قيس الزبيدي يكتب عن: الصورة والنظرية السيميائية

يقتضي اعتبار كل صورة، بالضرورة، بمثابة تمثيل تكون لها قواعد تكوينية محددة.  وتفهم تمثلات الصور من قبل أناس لم يشاركوا في صنعها، وذلك يعني أن ثمة، فيما بينها، حداً أدنى من الاصطلاحية الاجتماعية – الثقافية. أي، بتعبير آخر، أنها تدين بالجزء الأعظم من دلالتها لجانب الرمز، الذي هوعلامة تواضعية. ويخلص أمبرتو ايكو، بناء على ذلك، الى أن ما يقال عن البنية يصدق كذلك على العلامة الإيقونة، فإدراك ما يوجد في العالم من خلال علامة ايقونية خارج الذات، لا يكون ممكنا إلا من خلال وجود معرفة سابقة تٌعَد العنصر المتحكم في عملية الاحالة وأيضا في حجم الدلالات وتنوعها.

ويبدو لي حقيقة إن كتاب “مدخل الى تحليل الصورة ” لمؤلفته مارتين جولي Martine JOLY، غني ومفيد خصوصا في تعريف الصورة وتحليلها وكان قد صدر عن دار النشر   NATHAN UNIVERSITÈ في عام 2004 وصدر بالعربية في عام 2015 ٭.

تهدي المؤلفة الكتاب إلى كريستيان ميتز؟

وقد يسأل سائل: لماذا ميتز بالذات؟

لأن جهود ميتز تأتي في فهم نظرية السينما من زاوية النص باعتبارها من أكثر نظريات السينما تجريدا وأكثرها ملموسية، لأنها تميل إلى اعتبارها علماً، بينما تعتمد السيميائية كلية على التحليل العلمي المفصَّل لأفلام خاصة ولمشاهد من الأفلام. وفي هذا السياق، يكون النقد السيميائي أكثر عينية وتركيزاً من أي مفهوم آخر. لكنه يرى في الوقت نفسهً أن التركيز لا يجرى غالبا، على الفيلم، بل على النظرية.

ولعلّ هذا ما دفع ميتز إلى التأكيد على إن الفيلم: “يروي لنا قصصاً مترابطة، ويقول لنا أشياء كثيرة، تقولها أيضا اللغة المنطوقة، لكن الفيلم يقولها بطريقة أخرى. فالكلمة علامة معجمية، يسبق وجودها النص الأدبي، أما الصورة كعلامة، فوجودها يُبتكر خلال إنجاز العملية الفنية الخاصة. وإن الذهاب إلى السينما، بالتالي، يعني رؤية هذه القصص”. بمعنى آخر: “ليس لان السينما لغة تستطيع أن تروي لنا قصصا جميلة، إنما لأنها روت لنا هذه القصص أصبحت، بذلك، لغة “.

على الفيلم أن يقول شيئا وله أن يقوله، لكن دون أن يلتزم بشعور معالجة الصور ككلمات وتنظيمها وفقا لقواعد نحو لغوي مشابه. أن حظ الفيلم في قدرته على التفريج والتعبير عنمعنى، ليس وفقا لأفكار مسبقة أو مستعارة، إنما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان.

كيف؟

يستنتج ميتز أن “الكاتب يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها “.

مارتين جولي

من هنا علينا أن نقرأ كتاب جولي دون أن نغفل إغناء القراءة بالعودة إلى مصادر أخرى خاصة وإن المؤلفة ترمي أيضا من كتابها إلى: مساعدتنا، نحن مستهلكي الصوّر، في تعميق مفهومنا للصورة، وإدراكنا لآلية عملها، في ميداني الاتصال، ونقل الرسائل.

وبغض النظر عن كون الكتاب يتجاوز، بشكل جذاب ومبتكر،الأصناف الوظيفية للصورة وفهم آلية عمل الصورة، بأبسط السبل، باعتبارها علامة إضافة إلى فهم، ليس فقط ما الذي تقوله الصور، بل أيضاً، كيف تقوله؟ وتقول المؤلفة، بهذا الصدد: ” أن المقاربة النظرية لتحليل الصورة تساعد على فهم خصوصيتها. خاصة وأن الصورة موضوع متعدد الجوانب والأوجه، ومن الطبيعي، أن نجد العديد من النظريات، تتناول الصورة، من هذا الجانب أو ذاك: نظرية الصورة في الرياضيات، وفي المعلوماتية، وعلم الجمال، وعلم النفس، والتحليل النفسي، وعلم الاجتماع، وعلوم البلاغة… الخ.  لكن الأجدر بنا أن نلجأ إلى نظرية أعم وأشمل وهي “النظرية السيميائية” التي تتيح لنا، إمكانية دراسة تحوُّل الصورة الدائم، بين التشابه والأثر والاصطلاح، أي بين الأيقونة والقرينة والرمز، لتجعلنا تدرك تمام الإدراك، حجم التعقيد، الذي تنطوي عليه عملية التواصل عبر الصورة، لكنها أيضاً، تجعلنا ندرك قوة تأثيرها.

وكما رأى امبرتو ايكو في السيميائيات العلم، الذي يهتم بتمفصل الدلالات وأشكال تداولها او العلم الذي يرصد تشكل الانساق الدلالية ونمط انتاجها وطرق اشتغالها٭٭، ترى المؤلفة: ” قد يكون مفيداً جداً لنا، لفهم آلية عمل الصورة، بما هي علامة، وبأنه التصنيف الذي يعتمد تصنيف العلامات، تبعاً لنمط العلاقة القائمة بين الدالّ (الوجه المُدرَك) وبين المرجع (ما يتم تمثيله، الشيء أو الموضوع العيني)، وليس بين الدال والمدلول.

تتوقف المؤلفة في الكتاب عند مفهوم الصورة، لأن غنى مفهومها ووظائفها يندرج في مدخل تحليل الصورة. وتتطرق الى نحو اربعين مفهوما مختلفا لمعني الصورة، تتفاوت مابين مفهومي الحكمة والتسلية، الجمود والحركة، الدين والتلهّي، التزيين والتشابه، اللغة والظل. وأحد معاني كلمة إيماغوimago  باللاتينية، وهو الأصل الذي اشتقت منه كلمة “صورة. فما يتمثل في الصورة إن لها بالفعل صبغة كونية. وهذا يعود إلى حقيقة، أن الإنسان، صنع صوراً في كل أنحاء العالم، منذ عصور ما قبل التاريخ، وإلى يومنا هذا، وأننا جميعاً، نعتقد في أنفسنا القدرة على التعرف إلى صورة تمثيلية، أياً يكن سياقها التاريخي والثقافي. هذا النوع من التيقن، ومن الاعتقاد، هو الذي جعلنا نظن، لفترة وجيزة من الزمن، أن السينما “الصامتة”، هي لغة كونية، وأن دخول النطق إليها، يهدد بالانتقاص من كونيتها وعزلها.

تُطلق كلمة “صورة”، في اللسان، إن جاز التعبير، على الاستعارة. والاستعارةmétaphore  هي أكثر أشكال البلاغة استخداماً وشيوعاً، وأكثر مواضيعها دراسة. ويعطي المعجم للاستعارة مرادفاً هي كلمة “صورة”. ما نعرفه عن الاستعارة الكلمية، أو الكلام “بالصور”، هو أنها تقوم (أو أنه يقوم) على إحلال كلمة على أنها أخرى، بسبب ما بينهما من تماثل أو اقتران. فعندما تكتب جولييت درويهJuliette Drouet  لڤيكتور هوغو قائلة : «أنت أسدي الشامخ والكريم »، فهذا ليس لأن هوغو أسد حقيقي، بل لأنها تنسب إليه، بالاقتران، صفات النبل والوقار، التي يمتاز بها ملك الغابة.

وكما يبدو فإن الصورة يمكن أن تكون الشيء، كل شيء، ونقيضه: فهي بصرية ولامادية، مركبة وطبيعية، حقيقية وافتراضيه، متحركة وثابتة، مقدسة ومدنـَّسة، مغرقة في القدم ومعاصرة، مرتبطة بالحياة وبالموت، تماثلية، أداة للمقارنة، اصطلاحية، أداة للتعبير، أداة اتصال، بنـَّاءة ومدمـِّرة، مبعث خير وتفاؤل ونذير شؤم.

غير أن الصورة، أو الاستعارة، قد تكون وسيلة تعبيرية غنية، لا متوَقـَّعة ومُبدِعة، وربما وسيلة معرفية، حين ينجح اقتران الكلمتين (اقتراناً صريحاً أم ضمنياً) في استثارة مخيلتنا، وحثنا على استكشاف التقاطعات غير المنتظرة بينهما. ونعلم أن هذا كان واحداً من مبادئ عمل الصورة السريالية، في الأدب طبعاً، لكنه انسحب أيضاً على فن التصوير والسينما.

ولدت فكرة تأسيس علم للعلامات في مطلع القرن العشرين، يختص بدراسة مختلف أنواع العلامات، التي نسعى إلى تأويلها، وأطلق عليه في الأصل اسم سيميولوجيا أو سيمياء، ووضع نموذج تصنيفي (تيبولوجيا typologie) خاص بها، واكتشاف القوانين التي تحكم عمل مختلف أصنافها. والمعروف أن أهم المبشرين بهذا العلم، هما:

عالم الألسنية السويسري فيردينان دو سوسور Ferdinan de Saussure، في أوروبا

(و)

العالم تشارلز ساندرز بيرس CharlesSandersPeirce، في الولايات المتحدة.

أنطلق سوسور في دراسته، تحديداً، من المبدأ القائل، بأن اللسان، هو «نسق(نظام) من العلامات تعبر عن أفكار ما»، نستخدمه للتواصل، لكنه ليس النسق الوحيد. وبناء عليه، رأى “السيميولوجيا” على أنها «علم شامل للعلامات»، علم جديد ينبغي ابتكاره. وفي هذا العلم الجديد يحتل علم اللّسان أو الألسنية، أي الدراسة المنهجية للّسان، مركز الصدارة، ويشكل كامل مجال دراسته،وعليه انكب سوسور على عزل الوحدات المكوِّنة للّسان: في مقدمتها الفونيمات أو المستصوتات، وهي وحدات أولية لا تحمل معنى، ومن ثم الوحدات الدلالية الأصغرية أو الأساسية، أي المونيمات (المعادل التقريبي للكلمة)، أو العلامات الألسنية.

وزيادة في التوضيح نعود إلى أندريه مارتينيه ٭٭٭، وهو يقارن بين الكلام البشري وبين غيره من ألوان التخاطب، استطاع أن يبين أن الكلام البشري قادر وحده على ما سمى “التمفصل المزدوج” وأكتشف أن مبدأ التمفصل المزدوج هو القانون الأساس من قوانين اللغة الطبيعية. فهو يتركب من تمفصلين:

 المورفيمات: وحدة التمفصل الأول، وهي وحدات صوتية صغرى دالة، تتألف بدورها من وحدات أصغر منها غير دالة هي:

الفونيمات: وحدة التمفصل الثاني، وهي وحدات صوتية تمييزية. يعبر عنها في الكتابة بالحروف الأبجدية يمكن بواسطتها تركيب الوحدات الصوتية الدالة: الكلمات المعجمية، التي تنفرد بها كل لغة. ومع أن عدد الفونيمات محدود، إلا أنه ينتج عدداً غير محدود من المورفيمات، تساعد على التمييز بين المعاني. وان ما ينتج عن تعريف الفونيم بوصفه قيمة تمييزية في المقام الأول، هو أن الفونيمات لا تنجز وظيفتها بفضل تفردها الصوتي وإنما بفضل تقابلها التبادلي ضمن نظام معين. والشيء المهم، الذي يتعلق، بقدر ما بالفونيمات، هو الاختلافات، التي تساعد على التمييز بين الكلمات. وهذه هي القيمة اللغوية الوحيدة للفونيمات. فتلك الاختلافات هي بالضبط، نقطة الانطلاق لأي بحث في الفونيمات.

انتقل سوسور بعدئذ، إلى دراسة طبيعة العلامة الألسنية، فوصفها على أنها كينونة نفسانية، تحمل وجهين متصلين، لا ينفصلان، تربط الدال(الأصوات) بالمدلول(المفهوم): مجموعة الأصوات، التي تشكل صوت كلمة “شجرة”، لا ترتبط بهذه الشجرة الحقيقية، التي قد تكون منتصبة أمامي، بل بمفهوم الشجرة، وهو أداة ذهنية كوّنها من خلال تجربته. وقد مثـَّل سوسور تلك الكينونة بالمخطط المعروف:

دال / مدلول / (Signifié /Signifiant

ولقد تبين فيما بعد، أن خصوصية العلاقة بين الأصوات والمعنى، أو بين الدال والمدلول، في اللسان، هي “اعتباطية”، أي اصطلاحية، على عكس العلاقة التي تـُوصف بـالعلاقة “المعلـَّلَة”، عندما يكون لها تعليلات “طبيعية”، كالتماثل أو التجاور. يقول سوسور: «إن فكرة الأخت، لا ترتبط بأي رابط داخلي (عضوي) مع تتابع أصوات حروف كلمة “أخت”، أما البورتريه المرسوم، فسيكون علامة “معلـَّلة” من خلال التشابه، شأنه شأن أثر القدم أو اليد، الذي بدوره سيكون علامة معللة، تكمن علتها في التجاور الفيزيائي».  وأرسى سوسور، باختصار، أسس نهج جديد، مبتكر ومتماسك، إلى درجة أنه أعلن بنفسه إن «اللسان، وهو، من بين أنظمة التعبير، أكثرها تعقيداً وأكثرها انتشاراً، كما هو أيضاً أميزها وأكثرها خصوصية؛ وبمقدور الألسنية، إنطلاقاً من هذا المفهوم، أن تغدو النموذج العام لأية سيميولوجية كانت، فيما يظل اللسان، مع ذلك، مجرد نظام خاص».

وقد احتلت أعمال بيرس ن، بدوره، أهمية فائقة، في ميدان نظرية العلامات. فهو لم ينطلق، في بحثه، من دراسة اللسان، أولاً، بل حاول، منذ البداية، بلوغ ملامح نظرية شاملة للعلامات (سيميائية semiotics)، ووضع نموذج تصنيفي عام وشامل. بحيث يندرج اللسان، بطبيعة الحال، ضمن هذا التصنيف، لكنه لا يشكل صلب النظرية، بل يأخذ مكانه المناسب ضمنها، من منظور أوسع وأشمل.

فالعلامات ليست ظواهر طبيعية، فالظواهر الطبيعية ذاتها لا تقول اي شيء، إلا إذا كانت هناك تقاليد تعلم المرء كيف يقرأ هذه الظواهر. وبالتالي يمكن أن نتحدث عن علامةعندما تكون فيها دلالة، عندما تكون قابلة لربط العلاقة بين المرسل والمتلقي لهذه العلامات وذلك بالنظر إلى قصدية منتج هذه العلامة. وعرف بيرس العلامة بأنها «شيء ما، يقوم مقام شيء ما، بالنسبة لشخص معين، من منظور رابط ما، أو من باب ما».

تكمن ميزة هذا التعريف في تقديمه البرهان، على أن العلامة، تقيم ارتباطاً تعاضدياً، بين أقطاب ثلاثة، على الأقل (وليس اثنين فقط كما يرى سوسور): الوجه المُدرَك للعلامة: وهو ما يسميه “الاستعاضة” “representament” أو الدال (St)، وما تـُمثـِّل: “الموضوع” أو المَرْجـِع référent، وأخيراً ما تدل عليه(دلالتها): “المؤِّل”  interprétant أو المدلول.

وعلينا أن نميز بين مرجع العلامة ومدلولها، أي معناها، فالدال والمرجع لا يقويان على تشكيل العلامة، فالدال ليس هو الكلمة والمدلول ليس هو الشيء الواقعي الذي يدل عليه. فالعلامة، بدالها ومدلولها ترجع إلى العالم الحسي الملموس، الحقيقي أو الوهمي، المعلوم أو المجهول. وتأتي الدلالة من علاقة العلامة بالمرجع ومن وحدتهما. إذًا فالمدلول هو الذي يربط عملية التصور الذهني على أساس علاقته بالمرجع في الواقع الخارجي أو الاجتماعي.

وتمثل هذه المُثالـَثـَة أيضاً، خير تمثيل، الدينامية التي تتمتع بها كل علامة، بوصفها سيرورة سيميائية، تتعلق دلالتها بسياق تبدّيها أو ظهورها، مثلما تتعلق بترقب أو توقع متلقيها. كما رأى أن العلامات، على الرغم من تعددها وتنوّعها، إلا إنها تمتلك جميعاً بنية مشتركة. بنية تقتضي تلك الدينامية ثلاثية الأقطاب، التي تربط الدال بالمرجع وبالمدلول.

ولئن كانت العلامات تمتلك بنية مشتركة، فهذا لا يعني، بالضرورة، أنها متطابقة فيما بينها: الكلمة ليست صورة فوتوغرافية، ولا قطعة ثياب، ولا لوحة دلالة طرقية، ولا غيمة، ولا وضعية معينة، الخ. لكن هؤلاء جميعاً بمقدورهم، مع ذلك، أنيدللوا على شيء آخر غير ما هم عليه، ويتحولوا، بالتالي، إلى علامات.وقد قدم بيرس تصنيفاً بالغ التعقيد، في محاولة لتمييز خصوصية كل نمط من أنماط العلامات:

كريستيان ميتز

للعلامة كينونة مادية، ندركها عبر واحدة أو أكثر من حواسنا الخمس. قد نراها (جسم، لون، إيماءة)، أو نسمعها (لغة منطوقة، صرخة، موسيقى، ضجيج)، أو نشتمّها (روائح مختلفة: عطر، دخان)، أو نلمسها، وكذلك نتذوقها.وهذا الشيء، الذي ندركه بحواسنا، يقوم، في الحقيقة، مقام شيء آخر: وهذه هي الخصوصية الجوهرية للعلامة: أن تكون ها هنا، حاضرة، للإشارة، أو الدلالة على شيء آخر، غائب، محسوس أم مجرد.

احمرار الوجه، أو شحوبه، قد تكونا علامتين(علامات) للمرض أو الانفعال، أصوات اللسان المنطوق، التي ألتقطها، هي علامات لمفاهيم، تعلمتُ أن أقرنها بها؛ الدخان الذي أشتمه أو أراه، هو علامة للنار؛ رائحة الخبز الطازج، علامة للمخبز القريب؛ اللون الداكن للغيوم، علامة للمطر؛ الرسالة أو المكالمة الهاتفية، مثلها مثل إشارة معينة من اليد، قد تكون علامة للصداقة؛ بإمكاني أيضاً الاعتقاد، أن رؤية قط أسود هي علامة شؤم؛ الإشارة الضوئية الحمراء، عند التقاطع، دلالة لمنع مرور السيارات، وهكذا دواليك. أي أن كل شيء يمكن أن يكون علامة، طالما كان بمقدوري أن أستنبط منه دلالة، ترتبط بثقافتي، وبسياق تبدّي العلامة. «الشيء الحقيقي، بحد ذاته، ليس علامة لما هو عليه، لكنه قد يكون علامة لشيء آخر».

وإذا ما كانت العلاقة إرادية «اتفاق ثقافي»، السلحفاة تدل على البطء، والثور شعار القوة، تكون العلاقة رمزية.

ومع أن العلامة السائدة في السينما هي الأيقونة إلا أن قدرة الأيقونة في السينما على التحول إلى علامة أخرى، قرينة أو رمز: الدخان مثلاً، يمكن أن يدل على مدلول غير مرئي: النار. وحينما تستند العلامة “الأيقونة” إلى عرف ثقافي متداول، “حمامة بيضاء” تدل على السلام، عندها تتحول العلامة إلى علامة “رمز”.

يخلص بيرس إلى ثلاثة أنواع رئيسية من العلامات:

الأيقونة l’indice

القرينة l’indice

الرمز le symbole

الأيقونة

وبما إن أي علامة تتكون من الدال والمدلول والمرجع أو الشيء فإن ما يحدد طبيعتها، هو العلاقة بين هذه العناصر، فإذا ما قامت العلاقة على التشابه، صورة فوتوغرافية لحصان، تكون العلامة أيقونية، وتمثلصفاً من العلامات، يرتبط الدالّ فيها بعلاقة تقوم على التماثل، بينه وبين ما يمثله، أي بينه وبين مرجعه الموجود والعيني. إن الرسم التصويري، أو الصورة الفوتوغرافية، أو الصورة المركبة على الحاسب، التي تمثل شجرة ما، أو منزلاً ما، هي كلها بمنزلة أيقونات، طالما أنها “تشبه” الشجرة أو المنزل.

أمبرتو إيكو

عندما يأتي إلى الصورة على وجه التحديد، نجد بيرس، في نموذجه التصنيفي للعلامات، لا يتوقف عند حدود التصنيف الذي ذكرنا أعلاه، بل نراه يشمِّلها، بالفعل، ضمن تيبولوجيته، كصنف فرعي من أصناف الأيقونة.

إنه، في الواقع، إذ يعتبر أن الأيقونة تمثل صف العلامات، الذي يرتبط الدالّ فيها بعلاقة تماثلية مع ما يمثله، يرى في ذات الوقت، أننا نستطيع تمييز نماذج عدة من التماثل، وبالتالي عدة نماذج للأيقونة، حصَرَها في أصناف ثلاثة، هي الصورة، بحد ذاتها، والمخطط diagramme والاستعارة métaphore.

وبين لويس بريتو، المختص بدراسة العلامات، أنواعها، فالأيقونة،عنده، هي التي تتشابه في ما تملكه من مواصفات مع شكل المرجع في الواقع الخارجي. إن صورة كرسي هي أيقونة بالقياس إلى الكرسي الذي تمثله وترتبط معه، كعلامة، بتشابه طبيعي، هندسي ووظيفي. على هذا تعتبر الأيقونة علامة معللة٭٭٭٭.

القرينة

إذا قامت العلاقة على التفاعل، ارتباط الدخان بالنار، تكون العلامة قرينة وتمثل القرينة صف العلامات، التي ترتبط مع ما تمثله بعلاقة سببية، تقوم على التجاور الفيزيائي. هذه حال العلامات المسماة ” طبيعية “، مثل الشحوب علامة التعب، والدخان علامة النيران، الغيوم للمطر، كذلك آثار أقدام إنسان يسير فوق الرمال، أو آثار عجلة سيارة في أرض طينية.  ويمكن للقرينة ذاتها، أن تتخذ لها بعداً أيقونياً، عندما تشابه ما تمثل: آثار الأقدام، أو عجلات السيارة تشابه القدم ذاتها، أو العجلة ذاتها، فالقرينة تشير، أيضا حسب بريتو إلى علامة أخرى، أي أن إدراكها يتم بشكل غير مباشر ويقترن وجودها بالتنبيه إلى علامة أخرى، الغيوم، مثلا، تنبه إلى هطول المطر. أما العلامة الرمز، فتربط بين عنصرين وهي أيضا عرف اتفاقي متداول أو لنقل اعتباطي لا يتغير ويمكن أن تكتنزه ثقافة أو حضارة ما، فالميزان، مثلا، رمز للعدالة والأفعى رمز للصيدلية.

الرمز

يمثل الرمز، صف العلامات، التي تربطها بمرجعها علاقة من نوع اصطلاحي. وتنضوي تحت هذا الصنف، الرموز التقليدية، كالعلم رمزاً للوطن، والحمامة للسلام، وكذلك اللغة، من حيث أنها تعتبر، هنا، بمثابة نظام (نسق) من العلامات الاصطلاحية.وتستعين الصور الرمزية والاصطلاحية، بالرمز للتعبير عن مفاهيم مجردة. الحب، الجمال، الحرية، السلام، الخ.، كلها مفاهيم تستعين بالرمز، وتظل بالتالي، رهينة لمدى استعداد القارئ، ورغبته في تأويل رمزيتها. ذلك أن الرمز ينفرد بميزة خاصة، تتلخص في أنه (على نقيض الاستعارة) قد لا يقتضي التأويل. بمقدورنا فهم صورة حمامة، باعتبارها صورة “السلام”، مثلما يمكننا ألا نرى فيها أكثر من مجرد صورة حمامة.

لقد جرى استثمار هذا التصنيف – حسب المؤلفة – على نطاق واسع، لكنه أثار بالمقابل، انتقادات واسعة. وإذا كنا نستعيده هنا، فلأننا نرى فيه عوناً كبيراً على فهم الصور، على اختلاف أنواعها، وكذلك على فهم نمط عملها. لاريب في أن هذا التصنيف يحتاج إلى المزيد من الدقة والتمحيص، وكان بيرس أول المبادرين لإعادة النظر فيه، عندما أوضح أنه ليس ثمة علامة صرف، وإنما خواص غالبة ليس إلا.

فالأيقونة، حتى وإن كانت تضاهي رسماً واقعياً، في صراحتها ووضوحها، تظل تحتفظ بنصيبها من الاصطلاح التمثيلي، وبالتالي، بشئ من الرمز بالمعنى البيرسي للكلمة. ولا نتقصد هنا الحديث عن الدلالات الاصطلاحية، التي يمكن أن نعطيها للرسوم، حتى أكثرها واقعية (مثل دلالة السلام عبر رسم الحمامة)، بل نحاول أن نبين أن طريقة الرسم، بحد ذاتها، تلتزم قواعد تمثيل اصطلاحية، مـُتـَّفـَقاً عليها، كقواعد الرسم المنظوري، على سبيل المثال.

كذلك قد يكون للعلامات الاصطلاحية نصيبها من الأيقونية: المُحاكِـيات اللفظية في اللسان (كلمة cocorico مثلاً) تشابه صوت ما تمثله، وكذا حال بعض الرموز، مثل الحلقات الخمس، المرسومة فوق العلم الأولمبي، والتي تمثل القارات الخمس. غير أن هذا التشابه، قد لا يكون بالضرورة تشابهاً مرئياً. فالتسجيل الصوتي لصوت حصان يعدو، أو محاكاة هذا الصوت، يمكن، نظرياً، أن تُعتَبر، هي أيضاً، بمثابة أيقونة، شأنها شأن كل علامة تقوم على المحاكاة.

أخيرا للسيميائيات أن تصبح كما تكهن بذلك فرديناند دو سوسور العلم الكلي وهو التصور كذلك نفسه الذي سنجده عند شارل بيرس، أي أن السيميائيات ستصبح العلم العام لكل شيء يمكن أن نجده في العلوم الحقة، كما نجده في العلوم الإنسانية، وبالتالي: ” ما تزال السيميائيات تبحث لتحقيق هذا الرافد الأساسي في المعرفة عن طريق الاستفادة من مختلف أنماط العلامات التي ينتجها الإنسان ويتواصل بواسطتها. ونحن العرب لتجديد لغتنا لتجديد علاقاتنا بالعلامات التي ننتج أو بالعلامات التي نعيش، لأننا نعيش في إطار عصر، ينتج علامات فنحن مضطرون للتواصل معها، ولا بد، إذن، من أهمية تطور السيميائيات في ثقافتنا لكي نتمكن من الارتقاء من التعامل العفوي والبسيط إلى مستوى أعلى من الفهم والإدراك لهذه العلامات ” ٭٭٭٭٭

٭ مارتين جولي. مدخل إلى تحليل الصورة (الفن السابع (249) المؤسسة العامة للسينما. دمشق /2015). ترجمة نبيل الدبس.

٭٭ أمبرتو إيكو. العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه. المركز الثقافي العربي.ترجمة. سعيد بنكراد . مراجعة. سعيد الغانمي 1.1. 2007

٭٭٭ قيس الزبيدي. حول مصطلح اللغة السينمائية. عين على السينما 17 يونيو 2011

٭٭٭٭ قيس الزبيدي. دراسات في بنية الوسيط السينمائي. دائرة الثقافة. الشارقة 2018

٭٭٭٭٭ سعيد يقطين. حول كتاب العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه لأمبرتو إيكو، الجزيرة 3/11 / 2008

Visited 106 times, 1 visit(s) today