنيا ما، أو هل كانت مشكلاته الخاصة ذات صلة ضرورية بالعمل الجاري؟

تلك الفكرة عن “الفنان في مواجهة نفسه” أو “في صراع مع نفسه” كشرط مسبق للعملية الإبداعية تعتبر مألوفة بالنسبة لنا من الحيوات الفرويدية للفنانين وللجميع على حد سواء.

ربما يكون من السهل على الجمهور المثقف أن يرى تقدماً في موضوع فيلم يواجه فيه المخرج مشكلات إبداعية أو عقدة الفنان، وهو موضوع مألوف وتم التعامل معه في مجال الكتابة المعاصرة، ولكن هل هذا الأمر يمكن تطبيقه على فيلم؟

أي فيلم هذا في تاريخ صناعة السينما الممتد منذ نصف قرن، الذي تم وقف تصويره بسبب تعرض مخرجه لعقدة إبداعية؟ لم يحدث هذا لأي فيلم بميزانية وطاقم عمل وكُتّاب وأماكن تصوير.

بالطبع يمكن تفسير غياب الصلة بين ما نراه وعملية صناعة الفيلم بـ”أن المخرج يواجه انهيارا عصبيا، وأن كل ما نراه هو من وحي تخيلاته”.

فالحياة الخيالية لشخص ما تعد مادة جيدة جداً لفيلم إذا كانت ساحرة وخيالية في حد ذاتها، أو إذا كان يلقى بالضوء على الجانب الأخر المفتقر للخيال من حياته بطريقة مثيرة للاهتمام.

ولكن “8 ونصف” ليس أيا من هذين الأمرين، فهو يبدو كحلم مدهش ببطلات هوليوود الجميلات، تم تنفيذه عن طريق اختراق مفهوم القلق الفرويدي وتمني الإنجاز، فهو يعد التجسيد الخارجي المدهش للحياة الداخلية للفنان، كسيرك رائع متعدد الحلقات ذي صلة قليلة جدًا بما هو، حتى بالنسبة لمخرج الفيلم يمكن أن يكون عملًا انعزالياً مضنياً شديد التركيز. 

فهو يشبه خيالات شخص كان يتمنى أن يصبح مخرجاً سينمائياً، شخص انغمس في تلك النسخ السينمائية عن حياة فنان، والتي يأتي فيها الإلهام للبطل أثناء تواجده في كرنفال أو حفل كبير فيهرول بعيداً لتحويل الحياة إلى فن.

“عما يدور الفيلم؟”، “ماذا يدور بخلدك هذه المرة؟” تتساءل زوجة غويدو.

في “ثمانية ونصف” السؤالان وجهان لعملة واحدة.

جويدو مع عشيقته

يعد الإبداع الانشودة الجديدة، ويُنصح الآباء بعدم استخدام العصا معه، وعلى المعلمين الاستعداد للعناية به، وأن تقوم المؤسسات بتشجيعه، وتكفل الجامعات والمراعي الصحية رعايته في جو منظم، واسداء النصح للحكومة بتكريمه.

اما نحن فيفترض أن نشعر جميعا بالهلع حتى أنه عندما نرى المبدع يواجه أزمة، يجب أن تتمزق شاشات العرض من الصراعات. ولكن العملية الإبداعية لعبة احتيال، كموضوع كوميدي رائع يصبح مربكاً إذا ما تمت معالجته بطريقة شبه ساخرة.

عندما تصبح السخرية من الأفلام الضخمة، باهظة التكاليف هي نفسها فيلما ضخما ومكلفا، فكيف يمكننا إذن تمييزه عن هدفه؟

عندما يجعل المرء من نفسه أضحوكة، فربما نشعر بعدم ارتياح للضحك. فالتعرية تصبح هي نفسها المكافأة.

يلقي فيلم “8 ونصف” بظلاله على بعض مشاكل فيلليني كمخرج سينمائي، ولكنها ليست بنفس الدرجة من الروعة أو التحليل النفسي كالتي يستعرضها.

تأتي في مقدمة تلك المشاكل، المشكلة الاقتصادية الكبيرة المحبطة والتي كان لها عظيم الأثر على فيلليني بسبب النجاح التجاري لفيلم “الحياة اللذيذة”. فصانع الأفلام لديه عدوان لدودان: الفشل التجاري والنجاح التجاري.

بعد الفشل يواجه المخرج وقتاً عصيباً في جمع الأموال اللازمة لتمويل عمله التالي، أما بعد النجاح فيجب أن يكون فيلمه التالي أكبر وأفضل.

في السنوات الاخيرة في هوليوود لم يستطع أي مخرج صاحب أي سلسلة من النجاحات، تمويل إنتاج صغير وغير مكلف وهذا لا يرجع لنقص في المحاولة. فمن وجهة نظر البنوك والاستديوهات يعتبر إنفاق ما قيمته نصف مليون دولار خطرا أكبر بكثير من استثمار بضع ملايين على فيلم يقوم ببطولته عدد من كبار النجوم من أصحاب الأسماء اللامعة، وتصحبه حملة دعائية ضخمة وحجوزات مضمونة تقريباً.

وتعليقاً على تكلفة إنتاج “8 ونصف” (و”الفهد” لفيسكونتي) تشير التقارير إلى أنه “طبقا لما أنفق من الليرة الايطالية، يعتبر هذان الفيلمان أقرب ما يكونا إلى “كليوباترا” الايطالية.

ولكن ما اشترته هوليوود غالياً في “كليوباترا” كان صندوقا كبيرا.. بينما ما حصل عليه الإيطاليون من “8 ونصف” كان عملا هائلا من الجمال البصري والفلسفة المثيرة للإعجاب، كان مشهد رائعاً للروح بكل معنى الكلمة، أكثر بكثير مما دفع من أجله. فالتحف الفنية دائما ما تكون صفقة رابحة.

فلسفة الفيلم هي نفس النوع الذي تبحث عنه، كأفكار فيلليني. “8 ونصف” يعد حقاً مشهدا روحياً، فماذا بإمكانك أن تفعل للروح إذا كان ما هو متوقع منك إنتاج تحف فنية؟

حسب فيلليني نحن بحاجة إلى معايير جديدة لتقدير هذا الفيلم. يقول جويدو: “بالفعل كل شيء يحدث في فيلمي”، والمقصود أنه فنان- ساحر، ولكن الرجل الذي يثق بالسحر كمن يحلم بخلق معجزات في نومه، وعندما يفيق يجدها شاخصة امام بصره بشكل يفوق الوصف.

لقد ألقى فيلليني بأفكاره المبعثرة وسمح للمشاهدين بربط خيوط معانيها بأنفسهم.

“8 ونصف” عمل هائل وجميل، ولكن ماذا يكون؟ هل يعد عملاً فنياً ساحراً؟

هناك حجم مثالي للمنزل: إذا كبر حجمه أصبح قصراً أو دار عرض ولن يعود بإمكاننا الشعور بالأواصر الحيوية للحياة العائلية، أو بالطرق التي تعكس بها الغرف ملامح الشخصيات أو الأذواق والعادات.

عندما يتحول الفيلم إلى منظر نفقد حينها حس المشاركة الحميمية مع القصة، ربما نقدّر الحدث والعظمة كما هو الحال في “8 ونصف”، الديكور، سلسلة الرؤى الخيالية البارعة، حس الاحترافية العالي (فيلليني لا يزال قادراً بكل تأكيد على صنع أفلام). ولكنه أضحى كبيراً ومثيراً للإعجاب بدرجة تعوق التماهي مع المشاعر والحياة التي يحتويها.

من المشهد الأخير

كان أخر فيلم عائلي لفيلليني هو “ليالي كابيريا”، أما “ثمانية ونصف” فهو مستشفى للمجانين يحتفل فيه المخرج بـ “الحياة الحلوة” بمعنى أخر بيت للمرح.

“ياله من اختيار رائع للممثلين” يهتف معجبوه، ليس كاستجابة للأشخاص الذين يظهرون في أفلامه بل لمهارته في العثور عليهم. فهذا هو كل ما يمكننا الاستجابة له، فمن خلال الظهور الأول لشخصياته يخبرنا هو بكل ما نحتاج لمعرفته عنهم.

انهم زخارف، كائنات محنطة. ليس هناك أي ضرورة للتمثيل، يستخدمهم كنوع من الكاريكاتير اللحظي، فالعالم هو مدرب التمثيل لديه وهذا هو سحره. وهو يستخدم نبلاء ومشاهير حقيقيين لتمثيل أنفسهم، ويحول رجال الأعمال إلى نجوم، ثم يعترف بعدها بارتباكه بين الفن والحياة، هو نفس الارتباك الذي يعطي لأفلامه تلك الأناقة الأحترافية.

جويدو هو مثل معلمي اللغة الانجليزية الذين يتباهون بعدم اكتراثهم بما يحدث في العالم، فهم يهتمون بالأدب فقط، أو كالنقاد الذين يقولون أنهم لا يبالون بالمحتوى بل بأسلوب البناء، أو صغار الشعراء الذين يخبروننا بعدم اهتمامهم بأي شيء عدا ابداعهم. فجويدو يصرح بأن “ليس عندي ما أقوله، ولكن يجب أن أقوله.” أكلما قلت الذات، كلما زادت حاجة للتعبير عنها؟ أو كما قالت الزوجة لزوجها السكير”إذا كان لديك عقل لأخذته للخارج ولعبت به”.

المنتجع الصحي هو أنسب مكان لذلك، كما أثبت فيلم “العام الماضي في مارينباد” هذا الأمر. فالذين شحذوا أذهانهم لتفسير ما حدث في هذا الفيلم، عليهم أن يعملوا الآن على “8 ونصف”، مفرقين الذكريات والخيالات عن الحياة الحقيقية.

حدثني أحد الذين يقومون بتدريس السينما عن ذهابه لمشاهدة “8 ونصف” عدة مرات، لاختبار النظريات المختلفة وكيفية تحقيق الانتقال بين الطبقات الثلاث (المقصود: الواقع والخيال والذكريات)، وكيف أنه لم يصل لإجابة بعد. وعندما قلت إنه أوقع نفسه في مشكلة مستعصية، لأن “8 ونصف” هو محض خيال كلي، غضب مما وصفه بـ “طبعي المشاكس” واستشهد كمثال واضح عن “الطبقة الواقعية” بمشهد اختبارات الأداء لكل من دوري العشيقة والزوجة (أحد أكثر المشاهد كابوسية في الفيلم)، وكمثال عن “طبقة الذكريات” استشهد بمشهد رقص الساراغينا على الشاطئ (الذي يقارن بكونه ذكرى بمشهد جرف الأمواج للحيوان الغريب الشكل في نهاية فيلم “الحياة اللذيذة”).

غويدو بين منتجي فيلمه

هذا هو الفيلم الأول وليس الأخير كما هو متوقع، الذي يبدي فيه المخرج اهتماماً أولياً بتعظيم سجنه الذاتي، والإخفاق في التواصل على، مستوى الخيال، الأمر الذي يعتبر انتحاراً فنياً تقليدياً- ولكنه يعد هنا معلماً بارزاً في فن الفيلم بواسطة ممن يطلقون على الانهماك الذاتي “ابداعا”.

لقد بدأ فيلم “8 ونصف” كجزء متمم لـ “الحياة اللذيذة” في تناوله حكاية الملاك الأومبري. والآن حولها فيلليني في هذا الفيلم الي كلاوديا كاردينالي. ملاك ملفوفة القوام ذات ابتسامة غامضة، ترفرف بملابس شفافة، لا تختلف كثيراً عن الممثلة سيد شاريس Cyd Charisse أو ريتا هيوارث في رداء رقراق على إحدى سلالم نمرة استعراضية لشركة مترو أو كولومبيا. لقد أصبحت حلم البراءة المثالي عند الفنان، الملاك الملهم كنجمة للفيلم وللفيلم في داخل الفيلم. حالة لا نهائية من الجمود، وانحسار أبدي.

المصدر: بولين كايل – كتاب “فقدتها في دور السينما”: كتابات عن الأفلام – 1954-1965. إم. بويرز -1965

الفنون الأدائية- صفحات-261-266. 

Visited 124 times, 1 visit(s) today