دلالات وملامح في فلسفة جماليات السينما

السينما في عمقها تنحاز نحو الجمال، في ابعاده المتعددة، جمال الصورة، جمال السرد الحكائي، جمال القصة، جمال تتابع اللقطات،  فالمشاهد دائما يتحفز لاستفزاز ذائقته الجمالية، حتي يشعر بالمتعة والرقي، ودائما ما يهتم الانسان بما هو جميل وراقي، ويبحث عنه، فاذا اتجه الي السينما فهو بشكل لاواعي ينتظر فيلما مليئا بالجماليات، وخلال البنود التالية التي تستعرضها هذه الدارسة التي تعتبر الجزء الثاني من دراسات عدة حول فلسفة جماليات السينما، نحاول عرض بعض ملامح ودلالات جماليات السينما. كما عرضنا بعضها في الجزء الاول الذي نشر في هذا الموقع السينمائي المتخصص.

الجميل والجليل

الجليل يتجاوز مضامين الجميل دائما في السينما، فهو يتضمنه في الاساس، فحدود الجميل تقف عند تأثير مساحات الذائقة الجمالية لدي المشاهد، وانبهاره ودهشته، دون مشاعر الخوف والرعب والاثار الفكرية الغامضة والمعقدة، وكل ذلك هو ما يتضمنه الجليل، وعادة ما يتواجد الجليل في الأعمال العظيمة والمتفردة، فهناك مخرجون يحتلون هذه المساحة مثل المخرج المجري بيلاتار الذي بعدميته المفرطة، وفن الكآبة لديه في تفاصيل المشهدية، يتجه نحو مفهوم الجليل، اي الشئ المرعب، الخوف المجرد، والسكون الشامل، فزاعة الطبيعة. ففي فيلم “حصان تورينو”، يعبر بيلاتار عن نهاية العالم برعب الطبيعة، من رياح وجفاف، وعلاقة الطبيعة بالجليل دائما، فاللقطة الجميلة تدخل في جدلية مع الطبيعة، وتثار اسئلة مثل: هل الفيلم كفن اكثر اهمية من الصورة الطبيعية، وهناك من يذهب في هذا الاتجاه، ومن يذهب في الاتجاه الاخر؟ الجليل يستوعب الطبيعة في جعبته، فالمخرج الروسي تاركوفسي، استخدم الطبيعة الخلابة في فيلم “المتسلل”، لصهر افكاره الفلسفية والجليلة، ببراعة، فهناك مركب جماليات المشهد، وطبيعية المشهد، وجلال الفكرة، هذه الثلاثية المعقدة، هي من اعقد المجازات السينمائية، ففك شفراته شئ وعر وصعب.

 العملي والجمالي

هناك جوانب عملية وذات ابعاد تقنية، تبتعد عن مساحات الجمال في الفيلم، مثل المعلومات التي يتم الاستعانة بها، في السرد الحكائي، وايضا بعض جوانب المونتاج والتصوير وحتي الكتابة السردية، تكون في احد جوانبها عملية بحتة وبعيدة عن المساحة الجمالية، كل ذلك يسمي ما هو خارج عن البعد الجمالي،  ويظهر هنا جدل حول وجود بعد جمالي لهذا الجانب العملي والتقني للفيلم، هذا جدل صحي، فهناك مشاهد يتأثر جماليا بهذه الجوانب البرانية عن الجماليات المباشرة للفيلم، وهناك من لا يتأثر، فالموضوع نسبي، ولكنه جدلي. وايضا هناك جانب أيضا خارجي عن عالم جماليات الفيلم المباشر يتعلق باطلاع او احتكاك المشاهد بمعلومات تخص اشياء عدة حول الفيلم، وسيرة المخرج وكاتب السيناريو، وعلاقة العمل بأعمال سينمائية أخري، وما كتب عن الفيلم من كتابات نقدية تحليلية وفنية. وهذه المعلومات تثير وتساهم في  تنمية ابعاد معرفية لعقلية المشاهد، مما ينعكس علي تذوقه للبعد الجمالي، وقد لا تثير، كما ذكرنا، فالتأثر الجمالي بهذا العالم الخارجي نسبيايضا.

سطوة الصورة

يعيش الانسان في عالم من الصور، تؤثر بشكل كبير في تشكيل وعيه وتحريكه، فاذا تحرك في الواقع دون اي بعد خيالي او ثقافي للصور، يعني احتكاكا مباشرة  بالواقع دون وسيط، يكون عن مدركاته الحسية صور من التفاصيل والمشاهدات المباشرة والكلمات والتفاعلات، فتتكون صور داخله يعيش فيها ويصبح سجين لها،  وانتقالا للسينما، نجد المشاهد ينتقل الي سجن الصورة الخيالي المتعلق بتفاصيل الفيلم، وليس البعد الواقعي، فهناك السلطة السينمائية للصورة تجاه الفرد وايضا السلطة الواقعية للصورة تجاه الفرد، ففي العالمين، تكون هناك سلطة علي الحواف، سلطة غير معلنة للصورة، متخفية، تؤثر في مكونات الوعي واللاوعي.

والبعد الجمالي المكون للصورة في الفيلم، في قلب هذ السلطة، فهذا البعد يساهم بشكل مكثف عن طريق ملامحه ومقوماته في تقوية سلطة الصورة، فالمشاهد يشهد انتباهه البعد الجمالي في الفيلم من صور وتفاصيل ومشاهد، ولا يدرك المشاهد هذه السلطة، ولكنه يحاول دائما ازاحتها، ومراجعة نفسه، كل فترة، حتي يتخلص من سيطرة هذه الصورة السينمائية، لعل اطمئنان المشاهد ان هناك جماليات مدهشة في الصورة تنتظره وانه هناك افلام وسينما لا تسعي للتسلط الي حد ما علي المشاهد عن طريق الصورة يجعله اكثر براحا في التعامل في السينما، فكما اوضحت فعل الازاحة للمشاهد لتسلط الصورة يدعم انتظاره لجماليات مدهشة وصادقة.

جماليات السينما كأنقاذ

بحث فلاسفة مدرسة فرانكفورت عن بديل أداتية وتناقضات العالم وسيادته عقلانية هيمنة وسيطرة واخضاع وانه يحمل توجها تسلطيا نحو الطبيعة ونحو الانسان، ويري الفيلسوف الالماني ادورنو ان الفن مجال يبعد عن العقل الأداتي والتصويغ المفرط للعقلانية المفرطة، فالفن يسعى نحو الكلية، أي يضفي على موضوعاته طابع الشمول، فالأصالة الداخلية للأعمال الفنية وما تكشف عنه من حقيقة ومصداقية تقف ضد كلية العقل الأداتي.

ويري أيضا هذا الفيلسوف الجمالي أن الفن لديه قدرات علي تحقيق وجود لا يجعل الانسان مغتربا، ويخرجه من اشكال ومظاهر التشيؤ، وهو ما أكده ايضا فيلسوف المدرسة هربرت ماركوزة حيث يري أن الفن هو بديل قوي وجيد عن التقنية ويشكل وجدان الفرد وعقله وخياله بعيدا عن طريقة تشكيل التكنولوجية له.

وباعتبار السينما أحد روافد الفن تستطيع جماليات الفيلم، ان تكون بديلا عن تعقيدات العالم وتناقضات الاشياء والعقل الاداتي والتقني للفكرة والمعني والذي جعل مفهوم التشيؤ ينتشر لتحليل الانسان المعاصر، فالسينما كفن جمالي، تجعل المشاهد اكثر علوا ورقيا في تذوق للاشياء، وبغض النظر عن سيطرة الصورة، ومعضلة الحقيقة في الفيلم، الا ان جماليات الفيلم تفرد مساحات واسعة لمزيد من تعالي الفرد علي العقل الاداتي وسمات الواقع.

جون لوك جودار

كبار السينمائيين أمثال جودار الفرنسي وبرجمان السويدي وبيلاتار المجري، يغازلون الحقيقة في جماليات أفلامهم، والمشاهد يتأثر بهذه المغازلة ولكنه يزيحها حتما وتبقي لديه الجماليات حاضرة، وهو ما دعي اليه الفيلسوف الألماني نيتشة الذي وضع ثقته في جماليات الفن وبنى تصورا مؤداه أن العيش مع الحقيقة شيء مستحيل، وأن إرادة الحقيقة هي سلفا رمز للانحطاط والعدمية، ودعا الي الفن كبديل لكل شئ يجعل الانسان تائها ومتناقضا.  وحسب الرؤية النتشيوية يجب ان تتجه السينما الي تحرير الانسان من ثقل الحقائق الصنمية، النافية للحياة والتي تقلل من قيمتها على الأرض وتخليص الإنسان من طغيان المعقولية.

لامحدودية الجمال

ذائقة الفرد الجمالية تعلو مع المساحات الواسعة واللامحدودة من الاشياء الكلمات والصور، فعقل الفرد يرفض أن يتقبل حقيقة أن الجمال يكمن في الاشياء الصغيرة المحدودة، واذا انتقلنا الي السينما، ان التفاصيل المحدودة في القصة والسرد الحكائي للمشهدية، واقتصار الفيلم حول ايقاع معين من البصريات والصورة يفقد المشاهد جذابيته وشغفه الجمالي، فتصبح المتعة سريعة تنتهي بانتهاء الفيلم، ولا يتبقي شئ يذكر في ذاكرة المشاهد الجمالية، هذه الذاكرة الذي تنهم وراء الترميزي والتأويلي لكل تفصيلية في المشهدية.

فهناك مناطق في السينما تتبني الفعل اللامحدوي للجماليات وهو ما يتوافق مع رغبة الذاكرة الجمالية للمشاهد، فاللقطة كبصريات هنا تحوي لامحدوية في التعبير عن الاشياء في حدها الأدني، حيث التكوين المشهدي للشئ من لونه وحركته وصفاته وهذه اللامحدودية تتضمن مجازا سينمائيا بسيطا او معقدا، والمشاهد هنا ينبهر بصريا من هذه التكوينات كما في الفيلم الايطالي الجمال العظيم، حيث عبرت الصورة عن اشياء كثيرة في مشهدية مذهلة من لامحدوية الجمال.

 وفي الحد الاقصي للقطة تحوي لامحدودية للتعبير عن الافكار، فالصورة ترميزا او مجازيا تعبر عن افكار مكنونة، يحاول المشاهد تأويلا الكشف عنها، وهو ما نجده بكثافة في افلام المخرج اليوناني  ثيو انجولوبولس، وهذا المنحي ايضا يتضمن لامحدودية التعبير عن الاشياء، وهناك لامحدودية الكلمة في الفيلم، حيث يعبر عن الافكار، فالسرد هنا يكون ملئ بالمعاني المبطنة والرموز للافكار، وذلك يفتح امام المشاهد مساحات من التأويل حول الفكرة المقصودة، مما يزيد من جماليات التفكير لديه.

شيوعية الجمال

 هل الجماليات الهائلة الموجودة في الفن العظيم للسينما نخبوية، تقع علي حكر مشاهدين محددين ذوي ثقافة عالية؟ هل المخرجين العظام في موضوعاتهم الجمالية الفكرية في الافلام يريدون ارسالها للجمهور العام أم الى جمهور نخبوي، وهل الموضوعات في هذه النوعية من الافلام تلمس مستويات الجمهور كله، جدلية معقدة لهذه السينما، شيوعية مرغوبة في الموضوع والجمهور وجماليات الفيلم؟ هذه الثلاثية تراد ان تكون متمردة يسارية، يكفي ان الهدف من السينما العظمية لكبار المخرجين ( برجمان- فيلليني- جودار)، التي تحتوي علي التفلسف الفكري والبصري، هو رفع جماليات الفيلم، ومن ثم رفع تذوق جماليات المشاهد، فالغرض السينمائي هو التحرر من سلطة الصورة والحبكة وسيطرة صانع الفيلم علي المشاهد، انه هدف يساري ماركسي، ولكن تكمن المشكلة والجدلية في صعوبة هذه الفيلمية وقلة شيوعها.

ما بعد حداثية الجماليات

الحالة ما بعد حداثية ينظر لها علي أنها حركة جمالية، فهي تهتم وتعلي من الشأن الجمالي، علي الجوانب الاخري ومنها العقلانية والفكرية، وتؤكد علي أهمية وجدوي الحس والشعور مقارنة بالتأمل العقلي، وقد نشأت هذه الحالة في الفن، فهي فكر جمالي، وقد ساد هذا الفكر خلال الفترة النصف الثاني من القرن العشرين، وهو فترة ظهور السينما وتطورها، فالتأثير الجمالي والفلسفي والفكري للسينما هو ما بعد حداثي، أو بمعني اصح، أصبحت فلسفة الفن او الخطاب الفلسفي ما بعد حداثي، واذا اراد الفيلم ان يكون كائنا جماليا قويا ومدهشا للمشاهد عليه ان يستدعي هذا الخطاب المعاصر، ويبتعد عن الخطابات الكلاسيكية لفلسفة الفن، ويلاحظ عدم التزام الخطاب الجمالي ما بعد الحداثي، بنظريات محددة، ولكنه مجال تطبيقي، وهناك مقولات وتأملات وتحليلات، ليصبح هذا الخطاب حرا وليس سلطويا.

Visited 72 times, 1 visit(s) today