“زود” بانوراما بصرية عند أقدام الصقيع

لم يتوقف الواقع يوما عن إفراز حكاياته التي وإن تشابهت تختلف باختلاف العين التي ترصدها وتراها.

هذا ما يجسده الفيلم الوثائقي البولندي “زود” Zudأو “ابن السهوب”  الذي يوثق واقعا من خلال عين لها خصوصيتها ووجهة نظرها. وفي إحدى مناطق الحياة النائية والخافتة في صحراء وسهوب منغوليا في آسيا الوسطى بين الصين وروسيا رست عين المخرجة البولندية مارتا مينوروفيتشملتقطة قصة تستغرقنا تفاصيلها لتعيدنا إلى إطار يلخص ببساطة قصة الحياة في أبسط صورها الأنثروبولوجية البدائية بمثلث درامي، أضلاعه الثلاثة: الإنسان والطبيعة والحيوان في ارتباطهم وتصارعهم وتأثرهم ببعضهم.

هذا التفاعل الذي يقود للقصة الأكبر وهي صراع الإنسان من أجل البقاء وما يمكن أن يخطه من خطوط قصصية فرعية بالغوص داخل هذه الأنفس المعلقة بالمجهول والصراع معه، في 85 دقيقة رصدت المخرجة بأسلوبالفيلم التسجيل يالحديثمن الانتاج البولندي الألماني والذي صور في منغوليا، حياة أسرة منغولية بدوية وثقافتها البيئية وعالمها اليومي الشاق الذي يعتمد على الرعي وبيع الفراء وسط بيئة قارية قاسية برياح قوية وصقيع يميت الحيوانات التي تشكل ثروتهم المعيشية ويميت معها آمالهم في النجاة، هذه الأسرة تتكون من زوج وزوجة وابنين أحدهما رضيع أما الأكبر”Sukhbat” فعمره 11 عاما ويعد بطل الفيلم أو محوره الدرامي الأكبر حيث حياة هذه الأسرة تتوقف على خوضه سباقا إقليميا بحصان ماهر يعقدون عليه الآمال.

يبدأ الفيلم صامت التتر تقريبا بصمت آخر مقدما بذلك لقصته بالصمت مع لقطات تأسيسية تبدأ أيضا ببيئة بصرية صامتة من خلال عدة كادرات بانورامية تكاد تكون ثابتة بلا حركة أو صوت لكثبان جليدية بيضاء بلا أي كائن، فهكذا مهد الفيلم لعالمه بهذه الطبيعة الراكدة قاسية السطوة كمحور أول للصراع، لم يكن شريط الصوت مغلقا بل شديد الخفوت مشابه للصمت الكامل ليبدأ بعد دقيقة من بدء الفيلم درجة أخرى محسوسة واضحة لصوت ما زال يلفه الصمت فهو صوت خطوات الأب فوق الجليد ولهاثه مع أصوات الرياح والبيئة الطبيعية البرية المحيطة، ليسود الصمت معظم الفيلم إلا من أصوات الفعل الخافتة ليزداد وضوحا في مناطق معينة مشكلا بديلا جيدا ومثيرا للاستغناء الكامل عن الموسيقى التصويرية.

فالصمت وهو من أنجح عناصر الفيلم موثق لثقل هذه الحياة بحيث يجنح ازدياد جرعته بجماليات الهدوء في هذه البيئة نحو الثقل والركود واليأس لا الشاعرية الجمالية وهو ما كان موفقا، يسود الصمت بينما الصوت والذي شكل في حد ذاته سردا دراميا موازيا للسرد البصري تواجد في هيئة حوار بسيط قليل بين أفراد الأسرة وأصوات لهاث ونهجان يتكرر مع الجميع يشير لمشقة ملازمة لمعيشتهم أو أصوات للقطعان تشكل الحدث أو خلفية الحديث أو أصوات الطبيعة والحركة الطبيعية  لكنه يعلو بشكل خارج عن السياق المعتاد في لحظات معينة يعطي علوها خشونة مختلفة تناسب الموقف كالصوت في مشهد جمع قطعان الخيول الواردة والشاردة والتعامل العنيف نوعا معها للسيطرة عليها أو علو يحدث تضاد الانتقال إلى مكان آخر كمشهد الإبن في المدرسة أو مشهد ينبىء بغضب داخلي كعلو صوت موتوسيكل الأب العائد محبطا من عند تاجر الكشمير، فاختيارات الصوت ملفت النقاء في الفيلم كانت متكلمة بقوة.  

اختارت كاتبتا سيناريو الفيلم موقف الحياد السردي، والحفاظ على صدق وطبيعية واقع هذه الأسرة فنتجت دراما الفيلم من داخله ببساطة مع التراكم الزمني الذي يؤكد طول الفترة الزمنية لتصوير الفيلم والتي يؤكدها كذلك ارتياح وتلقائية الأبطال، بناء الفيلم جاء تصاعديا بالتأسيس لصعوبة ومشقة هذه الحياة بموت الحيوانات متجمدة والتي يجمعها الأب بتكيف مثقل وآلية يندرج تحتها مشاهد سلخه لفرائها وتقطيع الحطب ومطاردة الحيوانات الشاردة وسط غياب للبسمة على وجهه ووجه الزوجة المثقلة بأعبائها لتتفاقم الأزمة باستمرار موت الحيوانات وترك الإبن مدرسته وتراكم الديون ليأتي التفكير في استثمار الإبن الطفل لإنقاذ الأسرة ليشكل استعداده للسباق التشويق الأساسي ومحور الصراع الدرامي، مع خط درامي مواز هو وقع هذا العبء على هذا الطفل الحالم بإنقاذ أهله وإرضاء أبيه الذي كانت أجمل كلماته للحصان محط الأمل وكلمات التقريع للإبن.

وقد أوصل الفيلم تطلع الإبن لصورة أبيه في كادرات شديدة التوفيق والجودة يجلس فيها بجوار الأب بنفس وضعه، كما تم تصوير معاناة قلق الطفل التي تفوق قدرة سنه بذكاء دون ضجيج مما يمهد لتلاشي ضحكة كان هو صوتها الوحيد في الفيلم تدريجيا ويؤكد ذلك المقارنة بين مشهد رائع للطفل مع صديقه يضحكان بين حصانين وآخر فيه كان فيه وحيدا منكس الرأس بين حصانين.  

اتسم الفيلم بصورة بصرية عالية تنسيك انسيابيتها غير المرتبكة وجمالياتها أنه فيلم وثائقي ليذكرك بذلك عدم الميل الاستعراضي وتتبعها الهادىء بشكل واقعي تلقائي، وزاد من جمالياتها الإحساس الزمني بالتتبع اليومي بتعدد الحالات الضوئية والطقسية، مع لقطات بانورامية جيدة وأخرى رائعة التكوين والمعنى منها ما أشير إليه سابقا بالإضافة لمشهد آخر يصلي فيه الأب للأرض قبل السباق ليعقبه إظلام تدريجييحمل معنى الأمل بعكس إظلام المشهد الأخير الذي تلاه عودة لنقطة الصفر بلقطات الطبيعة الخالية الصامتة كالبداية لكنها أكثر ضبابية في دائرية لها معناها أكدها تتر النهاية المطابق في أسلوبه للبداية إلا مع تصاعد صوت الطبيعة في آخره.

وحدها سطوة الطبيعة باقية، هذا مع تكرر لقطات ارتقاء تل بصعوبة من الثلاث شخصيات بخط أفقي مائل واضح يعطي شعورا بالمشقة، نلاحظ أيضا تكرار اختيار الكاميرا لتصوير الوجوه بلقطات قريبة (كلوز أب) بدل التركيز على الأشياء أو الأفعال لتعلن الكاميرا وجهة نظرها بأن حكاياتها مع الوجوه وداخل هؤلاء، كما كانت الكاميرا في أغلب الوقت في وضع تتبعي خلفي للأشخاص ليختلف الأمر في لقطة أمامية ذات معنى للطفل يجر وحده الحصان بينما يقابله مشهد خلفي سابق مع أمه يجران فيه معا حصانا، من جهة أخرى حافظ التصوير المتميز بافل شورزيبا على تلقائية الإحساس بالصورة فهناك تقليل كبير للقطع والاستغناء بقدر الإمكان عنه بلقطات واحدة تتحرك فيها الكاميرا على خط ثابت غالبا إما أفقيا أو للأمام بحيث تتضح الأشياء تدريجيا بتوغل الكاميرا المتتبعة للأشخاص وحركتهم ليتسع معها الكادر ويزداد تفسره،  بذل فيه الكثير من الجهد الموفق يحسب لمخرجته وفريقه إلا أنه كان بحاجة لتقليل مدته وتكثيفه أكثر من ذلك فبرغم قدرته على جذب الانتباه لأبسط الأشياء إلا أن الإطالة مع إيقاع كإيقاع الواقع قد يجلب تدريجيا فتور التلقي .

Visited 18 times, 1 visit(s) today