رؤى السينما الفكرية والبحث عن المعنى من خلال الرمز

إذا أوجزنا فإن السينما احدى وسائل التعبير عن الأفكار بصورة فنية، وأكثرها تعبيراً وعمقاً، لان قالب الصياغة الفنية للأفكار أكثر تأثيراً من الصياغة الموضوعية المباشرة، فالفن بشكل عام هو أقصر طريق لعقول الناس وقلوبهم.

دأبت السينما وروادها منذ نشأتها على دمج الأفكار الإنسانية بالعمل الفني في صياغة رمزية بعض الأحيان ومباشرة في أحيان أخرى، فتناولت الفلسفة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب أما بصورة مؤيدة أو ناقدة أو ساخرة طبقاً للرؤية الفكرية لصاحب العمل والحقبة الزمنية للعمل الفني والأفكار الشائعة في هذه الحقبة، فإبان فترة الحرب الباردة كثيراً ما تناولت السينما الأفكار الشيوعية والرأسمالية وموازين القوى العالمية ومدى تكافؤها وخطر الاسلحة النووية والحرب الجاسوسية وسباق الفضاء وغيرها كنتيجة لسيطرة هذه الأفكار على الساحة العالمية آنذاك، في حين نجد ان السينما في وقتنا الحالي تغص بالأفلام التي تتناول قضايا المثليين والتنمر والنسوية والعنصرية والاحتباس الحراري والإرهاب والتي أصبحت وسيلة مضمونة لكسب تعاطف النقاد والجمهور والمؤسسات المانحة للجوائز.

الرمزية السينمائية

كتب المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي مرةً أن الإنسان دائماً ما بحث عن لغة بديلة تستوعب ما تضيق به اللغة مما توالد في مخيلته من أحلام وأوهام وقلق فأنتقل للرمز بوصفه يتسع لما لا تتسع له أي لغة، الرمز يتكفل بتزويد الإنسان بمعان تضيق بها اللغة، لذلك كان الرمز لغة الفنون وبمداليله صارت الفنون من أثرى منابع المعنى في حياة البشر.

لذلك عمد الكثير من المخرجين لأستخدام الرمز كلغة للتعبير عن افكارهم، فأوجدوا الرمز في كل مفاصل العمل الفني، بدأً من الحوار إلى ألوان الصورة وتناسق الإضاءة والديكور حتى وصلوا إلى استخدام فكرة العمل الفني بصورة كاملة كرمز للتعبير عمّا في أذهانهم.

السينما ومعالجة الأفكار (الحرب نموذجا)

تناولت السينما فكرة الحرب في العديد من الأعمال التي تباين فيها أسلوب معالجة الحرب والمنظور الذي من خلاله صورت الحرب أو أثارها، ففي فيلمه المناهض للحرب “Paths of Glory” “دروب المجد” والمقتبس من كتاب يحمل نفس العنوان للكاتب والروائي همفري كوب، عالج المخرج الكبير ستانلي كوبريك موضوع الحرب من منظور المنظومة العسكرية، حيث يحكي قصة جنود يتم محاكمتهم عسكرياً بتهمة الجبن عند مواجهة العدو، ليطرح الفيلم مفاهيم وافكار ملازمة للانسان منذ الأزل كالشجاعة والخوف والواجب والشرف، فنلاحظ الآلية العشوائية التي تم من خلالها اختيار الجنود الثلاثة ليتم محاكمتهم بالنيابة عن كتيبة كاملة، ثم تجاهل المحكمة للأسباب التي جعلت من الجنود ينسحبون عند مواجهة العدو ومحاولة تركيزها على انسحابهم فقط في أسلوب حواري لاذع للمنظومة العسكرية، لتتنقل بعد ذلك كاميرا كوبريك بين أوجه عدة من القاضي الي المدعي العام والى المتهمين والقائد الذي يتولى الدفاع عن جنوده وكأنه يصور مبارزة حوارية بين وجهات نظر مختلفة عن المفاهيم العسكرية، ليلخص بعد ذلك القائد المدافع عن جنوده سخف هذه المحاكمة فيقول بأن هذه المحاكمة من اللحظات التي تجعله يشعر بالخجل لإنتمائه للجنس البشري وكيف ان انبل العواطف البشرية وهي الشفقة يمكن ان تموت بالكامل.

ثم يصور بعد ذلك الفيلم حال الجنود وهم ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام بحقهم وكيفية مواجهة الإنسان لحقيقة موته والصراع مع الخوف ليعبر احدهم عن اعتراضه على الديانات البشرية ونفاق القس الذي يحاول جعلهم يتقبلون حقيقة الموت ويعلن ان زجاجة الخمر هي دينه فيصلي لها طلباً للمغفرة، ليطلق كوبريك رصاصة الرحمة على الحرب بمشهد بكاء حانة كاملة من الجنود الفرنسيين على غناء أسيرة ألمانية ويصفها أحدهم بأنها لؤلؤة صغيرة قذف بها بحر الحرب إلى الشاطئ في دلالة واضحة على بعثرة الحرب للجمال وعلى ان الحقد الذي تخلقه الحرب بين الشعوب يهزم أمام صوت جميل.

لقطة من فيلم “حرائق”

في حين يتجلى الحطام المجتمعي الذي تخلفه الحرب بصورة واضحة في رائعة المخرج الكندي دينيس فيلنوف “Incendies” “حرائق” والمأخوذة من مسرحية “الحرائق” للكاتب الكندي لبناني الأصل وجدي معوض، حيث تخلق الحرب الاهلية الفوضى في لبنان تبدأ قصة الشابة نوال مروان التي ستصبح فيما بعد واحد من اكثر القصص مأساوية والتي تسقط عندها كل القيم البشرية، حيث نرى القتل الممنهج على أساس الانتماء الديني بأوضح تجلياته، فنرى البطلة في مشاهد الفيلم تنتقل من الصليب المسيحي إلى غطاء الرأس والعكس طبقاً للظروف التي تمر بها في رمزية واضحة تفصح على إن قيمة الإنسان عند الحرب تكون مرتبطة ارتباط تام بأنتمائه ومعتقده، فيعرض الفيلم رحلتها الممزوجة بالسياسة والحب والحرب والجنس بخطين زمنيين متوازين الأول تخوضه نوال في شبابها والثاني تخوضه ابنتها التي جائت لنبش ماضي والدتها عملاً بالوصية التي تركتها نوال بعد وفاتها، فتتداخل الشخصيات والأحداث ببعضها لتنتج نهاية صادمة كفيلة بجعل المشاهد يسقط على الأرض ليس من هول المفاجأة والالتواء في الأحداث، بل من هول الفاجعة التي حصلت والتي تمر مرور الكرام اثناء حدوثها ولكنها تتحول إلى مأساة شكسبيرية عند تفكيك شباكها، ليتحقق وصف ميخائيل نعيمة للحرب بأن نيرانها لا تستعر في أجواف المدافع وإنما في قلوب الناس وعقولهم.

*  ناقد من العراق

Visited 48 times, 1 visit(s) today