“ضلّ راجل”.. الباحثات عن الحرية والكرامة والإستقلال

المخرجة حنان عبد الله المخرجة حنان عبد الله
Print Friendly, PDF & Email

لايمكن أن تعرف حدود قوة وبساطة وجسارة المرأة المصرية إلا إذا شاهدت فيلماً ينضح صدقاً وفناً مثل فيلم “ضلّ راجل” الذى أخرجته حنان عبد الله، ونجحت من خلاله فى تكثيف رؤية أربع نساء من أماكن ومستويات تعليمية وثقافية مختلفة عن العلاقة مع الرجل فى مجتمع شرقى محافظ كالمجتمع المصرى.

اسم الفيلم قادم مباشرة من المثل المصرى المعروف” ضلّ راجل ولا ضلّ حيط”، ولكنه لا يكرّس لمفهوم المثل فى صورته المتخلفة التى تجعل المرأة فى حاجة الى أى رجل”والسلام”، لأن ذلك أفضل لها من أن تستند الى الجماد، المثلْ يجعل المرأة كائناّ بلا  خيارات، لايمتلك أى شروط أومطالب، عليه فقط أن “يلحق” رجلاً من الرجال قبل أن يعيش الوحدة والهوان.

فيلمنا ليس بالتأكيد ضد الرجل، وهو بالقطع ليس فيلماً تحريضياً مثل بعض الأفلام النسوية، تحتاج المرأة الى رجل والعكس صحيح، ولكن المرأة لا يجب أن تقبل أى رجل وخلاص، النساء لا ترفضن الرجال ولكنهن تحلمن بالإستقلال والحرية والكرامة، لديهن شروط إنسانية لا يمكن المساومة بشأنها.

اختارت حنان عبد الله نماذجها بعناية، محور التقسيم هو الحالة الإجتماعية، هناك أولاً بدرية المتزوجة، وهناك ثانياً وفاء المطلّقة، وهناك ثالثاً شاهندة مقلد الأرملة، ولدينا رابعاً سوزان التى لم تتزوج بعد،هذا هو أساس التقسيم المناسب لموضوع الفيلم.

تنويعات واختلافات

ولكن التقسيم يأخذ كذلك أطيافاً ملونة باختلاف السن والمكان والمستوى التعليمى: بدرية شابة من بنى مزار فى محافظة المنيا، ووفاء عجوز بدينة تعيش فى الحسين فى القاهرة القديمة، وشاهندة مقلد مناضلة يسارية تجاوزت سن الشباب وتعيش فى كمشيش بالمنوفية، أما سوزان فهى شابة فى أوائل الثلاثين، حاصلة على مؤهل عال، ولكنها استقلّت عن اسرتها بافتتاح محل للخردوات فى دمياط.

تبدو العيّنة على هذا النحو وكأنها محاولة لتمثيل معظم شرائح نساء مصر المحروسة، الأهم من التمثيل أن المخرجة التى تقابلت مع السيدات نجحت فى اكتساب ثقتهن فبدأن فى الفضفضة ، ويقوم بناء الفيلم بأكمله على تضفير الروايات والحكايات والإعترافات معا وكأنها حكاية طويلة خاصة جداً ولكنها عامة جداً، وتقطع ثورة يناير السرد ثم تختم مشاركة الفتيات فيها أحداث الفيلم الذى ينتهى بأمل فى أن تواصل المرأة معركتها تحت شعار تردّد كثيرا فى ميدان التحرير هو: ” ما تعبناش .. ما تعبناش .. الحرية مش ببلاش”.

بدرية حاصلة على مؤهل متوسط (دبلوم)، زوجها أيضا يحمل دبلوماً منذ 18 عاماً ، ولا يستطيع أن يعمل به، لديها ثلاثة أطفال تحبهم وترعاهم، سيدة منزل من الدرجة الاولى تربّى الدواجن والمواشى، ولكنها تتعمد الكلام بالفصحى، كان حلمها القديم أن تصبح فنانة تشكيلية، تحب زوجها ولكنها وافقت عليه فى سن صغيرة جداً ، كانت مبسوطة أكثر بالفستان والزفة والفرح، نراها فى صور قديمة مع الزوج على الشاطئ، ولكنها ستحكى عن مشاحنات وصلت بها الى طلب الطلاق وترك المنزل، استفزها زوجها بتعليق سخيف يقلل من جهدها بعد يوم عمل شاق داخل المنزل، تقول لنا فى مرارة أنها لا تطلب سوى أن تسمع كلمة حلوة، مجرد عبارة شكر يقولها الغريب ويضن بها الزوج.

وفاء العجوز البدينة المطلقة الوحيدة تقول بوضوح أنها تكره الرجال، تحكى ببساطة مثل سيدات المناطق الشعبية عن أدق تفاصيل حياتها، كانت مجرد فتاة يعرضون عليها العرسان، رفضت أن تتزوج رجلاً لأنه أصلع، وافقت أخيراً على زوج شرس وقوى، تعترف أنه كان يطلب منها حقه الشرعى فى أى وقت، أنجبت منه ولم تتغير المعاملة، تعترف أنها زُفّت الى زوجها بطريقة الدُخلة البلدى حيث اشتركت سيدات عجوزات فى فض بكارتها، فجأة زاد عليها الهمّ فهربت من المنزل ورفضت الرجوع، وصفها زوجها بأنها امرأة مجنونة، ولكنها تبدو الآن سعيدة بالحرية رغم كل شئ.

 شاهندة مقلد، حكاية حب طويلة مع ابن خالتها وحبيبها وزوجها  صلاح حسين، والدة صلاح كانت رافضة، شاهندة كانت تحب صلاح وهو يحبها دون أن يعلنا ذلك، تم كتب كتابها على شخص آخر ولكنها أصرت على الزواج بمن أحبت، صور قديمة لهما تعلن عن شراكة حياة، تقول شاهندة إن زوجها الراحل  كان يؤمن  بحرية المرأة ودورها حقيقةً لا كلاماً ، يتوقف الفيلم عند مأساة اغتيال صلاح حسين فى حادث كمشيش فى الستينات، فى فيلم وثائقى قديم تظهر شاهندة وهى تجرى بالملابس السوداء وحولها أهل القرية يهتفون بسقوط الإقطاع، مؤتمرات جماهيرية تشارك فيها شاهندة وسط الفلاحين قبل وبعد ثورة يناير، أصبحت تستكمل اليوم معركة زوجها وانحيازه للبسطاء، لا تستطيع أن تمنع نفسها من الدموع وهى تتذكر بعد كل هذا العمر لحظة إبلاغها بمقتل زوجها.    

         سوزان غنيم في لقطة من الفيلم

سوزان فتاة تبدو عملية جداً ، نراها وهى تتحاور فى متجرها الصغيرمع بعض المنتقبات منهن واحدة تزوج عليها زوجها، ترفض سوزان أن تعطى صوتها لمرشحة على منصب الرئيس بحجة أن المرأة قد تحمل وتلد ولا تستطيع التفرغ، تراجعها صديقتها بأن هذه الحالة إستثنائية، كما أن هناك رجال يتقلّدون مناصب ولا يتفرغون لها باسباب مختلفة.

مشكلة سوزان أنها تخطت الثلاثين بدون زواج، ولكن ذلك لا يزعجها على الإطلاق، تمت خطبتها أكثر من مرة وفسخت هى الخطوبة، نقطة اللاعودة تكون عندما يتطلع خطيبها الى مؤهلاتها الجسدية، تقول إنها تعمدت أن تقابل أحد خطّابها وهى فى حالة رثّة ،هرب منها ولم يعد مثل السابقين،  تدريجياً تعترف سوزان أنها تصبح عدوانية بعد الخطوبة، وعندما تفسخ خطبتها تحس وكأنه جبل وانزاح.

الإعتراف الأخطر الذى يفسّر المشكلة كلها ستقوله سوزان فى النهاية، تقول إنها تعرضت للتحرش من جدها، عاشت فى هلع ورعب لمدة عام كامل، لم تستطع أن تتكلم، وعندما تكلمت لم يصدقها أحد، تتابعها الكاميرا وهى تتجمل استعداداً لعريس جديد، حزينة ومتوترة ومضطربة، ولكنها سعيدة لأنها الآن مستقلة عن الجميع.

على نار هادئة

كل حكاية تم بناؤها على مدار الفيلم على نار هادئة . ليس فى الفيلم هذا الصخب المزعج فى بعض الأفلام التى تصف أحوال المرأة .عندما تكتمل البورتريهات الأربعة ينتهى الفيلم، ربما تشعر أن خط ثورة يناير تم إقحامه قليلاً، مما أعطى انطباعا بأن المخرجة متفائلة بتغيير جذرى سابق لأوانه، بدرية تقول إنها ستذهب للإستفتاء، ووفاء تقول إن شيئا لم يتغير، لم أحب أن يخرج الفيلم عن حكايته الأصلية، كان من الممكن أن يُستخدم الكلام عن الثورة فى خلفية الحكايات الإجتماعية، أما مشاهد المظاهرات مثلاً فقد كانت أكثر من الحاجة.

كنت أريد أيضاً أن يستكمل الفيلم الصورة ولو بشهادة صوت رجالى واحد مثل زوج بدرية، الرجل ظهر وهو يأكل أو يلاعب أولاده دون أن تواجهه المخرجة بملاحظات زوجته ومشاكلها معه، كانت المواجهة ستعطى الفيلم قوة وعمقاً.

ولكن كل هذه الملاحظات تتضاءل أمام قوة هذه النماذج النسائية المختارة، لن تنس نظرة شاهندة الواسعة التى ترى أنه لا توجد امرأة حرة فى وطن مستعبد، ولن تنس مناقشات بدرية مع ابنها العائد من الإمتحان ليبلغها أنهم غشوا كل الإجابات، ستتذكر أيضا خجل وفاء وروحها المرحة، وقدرة سوزان على الصمود ومواجهة نفسها وتعرية عقدتها رغم الألم والأسى.

نجاح فيلم “ضلّ راجل” الحقيقى فى هذا الإنطباع القوى الذى يتركه فى ذهن مشاهده عن المرأة المصرية بكل لحظات قوتها وضعفها ، أحلامها فى مواجهة الواقع الصعب، حيرتها فى سبيل تحقيق نفسها، مشاعرها كأنثى ومطالبها كإنسانة، تأرجُح حياتها بين اليأس والأمل.

قوة الفيلم فى أن عنوانه يتحدث عن “ظل الرجل” فيما هو فى الحقيقة عن “ظل المرأة” الظليل الذى لولاه ما كانت الحياة

Visited 25 times, 1 visit(s) today