صعود وسقوط “دييغو مارادونا”

مارادونا في عز مجده مارادونا في عز مجده

ليس من الممكن اعتبار الفيلم البريطاني التسجيلي الطويل “دييجو مارادونا” Diego Maradona من “الأفلام الرياضية” رغم أن محوره هو أشهر لاعبي كرة القدم ربما في تاريخها كله، أي اللاعب الأرجنتيني “مارادونا”.

صحيح أن الفيلم يتابع مارادونا من الطفولة إلى النجومية وما بعدها، إلا أن موضوعه الأساسي عن الموهبة عندما تسقط، أو كيف يمكن أن تقضي النجومية على الإنسان، وكيف يصبح “النجم” ضحية لنفسه، لغروره ولوهم الشعور بالقوة التي لا تُقهر.  وكيف يلجأ لستر شعوره بصدمة الانتقال المرعب من حياة إلى أخرى، إلى الاستعانة بالمخدرات. إننا نرى كيف انتقل مارادونا من حياة الفقر والفاقة على هامش مدينة بيونيس أيريس، إلى حياة الشهرة والثراء والملاهي الليلية والإعلام وحب الملايين من الجماهير، وتهافت أجمل الفتيات على صحبته.

هذا الشاب الوديع البسيط الذي بدأ مبكرا في تحمل مسؤولية أسرته الفقيرة، ينتقل بفضل موهبته الى نادي لشبونة لكنه لا يوفق هناك فيباع في 1984 لنادي نابولي- أحد نوادي المؤخرة في الدوري الإيطالي، ليتمكن بسرعة، من الوصول به إلى القمة.

لقد حقق مارادونا ما يمكن اعتباره “انتصار الفقراء” على الأثرياء. فعندما كان نادي نابولي يلعب مع إحدى فرق الشمال الإيطالي الثري، كان الجمهور الشمالي يستقبل “الجنوبيين” بالهتافات العنصرية.  فهؤلاء “سيجلبون لنا الكوليرا.. والقمل.. فهم لم يستحموا منذ سنوات”. اقضوا على الأوغاد الأوساخ.. الخ.

سينتقم ماردونا أيضا (في 1986) من الغزاة المنتصرين، أي البريطانيين الذين قهروا الأرجنتين في حرب الفوكلاند (عام 1982) عندما يسجل هدفين في مرمى الفريق الإنكليزي في نهائي كأس العالم الذي أقيم في المكسيك. من هذين الهدفين الهدف الأكثر شهرة في تاريخ الكرة الذي سجله بيده، وهو يعترف في الفيلم بذلك. والعالم كله يعرف هذه الحقيقة منذ زمن، لكن المرء لا يمكنه سوى أن يبدي اعجابا ببراعته حتى وهو يسرق الهدف دون أن يلاحظه الحكم.

من بين حوالي 500 ساعة من أفلام الفيديو المنزلية وشرائط تسجيلية تليفزيونية ومقابلات صوتية مسجلة مع عدد من الصحفيين الرياضيين والمعلقين ومدير نادي نابولي وشقيقة مارادونا ووالده وزوجته، يصنع المخرج البريطاني أسيف كاباديا Asif Kapadia (الذي ينحدر من أسرة هندية مسلمة) “دراما” شيقة عن الصعود والسقوط.

يصور الفيلم كيف أن صدمة الانتقال من الماضي إلى الحاضر، وهو يشهد ثمانين ألف متفرج يهتفون باسمه بجنون في الملعب، ثم عندما يحقق لفريقه أكثر مما كان يحلم به، ليصبح أسير ذلك الفوز، فيلجأ إلى المخدرات، ويغرق نفسه في حياة الليل واللهو، يستعين بالعاهرات، يتقرب من المافيا التي أصبح يحتاج لحمايتها بينما تستغل هي حاجته للمخدرات من أجل إحكام السيطرة عليه.

يصور الفيلم ببراعة، ما يحدث من “انقسام” أو بالأحرى “فُصام” في شخصية اللاعب الأسطوري، الذي انتقل من “الانسان” إلى “المعبود”، باستخدام الصور واللقطات، والمونتاج البارع الذي يربط فيما بينها، في بناء جدلي مثير لا يعيبه سوى رداءة اللقطات المأخوذة من أفلام الفيديو المنزلية القديمة التي نعرف أنها وثائق شخصية حصل عليها المخرج من مارادونا نفسه ومنها الكثير من اللقطات التي لم يسبق عرضها من قبل. أصبحت صور مارادونا في كل مكان، وفوق فراش كل انسان في نابولي، جنبا الى جنب مع صور المسيح.. لقد أصبح “المخلص” المرسل من قبل العناية الإلهية لتعويض نابولي عن تاريخ طويل من التهميش والإهمال، ووضعها في بؤرة التاريخ.. تاريخ كرة القدم. ولكن المشكلة أن مارادونا يصدق أنه مشفوع بالفعل بالعناية الإلهية، وخاصة مع يقينه الديني وإيمانه “الكاثوليكي” الراسخ الذي يبرزه الفيلم من أكثر من ناحية.

ستصبح بداية السقوط عندما يلعب مارادونا مع منتخب بلاده ضد ايطاليا عام 1990 في كأس العالم في البرازيل، تحت قناعة أن “نابولي ليست إيطاليا” رغم احتجاج ورفض جمهوره الإيطالي، حيث يتمكن من اقصاء إيطاليا من البطولة. هنا يسقط المعبود في أنظار ملايين الايطاليين الذين رفعوه الى عنان السماء. وتبدأ الصحافة تتابع وترصد جميع تحركاته، ثم تقبض الشرطة عليه بتهمة حيازة المخدرات والترويج لها أيضا بعد أن كان يمنحها لبعض العاهرات اللاتي أحاط نفسه بهن. وسيصبح تنكره لابنه الذي جاء نتيجة علاقته بفتاة إيطالية، مادة للصحافة، تنهش في لحمه، وتصف كيف أنه أيضا وغد ناكر للجميل

الجمهور والاعلام الذي رفعه وصنع منه أسطورة، هو نفسه الذي سيهبط به إلى أسفل سافلين. سيقضي عقوبة في السجن، وستنتهي مسيرته الكروية بسرعة، ويصبح مترهلا قبيحا ولكن دون أن يفقد ما يتمتع به من “كاريزما” فطرية، وقدرة على إثارة الجدل أينما ذهب.

“دييجو مارادونا” رحلة شيقة مع استخدام الصوت والصورة وقدرة مثيرة للإعجاب من جانب مخرج تخصص في هذا النوع من “أفلام المشاهير”، من خلال التوقف بين طوفان الصور وطرح تساؤلات ذكية كثيرة عن قوة الموهبة وجنوح الموهوب وكيف يقضي عليه، وعن المشاعر الداخلية للفرد محط الأنظار، وهل يستطيع أن يمنع ما هو محتم، أي السقوط في الغرور، ومن ثم السقوط في المسار. من الممتع أن تشاهد مارادونا وهو في الملعب، وشعوره بالصلة التي تربطه بالسماء، ولكن هذا اليقين يبقى مجرد ذكرى.

https://www.youtube.com/watch?time_continue=1&v=JNaRrDX8MUc&feature=emb_logo
Visited 70 times, 1 visit(s) today