فيلم “طفيل” أن تعيش على حافة المجازفة

إن كنت ساخطا على حياتك أو تأمل في تغيير واقعك فبيدك الكثير لتفعله ولكن عليك بتحمل العواقب فيمكن أن يحدث ما لا تحمد عقباه، وهذا ما يحدث أحيانا إذا تجاوز التحدى الخوف والرغبة المخاطرة والشغف الواقع، في النهاية أنت من يختار، كما فعلت عائلة “Kim Ki-taek-كيم كي تايك” في فيلم “Parasite-“طفيل”، فالرغبة في حياة أفضل جعلتهم يفعلون الكثير ويضحون بالأكثر.

يقوم الفيلم على ثنائيات متوازية، الثنائية الأكبر هي الطبقة الاجتماعية، فمن أنت وإلى من تنتمى، هل تتفق معي في المستوى الاجتماعي، يكشف الفيلم بشكل صارخ الأفكار التي تتوارى خلف الطبقات الاجتماعية، حتى وإن ظهر هذا في تفاصيل بسيطة مثل الملابس والتصرفات وحتى الرائحة، رائحة الجسد.. رائحة البيت رائحة الطبقة.

الوجه الآخر للهاليو

يبتعد الفيلم عن التصوير الميلودرامي للأحداث، فهي مرثاة تتباين أحداثها وتنبئ بتفاقم أزمة لا تظهر على السطح، حيث يختلف مع التوجه الثقافي العام في كوريا الجنوبية، المسمى “الهاليو” والذي نشأ مع بداية الألفية الجديدة، وهو يصور العالم الكوري على أنه عالم مبهر يخلو من الأزمات والعيوب ويغرق في العلاقات الرومانسية والحياة الرغدة، لكن المخرج “بونج جون هو Bong Joon-ho”، الذي اعتاد أن يكون صادما في أغلب الأحيان يكشف لنا عالما مغايرا ملئيئا بالمشاعر المتأججة والحقد الدفين، ويوظفه كحقد شرعي لعدم عدالة الحياة، فالشعور بأن الآخر وما يملكه حقا لك، لمجرد أنك لا تملك وتغافل البعد القيمي مع تأزم الحياة، يجعلنا أمام تساؤل من يستحق ومن لا يستحق؟ والأهم من الذي يحكم أو يقيس توزيع المستحقات؟

ما يلفت النظر في شخوص فيلم “طفيل” هو الشعور بالراحة رغم ما يفعلونه من تجاوزات، فالعائلة المكونة من الأب والأم والابن والابنه، لا يشعرون بالذنب، وكأنهم ينتزعون حقهم من الحياة، كما أن مشاعر الخوف غير حاضرة، فالمجازفة تلعب دور البطولة في حياتهم، فضلا عن غياب الندم أو اللوم، فالأولاد لا يلومون الأب على ما آلت لهم حياتهم. هناك حالة من التفاهم العميق حتى وإن لم يتم ذكره بصورة مباشرة لكنه تفاهم حاضر، فجميعهم يعلمون أنهم كالتروس في آلة واحدة عليهم المشاركة في انتشال بعضهم البعض من العيش تحت خط الحياة الممكن.

لا يقدم الفيلم رؤية اجتماعية صارخة ومضمونا كاشفا للواقع أو يشاغبهم فقط. بل قدم رؤية سينمائية بصرية تكاتفت مع الفكرة والشخصيات حتى تنتج فيلما يستحق أن يكون مثار جدل وحديث لا ينتهي، فمشاهدة الفيلم تعتبر تجربة بصرية غنية، تتلاحم بها عناصر الصورة بشغف، وهناك مشاهد لا تُنسى على مدار الفيلم، كما أن توظيف الدلالات التاريخية، كالدم والأضحية وملابس الهنود الأمريكيين التنكرية وغيرها من العناصر، تلك العناصر التي تجعل المشاهد يفكر في الطقوس التي يلجأ لها الإنسان لتخلصه من الشرور أو يعبر بها من حال إلى حال، ليصبح إنسانا آخر من خلالها، فـ” Kim Ki-taek- كيم كي تايك” في لحظة تحول من طفيلي متعايش إلى كائن ذو قرار وسيادة حتى وإن كانت سيادة لحظية.

براعة فيلم ” Parasite- طفيل”لا تقف عند هضم الواقع والتعبير عنه وإنما في التناغم بين الدراما والكوميديا السوداء، فالسيناريو الذي اشترك فيه المخرج “بونج جون هو Bong Joon-ho”مع “Jin Won Han- جين وون هان”، الذي ساعده في الإخراج بفيلم “Okja” سابقا، قدم لحظات ضاحكة وصارخة في بعض الأحيان رغم سوداويتها، وكأنه ضحك تأملي ساخط على حقيقة معلومة رغم السكوت عنها ظاهريا.

سيمفونية بصرية

اعتمد المخرج “بونج جون هو Bong Joon-ho”على فريق زامله في بعض أعماله السابقة ويتفق معه في الرؤية الفنية للفيلم، فالمصور “Kyung-pyo Hongهونغ جيونج بيو”الذي قدم من قبل تجربة بصرية خاصة في فيلم “احتراق- Burning”، قدم ملحمة بصرية حولت المشاهد من مجرد أحداث إلى لقطات تأملية عميقة في نفوس الشخصيات، خالقا عالم سحري تجاوز واقعية الحقيقة التي يصورها الفيلم.

تزامن هذا مع المونتاج السلس الذي قدمه “Jinmo Yang-يانغ جين مو”، الذي وظف تقنيات المونتاج لخدمة الإيقاع السردي والعاطفي للفيلم والشخصيات، فالمشاهد لم تتابع لنقل الأحداث فحسب بل نقلت للمشاهد حالة الشخوص وعوالمهم الداخلية دون تكلف حواري، ما أكمل السيمفونية هي الموسيقى التصويرية لـ”Jaeil Jung-جيونغ جاي إيل” التي تلاعبت على نغمات متباينة تلائمت مع حالة الفيلم المتنوعة، فالسخرية والحزن والسخط والغضب حالات وجدت لنفسها مكانا في الجمل اللحنية التي استمعنا لها على مدار الفيلم.

يُظهر الفيلم وجوها متنوعة، حيث يحتاج الفيلم إلى وجوده تمثيلية ذات قدرات عالية، سيما أنه يختزل الكثير من الأحاديث والحوارات في أداء الشخصيات، فكما الواقع فنحن لا نعبر عن كل شعور بالكلمة، لهذا أحال المخرجهذه المهمة إلى ممثلين أجادوا التعامل مع الشخصيات التي أدوها رغم تنوعهم، فبعضهم نمت شعبيته على الشاشة الصغيرة من خلال الدراما الكورية كالممثل “Sun-kyun Lee” الذي قدم دور رب الأسرة الثري، وحقق “Sun-kyun Lee” تطور ونجاح ملحوظ في هذا الدور، سيما أنه المعادل لشخصية الممثل المخضرم “Kang-ho Song” الذي قدم أدوار عديدة في السينما الكورية المعاصرة، وقد تعاون من قبل مع المخرج “بونج جون هو Bong Joon-ho” في عدد من الافلام،والذي لعب دور رب الأسرة الفقيرة، وقدم الدور من خلال تمثيل وأداء مدروس غير متكلف وسلس.

إلى جانب أداء “So-dam Park- بارك سو-دام” التي لعبت دور الابنه، حيث قدمت أداء واثق ورسخ للشخصية، بشكل عام قدم الجميع أداء تمثيلي خدم الشخصية ووظفها لتخدم فكرة الفيلم.

تجربة المخرج “بونج جون هو Bong Joon-ho”وتمثيل كوريا وحصول الفيلم على جائزة مهرجان كان في دورته الأخيرة لأول مرة في تاريخ السينما الكورية، وحضور السينما الكورية في المحافل السينمائية العالمية والفعاليات السينمائية الدولية من قبله يبشر بأن السينما الكورية والأسيوية تسير في طريق متنامي ويبنئ بأفلام أخرى تعبر عن قبح وجماليات الحياة من خلال عدسة السينما.


Visited 100 times, 1 visit(s) today