فيلم “برا المنهج” .. دروس إنسانية خارج المقرر

Print Friendly, PDF & Email

د. ماهر عبد المحسن

أحد المداخل المهمة لفهم أي عمل سينمائي هو البحث عن الفكرة الملحّة التي تتكرر في أفلام مخرج العمل، وفكرة الطفولة وعلاقتها بالبيئة المحيطة يمكن أن ينطبق عليها هذا المعنى بالنسبة لعمرو سلامة، الذي لعبت الأطفال أدوارا محورية وصلت إلى درجة البطولة في أفلامه، كما شاهدنا في  فيلم “لا مؤاخذة” ومسلسل ” ما وراء الطبيعة” وأخيرا في فيلم “برا المنهج” موضوع مقالنا.

والملاحظ أن سلامة، في استعانته بالأطفال، لا يشبه أنور وجدي الذي كان يهدف إلى تحقيق تأثير ميلودرامي في نفس المشاهد من خلال موهبة استثنائية هي الطفلة “فيروز” خاصة في أفلام مثل “ياسمين” و “دهب”، كما لا يشبه كمال الشيخ الذي كان يرمي إلى كسب تعاطف المشاهد من خلال وضع الطفل في مواقف مأزومة قد لا يتحملها الكبار كما في “حياة أو موت” و “ملاك وشيطان” و “الشيطان الصغير”.

فعلى خلاف هذه التجارب يستعين سلامة بالأطفال من أجل طرح قضية اجتماعية معينة مثل تأثير التفاوت الطبقي والثقافي علي علاقة النشء بعضهم ببعض عندما ينتقل طفل من مدرسة خاصة إلى مدرسة حكومية كما في فيلم “لا مؤاخذة”، أو توصيل رسالة تربوية مهمة كما في فيلم “برا المنهج”، وفي كلتا الحالتين يتم تقديم القضية في سياق ظاهرة “التنمر” التي انتشرت في المجتمع مؤخرا حتى طالت حياة الأبناء وباتت تهدد أمنهم وسلامتهم.

ويشذ مسلسل “ما وراء الطبيعة” عن هذا السياق، لأن القصة لأحمد خالد توفيق، وليست لعمرو سلامة الذي كتب قصتي الفيلمين الآخرين بنفسه.

ومن خلال عالم الأطفال نجد الكثير من السمات المشتركة في الشخصيات والمواقف، فالفضول المعرفي موجود لدى طفلي “ما وراء الطبيعة” و ” برا المنهج” بحيث نراهما في مواقف متشابهة تجعلهما يتورطان في الدخول إلى الأماكن الخطرة التي يخشاها الأطفال في الغالب، بيت الخضراوي في الأول و بيت الشبح في الأخير، والموقفان يتأسسان على ألعاب الطفولة، الاستغماية وكرة القدم.

كما أن طفلي ” لا مؤاخذة” و ” برا المنهج” يتسمان بضعف واضح في الشخصية في البداية ما يلبث أن يتحول إلى قوة، بحيث ينجح كل طفل في أن يتواءم مع البيئة المدرسية القاسية التي أفقدته ثقته بنفسه، ليحسم، في مرحلة تالية، معاركه مع أقرانه وحتى مع القائمين على النظام المدرسي نفسه لصالحه، في رسالة مباشرة وواضحة بضرورة التغلب على أسباب الضعف التي يستشعرها بعض الأطفال في البيئة المدرسية حتى يمكنهم أن يواجهوا تحديات المستقبل الأكثر شراسة عندما تذهب البراءة ويتحولون إلى رجال مسؤولين.

تدور أحداث “برا المنهج” في قرية صغيرة لا تتضح من ملامحها سوى بيت الخالة وأسرتها الذي يعيش فيه الطفل ” نور” (عمر شريف) بعد وفاة الأم وغياب الأب، وكذا المدرسة التي يدرس فيها، والطريق الذي يربط بينهما، وهو طريق يمر ببوابة ضخمة لمنزل مهجور يسكنه شبح مخيف (ماجد الكدواني)، كما أنه مرتع للعب الكرة من قبل الأولاد الخارجين من المدرسة.

ويتضح من الدقائق الأولى أن “نور” يعاني الضعف والتنمر في المدرسة (من المدرّس) وفي الشارع (من الأولاد) وفي البيت (من زوج الخالة) ويتبدّى الضعف في تكوينه الجسماني الهزيل وفي قصر النظر الذي يعالجه بارتداء نظارة طبية سميكة. لكن “نور”، بالرغم من ذلك، يتمتع بالذكاء الفطري وسعة الحيلة ما يجعله في لحظة ما يتحكم في مصائر كل المحيطين به.

وتبدأ نقطة التحول من لحظة دخول “نور” إلى المنزل المرعب واكتشافه أن الشبح ما هو، على الحقيقة، سوى رجل عجوز يحيا بمفردة، ويطارد الأطفال الذين تسوّل لهم نفوسهم أن يقتربوا من المنزل، حتى يمكنه أن ينعم بحياة هادئة. يكتسب ” نور” قوة وهمية عندما يعقد صفقة مع الرجل الشبح ( على غرار صفقة فاوست الشيطانية) تمكّنه من أن يظهر أمام الناس في صورة البطل المخلّص، وهي صورة عمد السيناريو إلى أن تكون كاريكاتورية إمعانا في التهكم على الطريقة التي يفكر بها الناس بدءا من أطفال المدرسة حتى الناظر، مرورا بالمدرسين على اختلاف تخصصاتهم (الموسيقى والدراسات الاجتماعية).

تتحول علاقة “نور” بالرجل الشبح إلى علاقة إنسانية يقوم فيها الرجل بدور الأب والمعلم في الوقت نفسه. ومن خلال هذه العلاقة يعيد الرجل قراءة التاريخ على مسامع “نور” بطريقة مختلفة عن تلك التي يدرسها في المنهج المدرسي المقرر، ومن هنا يأتي عنوان الفيلم “برا المنهج”، في إشارة إلى العلاقة الملتبسة بين ما يقال وبين المسكوت عنه. وهو عنوان لا يكفي التوقف عند معناه الحرفي، لأنه يحمل من الدلالات الرمزية ما يجاوز الحكاية البسيطة التي يعبّر عنها.

والحقيقة أن الفيلم لا يقدم قراءة مغايرة للتاريخ بالفعل، وإنما يتخذ من فكرة إعادة القراءة (المسكوت عنه) رمزا للتمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف في حياتنا الحاضرة، لأن النماذج التاريخية التي قدمها (أخناتون، صلاح الدين، عمر مكرم) جاءت في صورة ساخرة تناسب عقلية الأطفال، وتحديدا عقلية “نور” الذي كان يتخيل القصص التاريخية التي يسمعها وفقا لما يعيش هو ويفكر، وقد كان السيناريو واعيا لهذه المفارقة بحيث قدّم الأحداث التاريخية ذات الخطورة في شكل كارتوني لا يتناسب وجلال هذه الأحداث. وتتأكد لدينا تلك الروح الطفولية التي غلفت السرد التاريخي في الحقائق الساذجة التي كان يكشفها الرجل الشبح لنور، علي اعتبار أنها تفاصيل مهمة تم التعتيم عليها، من قبيل أن شخصية ” فيرجينيا” في فيلم “الناصر صلاح الدين” لا وجود لها على الحقيقة!

فالمغالطات التاريخية شائعة في الأعمال التاريخية، لأن الأحداث، على المستوى الفني، تحتاج في كثير من الأحيان إلى اختلاق شخصيات ومواقف لم تكن موجودة في الواقع. وهنا وجب التمييز، نقديا، بين الواقع والخيال، أي بين التاريخ والدراما التاريخية، وبين الأفلام التاريخية والأفلام الوثائقية.

وفي كل الأحوال، فإن هذا التمييز، بين الواقع والخيال، هو ما ينبغي أن يتعلمه ” نور” والأطفال الذين في مثل سنه، حتى يبلغوا البطولة الحقيقية، وهو ما وضح في واحد من المشاهد الساخرة عندما طلب أحد الأطفال، ذو النبرة الطفولية، من نور أن “يبلغ”، وفي مشهد آخر يؤكد الطفل أنه “بلغ” لأن نبرة صوته تغيرت. وكما أن الرجولة الحقيقية لا تُقاس بالصوت فإن البطولة الحقيقية لا تُقاس بالقوة أو الجمال بنحو ما ساقت لنا كتب التاريخ الرسمية.

ويتأكد إلحاح السيناريو على هذه الفكرة عندما يكتشف “نور” ومدرّسة الموسيقي ( روبي)، من خلال أوراق الرجل الشبح القديمة، أنه كان إعلاميا معروفا ذات يوم وأنه ساهم في تزييف وعي الناس عندما كان يذيع لهم أخبار النصر الكاذبة في حين أن الهزيمة كانت هي الحقيقة المسكوت عنها! لقد لعب “نور” الدور نفسه عندما كذب على المحيطين به وزعم أنه على علاقة بالشبح ويمكنه تحقيق أحلامهم مقابل مبلغ من المال.

والمفارقة أن “نور” وعى الدروس التي سمعها “برا المنهج” جيدا، وقرر أن يكون شجاعا وبطلا على الحقيقة، فصارح زملاءه ومدرّسية بأنه لا يوجد شبح وأنه خدعهم عندما ادّعي لنفسه قوة غير موجودة، لكنهم لم يصدقوه وحاولوا إقناعه بأنه فعلا كان السبب في حل مشاكلهم وتحقيق أحلامهم، وعبثا حاول “نور” أن يثبت العكس.

بهذا المعنى يؤكد الفيلم على ضرورة الوجود الشبحي في حياتنا، فالحقيقة الواضحة لا تنجح دائما في حل المعضلات المربكة للوعي بقدر ما تزيد الأمور سوءا وتعقيدا. فنور يعيش في أسرة مفككة ولا يشعر بالانتماء إليها، لأن الخالة تلعب دور الأم وهى ليست كذلك والشيء نفسه يصدق على زوج الخالة وأبناء الخالة، بل إن الأب الحقيقي (أحمد أمين) عندما يظهر لنور ويطلب منه أن يذهب معه يرفض ” نور” ويقول له “أنت شبح” ، وهي جملة معبّرة لأن الأب موجود وغير موجود في الوقت نفسه!

ويستمر الوجود الشبحي في الظهور حتى في أدق تفاصيل الحياة الصغيرة، كما شاهدنا في الحوار الذي دار بين “نور” ومدرّس الدراسات الاجتماعية الذي منحه الدرجة النهائية بينما تخلو ورقة الإجابة من أي إجابة! ويمكننا أن نلحظ المفارقة نفسها عندما يعزف “نور” على أصابع البيانو التي لا تصدر أي صوت!

إن علاقة نور بالرجل الشبح هي بمثابة علاقة النور بالظلمة، أو علاقة الإنسان بالشبح، حتى على مستوى الرجل الشبح نفسه، فقد استطاع “نور” أن يزيل ظلمة البيت المهجور ويعيد للشبح وجهه الآدمي المفقود، كما نجح الرجل في المقابل في أن ينقل إلى نور بعض السمات الشبحية التي أكسبته شيئا من الغموض الذي مكّنه من السيطرة على العالم القاسي الذي لم يرحمه. وفي لعبة تبادل الأدوار هذه يكمن مفتاح النهاية الملغز! وحسنا فعل عمرو سلامة عندما استخدم الإضاءة الرمادية في معظم المشاهد للتأكيد على المنطقة البينية التي تقع بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والزيف.

وإذا كان ” المنهج” يعني الطريق، فيمكن أن نفهمه في الفيلم بمعنى الطريق التي تربط بين البيت والمدرسة وهي طريق مغلقة لا تؤدي إلى أي خيار جديد سوى المضي في الطريق العقيمة ذاتها، وعلى العكس يقع المنزل المخيف بعيدا عن الطريق، أي “برا المنهج”، وفيه يكمن اللغز ويكمن الحل في آن.

علي مستوى الأداء، لم يتح السيناريو مساحات كافية لمعظم الشخصيات، خاصة روبي وأحمد أمين وأحمد خالد صالح، لتقديم إضافة حقيقية للفيلم، وانحصرت المنافسة بين ماجد الكدواني والطفل عمر شريف، اللذان انفردا بالمساحة الأكبر من زمن الفيلم، وقد نجح الكدواني في تجسيد شخصية الرجل الشبح الذي كان يعيش وحيدا أسيرا للماضي ويخيف الأطفال، ثم تحول إلى مربي ومعلم يقدم النصح والمشورة. غير أن البطل الحقيقي، في نظرنا، هو عمر شريف الذي لعب دور الطفل “نور”، فقد كان موفقا جدا في أن يجمع بين الضعف وسعة الحيلة، وظل محتفظا بالخيط الدقيق الذي يفصل بين براءة الطفولة وخبرة الكبار، فلم يقع في فخ الخلط بين العالمين كما يحدث كثيرا عندما يتصرف الطفل بمنطق الكبار، لكن عمر شريف نجح في أن يحتفظ ببراءته بالرغم من ذكائه الواضح بحيث لم يتجاوز كونه طفلا شقيا فحسب.  

المفاجأة التي حملتها نهاية الفيلم من شأنها أن تربك المشاهد، لكنها لن تغير كثيرا من فهم العمل، فقط ستؤكد علي الأفكار المحورية، خاصة تلك المتعلقة بشبحية الواقع وازدواجية الحقيقة، ما من شأنه أن يضع الفيلم برمته “برا المنهج”!

Visited 25 times, 1 visit(s) today