حول حضور اليهود المغاربة في السينما المغربية

يرتبط الخوض في القضايا المرتبطة بهجرة اليهود المغاربة عامة، وفي السينما خاصة، بربط ذلك بما يثبته تاريخ الوقائع والأحداث المغربية، وما تقره الجغرافيا أيضا؛ إذ لا تخلو بعض المدن المغربية من الأحياء اليهودية (المَلاّح) والمقابر (المِيعَارة) وغيرها من الشواهد الدالة على تفاعل هؤلاء الناس مع كافة أطياف الثقافة المغربية، بل هناك عادات وتقاليد يهودية ضاربة في الثقافة المغربية كشعائر الختان والزواج والحمل والولادة والحجامة.. كما أن كتابات بعض المهاجرين منهم ظلت شاهدة على أثر الثقافة المغربية في كيانهم ووجدانهم، فضلا عن إبراز منجزات بعضهم لتعدد روافد الثقافة المغربية وانصهار مختلف مكوناتها داخل بوتقة ذات أبعاد إنسانية كونية، وهو ما يدفع إلى القول إن هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل نكبة وشرخ حقيقي في تاريخ المغرب المعاصر، فمن صُدَفِ الإحصائيات أنْ تزامنَ خروجُ مائتي ألف يهودي من المغرب مع تواجد مائتي ألف جهاز راديو به! وأظن أن هذه الواقعة كافية لالتقاط الكثير من الخلاصات المرتبطة بالتحديث والعصرنة وما إلى ذلك مما يُعْنَى باهتمام هذه الأقلية من الناس بالتقنية وغيرها.

تناولت بعض الأفلام المغربية، جزئيا أو كليا، بعض إشكالات هجرة أو تهجير اليهود المغاربة إلى إسرائيل، وأبرزها الفيلم الروائي القصير “زُهر Zohar” [2012] للمخرجة أسماء المتقي، والفيلمان الروائيان الطويلان “وداعا أمهات” [2007] لمحمد اسماعيل، و”فين ماشي يا موشي؟” [2007] لحسن بنجلون، والفيلمان الوثائقيان “أرضي” [2010] لنبيل عيوش، و”تنغير – جيروزاليم” [2012] للمخرج كمال هشكار. وهناك أفلام أخرى ترسم صورة معينة لليهود المغاربة كفيلم “كنوز الأطلس” [1997] لمحمد أوملود عبازي الذي يُبْرِزُ بعض الحرف التي كان يتعاطاها اليهود في منطقة الأطلس من مثل “العَطَّار”، واسماعيل فروخي الذي تناول في فيلمه “الرجال الأحرار” [2011] بطريقته الخاصة علاقة المسلمين باليهود من خلال حادثة مسجد باريس الشهيرة. وقد أنجز المخرج جيروم كوهنأوليڤار فيلما روائيا طويلا حول مسار المغني المغربي اليهودي بوطبول سَمَّاه “أوركسترا منتصف الليل” [2015].

القفز على الحقائق

قفزت بعض الأفلام التي عالجت موضوعَ هجرةِ اليهود المغاربة على الكثير من الحقائق السوسيو- تاريخية، وعملت على تقديمها ضمن قالب إيديولوجي وديماغوجي أفرغ جُلَّهَا مما عرفه المغاربة من تعايش لا داعي للمغالاة في تبريره، سيما وأن الأفلام تنتقي لخدمة أهدافها مسارات عائلية (وداعا أمهات) وفردية (فين ماشي يا موشي؟) وجماعية (تنغير – جيروزاليم) محصورة!

هل تناول السينمائيون المغاربة هذه الموضوعات بغرض إظهار وحدة الثقافة المغربية، أم أن القضية تندرج ضمن استراتيجية عامة سرعان ما ستختفي كما اختفى الاهتمام بـ “سنوات الرصاص” مثلا؟ هل هذا الاهتمام مجرد حيلة ترمي إلى قنص مِنَحِ الدعم التي قد يجلبها تناول مثل هذه الموضوعات ذات الحساسيات والأهداف المتشابكة؟ ما المسوغات الجمالية التي ارتكزت عليها هذه الأفلام؟

إذا تجاوزنا المسألة الإنتاجية يظل الأمر مرتبطا بقيمة هذه القضية في الوجدان الجمعي للمغاربة؛ إذ يمكن أن نضع هذه الأفلام أمام سؤال بديهي يسمح بتقليب دعواها، وهو: ما الدوافع التي جعلت اليهود المغاربة يغيرون بلدا وَفَّرَ لهم الحماية والحرية الاقتصادية والحرية الدينية، ببلد آخر قام على عذابات وآلام الآخرين؟! لماذا رفضوا التعايش الذي كانوا يقبلون به في المغرب وغيروه بأسلوب التهجير هناك؟ أليس في ذلك نوع من سلخ الذات والانتقام من الماضي بطريقة لاشعورية؟!

لقطة من فيلم “وين ماشي ياموشى؟”

من الطبيعي أن تقود ملامسة موضوع كهذا إلى السقوط الحتمي في دهاليز وتلابيب القضية الفلسطينية، ومطبات الحركة الصهيونية، والأسئلة الحارقة لحقوق الإنسان، فمهما اجتهدنا على مستوى التناول الفني وعلى مستوى أَنْسَنَةِ الطروحات الفنية فلا يمكن أن نبرر همجية إسرائيل في وجه الفلسطينيين المُحَاصَرِين مهما كانت معقولية اليافطة التي نحملها، ومهما كانت كاميرتنا “محايدة”!

وهنا، تتعالى بعض الأصوات المتطلعة إلى سينما مُقَاوِمَة، وعن أفلامٍ تنتصر للحق والحقيقة التاريخية بمعناها الواقعي الملموس وليس بمعناها المتخيل المجرد. ولذلك قوبلت بعض الأفلام بالاحتجاج الضمني أو الصريح؛ إذ احتج الناس أمام قاعة العرض مطالبين بمنع عرض فيلم “تنغير – جيروزاليم” خلال المهرجان الوطني الرابع عشر بطنجة (2013).

زوايا التناول

يلاحظ أن هذه الأفلام تناولت قضية اليهود المغاربة من زوايا مختلفة:

– تسليط الضوء عليها من الداخل بغرض التأريخ وإظهار الارتباط بالجذور، كما فعلت المخرجة الرائدة إيزة جينيني التي تناولت العادات والتقاليد والفنون المغربية واليهودية، بطريقة أنطروبولوجية لا تفصلها عن سياقاتها الاجتماعية والجغرافية والتاريخية العامة.

– طرحها بطريقة معكوسة: ذهب المخرجان نبيل عيوش وكمال هشكار إلى إسرائيل، فقد حاول الأول بأسلوب ذكي لا يخلو من التباس مواجهة آراء الفلسطينيين مع نظرائهم الإسرائيليين ليكشف عن البعد الإنساني في القضية، وحاول الثاني الانطلاق من المغرب لمساءلة المهاجرين مع كشفه، أيضا بشكل ملتبس كذلك، عن البعد الإنساني، قد تنتصر الأحاسيس، ولكن التاريخ يوقظ العقل ويستفزه، فبعض المهاجرين لم يغادرهم الوطن، بل غادروه جبرا، ولم يستطع الوطن الموعود احتضان أحلامهم المجهضة، فعبروا بالغناء والبكاء والنوستالجيا!

– الاعتماد على التناول التاريخي الذي يعتمد على الشهادات التاريخية اعتمادا على وجهات نظر بعض المؤرخين كما فعل المخرج يونس لگراري في فيلمه الوثائقي “مغاربة يهود: مصائرٌ محبطة” (Marocainsjuifs, destins contrariés) [2014] وذلك انطلاقا من سؤالين مركزيين: لماذا قررت بعض المجموعات المُشَكِّلَة للشعب المغربي مغادرة بلدها الأصلي بصفة نهائية؟ ما الذي وقع خلال تواريخ مهمة من التاريخ المغربي المعاصر كي تُفْرِغَ موجاتُ هجرةٍ البلدَ من مواطنيه اليهود؟

– تناول القضية بشكل روائي يخلط الواقع بالخيال، وفي ذلك ينتعش التأويل، ويتنامى التمويه: لقد غادر اليهود المغاربة البلاد تاركين وراءهم كل شيء، مكتفين بما استطاعوا حمله من مال وزَادٍ وتراب.. فمن كان يقف وراء ذلك؟ لا تجيب هذه الأفلام عن السؤال طبعا، وكأن الحدث قد وقع من تلقاء ذاته.

تُبَيِّنُ المشَاهِد والوقائع التي أظهرتها جل أفلام هذه الفيلموغرافيا طابع الخطابات التبريرية التي قام عليها البنيان الدرامي لهذه الأعمال من قبيل: وطنية اليهود المغاربة، قابليتهم للتعايش، كانوا ضحايا الاستعمار (فيلم “وداعا أمهات”) أو ضحية المغالطات الصهيونية (فيلم “فين ماشي يا موشي؟”)، قفزت على الموضوع الأساس المتمثل في قضية البقاء في البلد، فالوطنية مرتبطة بالمكوث فيه أولا وأخيرا، والدود عنه بالغالي والنفيس، فعمق القضية يكمن في طرح الأسباب الحقيقة لتهجير اليهود المغاربة والجهات التي وقفت خلف ذلك؟ والدليل تشبت يهود عدة وطنيين بالعيش في المغرب من أمثال المرحومين أبراهام السرفاتي (1926 – 2010) وإدمون عمران المليح (1917 – 2010) وسيون أسيدون، وغيرهم.

إذا رجعنا إلى تاريخ السينما المغربية، نستنتج أن صورة اليهودي لم تكن حاضرة بالنظر إلى قِدَمِ وجود اليهود في المغرب، والذي تزامن مع قدومهم إلى شمال إفريقيا عقب ما يسمى بخراب الهيكل الأول سنة 586 ق.م، وتشير الإحصائيات إلى أن عددهم قد وصل إلى ما يناهز 250 ألف عام 1940، وهو ما يمثل نسبة 10 % من مجموع سكان البلاد آنذاك.. وكانت هذه الصورة نمطية تقتصر أكثر على بعض المهن الهامشية كالعطار والصائغ والساحر.. إذ لم تقدمهم السينما المغربية بصورة تجعلهم أكثر قربا من واقعهم ومن الطابع العقلاني البرجماتي الذي كان يميزهم من حيث الاقتصاد مثلا.

هوامش المقال:

————-

1- Jonathan Benros; Migrations Juives du  Maroc; Paris; 1963.

2– يمكن العودة إلى الكتابين الهامين التاليين:

 محمد كنبيب؛ يهود المغرب 1912-1948؛ ترجمة: إدريس بنسعيد؛ منشورات كلية الآداب بالرباط 1998.

 حاييم الزعفراني؛ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب؛ ترجمة: أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم؛ الدار البيضاء 1987.

3– لتوسيع الاطلاع في هذا المجال يمكن العودة إلى كتاب إيلي مالكا؛ العوائد العتيقة اليهودية بالمغرب: من المهد إلى اللحد؛ منشورات اتصالات سبو؛ مراكش؛ الطبعة الثالثة؛ 2013.

4-نشير إلى كتابات مويس بن عَرُّوش “Mois Benarroch” الذي وُلد سنة 1959 بمدينة تطوان وهاجر إلى إسرائيل حين بلغ 13 سنة، وهو منذ ذلك يسعى إلى فهم ما الذي حدث ولماذا؟ مثلما يسعى إلى استعادة ماضيه بالمغرب.. وهو يكتب بالعبرية والإسبانية.. من أعماله المنشورة: “أغاني المهاجر” [شعر] (1994)؛ “زاوية بتطوان” [شعر] (2000)؛ “الكتاب الآتي” [قصص قصيرة] (1997)؛ “ابن شفشاون” [رواية] (1999)…

5– جرمان عياش؛ الأقلية اليهودية في مغرب ما قبل الاستعمار؛ مجلة دار النيابة؛ العدد 12؛ السنة 1986.

6– ساهم عدة فنانين يهود في إثراء الحقل المغربي والمغاربي بأغانيهم التي يحفظها الناس عن ظهر قلب، ومنهم في المغرب سامي المغربي وزهرة الفاسية.. وفي تونس الشيخ العفريت وحبيبة مسيكة التي تناولت سيرتها التراجيدية المخرجة التونسية سلمى بكار في فيلم روائي طويل تحت عنوان: “رقصة النار” (La danse du feu) [1995].. وفي الجزائر رينيث الوهرانية وموريس المديوني.. وقد تناول بالدرس والتحقيب هذه الأغاني عدة مؤلفين منهم محمد الصقلي في كتابه: “اليهود في الغناء المغاربي والعربي“؛ منشورات اتصالات سبو؛ مراكش 2008.

Visited 64 times, 1 visit(s) today